Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 أزمة ربع العمر تقلب الحياة رأساً على عقب... ما هي أعراضها وكيف تُعالج؟

هل شعرتَ يوماً بالرّغبة في شدّ الرّحال إلى جزيرةٍ نائية قبالة ساحل "لا لن أعود إلى الوطن"؟ سام هانكوك يُميط اللثام فيما يلي عن بعض الحقائق القاتمة عن أزمات ربع العمر من أشخاصٍ عايشوها وعرفوها حقّ المعرفة.

أزمة غير معروفة يصاب بها الشباب تعرف بأزمة ربع العمر (رويترز) 

سيارة مكشوفة أو منزل في جنوب فرنسا أو قصّة شعر جديدة أو حذاء رياضيّ من أشهر الماركات العالميّة أو – لا قدّر الله – علاقة غراميّة خارج إطار الزّواج: كلّها أعراض شائعة لأزمة منتصف العمر. نميل للسخرية من فكرة هذه الأزمة لأنّها تعني نمطياً أنّ الشّخص المُصاب بها غير قادر على التأقلم مع واقع بلوغه العقد الخامس. أما الظّاهرة المجهولة نسبيّاً التّي تدخل تدريجيّاً في الوعي العام بتحفيزٍ من فهمنا المتزايد لنمو الدّماغ في مرحلة الشّباب، فهي أزمة ربع العمر. وتتّسم بعلامات مميّزة تستطيع أن تقلب حياة الشّخص المُصاب بها رأساً على عقب وتُحوّله إلى معلّم يوغا في تايلاندا أو تُغيّر مساره الوظيفي أو تدفعه إلى تعاطي المخدرات للمرة الأولى أو الانضمام حتى إلى فرقةٍ موسيقية.

وعلى غرار أزمة منتصف العمر، تُجسّد أزمة ربع العمر لحظةً محوريّة في حياة الشّخص، قل لحظةً تطغى عليها فكرة التغيير، فتأجج العواطف والأحاسيس ويتراجع في بعض الحالات في بعض الحالات حسّ المنطق لدى الشّخص ما يقنعه ربما بأنّ شراء تذكرة ذهاب إلى المعبد المُصنّف الأفضل في الهند أمرٌ معقول تماماً. أمّا الفرق بين الأزمتين، فيكمن في المرحلة العمرية التي تشهد كل منهما. فأزمة ربع العمر مثلاً، تُصيب الأشخاص بين منتصف العشرينات وأوائل الثلاثينات، أيّ في المرحلة التي لا يزال فيها الدّماغ يُحاول، بحسب الدّراسات، اكتشاف الشخص الذي أنتَ عليه، وبالتّالي مكانتك في هذا العالم.

 

وكان مصطلح أزمة ربع العمر قد ظهر للمرّة الأولى عام 2001، حين أصدرت الكاتبتان ألكسندرا روبنز وآبي ويلنر كتاباً يحمل الاسم نفسه. لكنّ الأكاديميين لم يتناولوه في بحوثهم العلميّة قبل عام 2010، كما يذكر أوليفر روبنسون، وهو متخصص نفسي في مجال تطوّر الرّاشدين ومُحاضر في علم النفس في "جامعة غرينتش".

يقول روبنسون "ركّزتُ في أطروحتي للدكتوراه على أزمة مرحلة الشباب.. ثمّ أدركتُ بأنّ الرأي العام يتعامل مع هذه الأزمة على أنّها أزمة ربع العمر، فقرّبتُ بين المفهومين"، ما استرعى اهتمام وسائل الإعلام. كانت النّقاشات حول أزمة ربع العمر آنذاك ضئيلة للغاية، ولاسيّما في أوساط الأكاديميين. كما أنّها "لم تكن مسألة معروفة تماماً. والحقيقة أنّها لا تزال كذلك إلى الآن".

وفي دراسةٍ إحصائيّة لـ"لينكد إن" شملت مايزيد على 6 آلاف شخص، تبيّن أنّ 72% من الشّباب البريطانيين مرّوا بأزمة ربع العمر و40% منهم يخوضون التّجربة حالياً. فهي كما يصفها روبنسون، "أزمة ربع العمر النّموذجية" التي تُركّز بشكلٍ خاص على عدم الرّضا عن العمل. كما تبيّن أيضاً أنّ أكثر من نصف المستهدفين في الإحصائيات لا يملكون أدنى فكرة عن الخطوة التالية في مسارهم المهني الذي يُعتبر السّبب في أزمتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت ماريا آرياس في عامها الرابع والعشرين حين استقالت من وظيفتها الأخيرة واتّخذت قرارات مهمة غيّرت معالم حياتها الشّخصيّة والمهنيّة على السّواء. فهي كانت محامية مُعتمدة وطرفاً فاعلاً رئيساً في بعض دور الأزياء العالميّة الرائدة. ومع ذلك، لم تشعر يوماً بالرّضا إزاء أيّ شيء تفعله. وتقول "كنتُ أشغل وظائف رائعة، لكنّي كنتُ أعيش حياةً فارغة تماماً. لم أشعر يوماً بأنني أقوم بعملٍ مُربح لي شخصياً. ولهذا السبب، دأبتُ إلى جانب عملي في شركة "أديداس" مع فريق "ريال مدريد" لكرة القدم، إلى إجراء أبحاث معمّقة عن العالم عموماً والبيئة خصوصاً. فكّرتُ عندها بأننّي إن لم أكن قادرة على إرضاء نفسي على المستوى المهني، فبإمكاني على الأقلّ عيش حياتي بطريقةٍ أفضل".

لم تمضِ سوى سنة حتى  افتتحت آرياس متجر "أنباكد" (unPacked)  الذي لايُخلّف أي نفايات، وهو أول حانوت من هذا النوع في مدريد. ويبيع مأكولات ومنتجات صديقة للبيئة، من دون الاستعانة بمواد بلاستيكية تُستخدم مرة واحدة، ولا حتى أكياس تسوق. وبالنّسبة إلى آرياس، "أنباكد" هو المكان الذي غيّر نظرتها للعمل ومعناه. فهي توضح "للمرّة الأولى، أرى حياتي تسير في اتجاهٍ محدد. في عملي الأخير، لم يكن بوسعي وضع أيّ أهداف أو تطلّعات نصب عينيّ. ومعلوم أنّ الأهداف تُساعد المرء على التطوّر على المستويين الشخصي والمهني؛ وهي بمثابة المُحفزّ له. أعتقد أنّ ما كنتُ أفتقر إليه هو المُحفزّ وهو ما يفتقر إليه كلّ من يشعر بأنّه رهينة عمله الذي يكرهه بكلّ جوارحه".

آرياس حالياً في السّادسة والعشرين من عمرها وتنتمي إلى مجموعة من مجموعات جيل الألفيّة التي تُعرف غالباً بـ"جيل رقائق الثّلج". وهذه التّسمية التي تُستعمل للدلالة على هشاشة الشباب في سن العشرين، راجت في أعقاب مواجهة بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في "جامعة ييل" عام 2015 اتّهم فيها الطلاب بالحساسيّة المفرطة. وترى كلوي غارلاند، وهي التي أسست "كوارتر لايف" للتدريب على الحياة، أنّ "النّظرة السّائدة التي تعتبر أزمة ربع العمر حجّة المرء للبكاء على نفسه والنّحيب" غير صحيحة على الإطلاق. وتتابع "فأزمة ربع العمر موجودة منذ عقود، لكنّها تحمل اليوم صفة خاصة بها والمجتمع يتعامل معها على هذا الأساس. وقد أذهب بعيداً إلى القول إنّ أزمة ربع العمر ليست حديثة العهد كما يُعتقد، كلّ ما في الأمر أنّ شباب هذا الجيل يتوقون إلى الإحساس بالهدف في مرحلة مبكرة مقارنةً بالأجيال التي سبقتهم". 

 

كانت هذه حتماً الحال مع آرياس التي "تُشدّد" على أنّ عمرها هو الذي حدّد خياراتها. وتقول "صحيح أنّ شعوري كان أكبر من سنّي.. لكنّني كنتُ أنتمي حينها إلى الفئة العمرية التي يُحاول أفرادها تكوين أنفسهم والشعور بالفخر – لا باليأس – بذواتهم." شعرت آرياس بشكلٍ أساسي أنّها "بلا هدف"، وشعورها هذا هو الذي جعلها تعيش "حياةً تعيسة".

من المثير للاهتمام أنّ الهدف هو واحدة من "الكلمات الطنّانة" التي تسمعها غارلاند كثيراً من عملائها، إلى جانب كلمتي الإنجاز والمعنى أو النّقص في الاثنين. وعلى حدّ تعبيرها، "يميل المرء إلى خوض مثل هذه التجربة عندما لا يتماشى إحساس الهدف لديه مع نمط الحياة التي يعيشها. والمميّز في أزمة منتصف العمر أنّها تطرق باب الشخص بعد ما يكون قد قطع مسيرةٍ مهنية وبات يفهم الحياة بشكل أفضل. أمّا أزمة ربع العمر، فتضع المرء في مواجهة موقفٍ لم يعهده من قبل، والأرجح أن يكون صعب الفهم ومخيفاً جداً."

ولأنّ مصطلح أزمة ربع العمر برز واتسع نطاق انتشاره من دون أيّ بحوث قيّمة تدعمه، لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعيّن القيام به لإثبات أهميّة هذا المصطلح. وفي هذا الصّدد، يقول روبنسون الذي يُلقّب نفسه بـ"قبطان أزمة" باعتباره قد درّس الموضوع بتعمق في سياق تحضيره شهادة الدكتوراه، إنّه غالباً ما يُشار إلى الأمراض النفسية كالاكتئاب بطريقةٍ مستهترة وغير مجدية. وهذا الأمر قد ينسحب على أزمة ربع العمر التي يُمكن أن يخطئ البعض في تقديرها ويعتربونها ناجمة عن مزاجٍ متقلّب أو يوم سيء في العمل. وويرى أن "الطريقة الوحيدة للحؤول دون تحوّل أزمة ربع العمر إلى مصطلحٍ تافه وغير ذي معنى هي في استمرار الأكاديميين أمثالي في إجراء البحوث حولها".

ويُمكن القول إنّ معاينة رونسون لأزمات ربع العمر مثيرة للاهتمام بشكلٍ خاص لأنّها تنمّ عن تجربة شخصية له معها. فهو يقول إنّ حياته "انهارت" في غضون عام"، عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، وفيما كان يعمل موظفاً في مجال أبحاث السوق ويخوض غمار "علاقة عاطفية غير مجدية" بكلّ ما للكلمة من معنى. ويضيف "لقد عشتُ معظم أيام عمري أبذل قصارى جهدي لأعيش حياةٍ تقليدية. كنتُ أطمح إلى تحقيق سعادة ونجاح يمتثلان للأعراف والتّقاليد". وحين أغلقت الشركة التي كانت يعمل لديها أبوابها وافترق عن شريكته، شعر بأنّه بات قادراً على "استكشاف نفسه من زوايا مختلفة.. أصبحتُ أكثر انفتاحاً على الخيارات البديلة. بدا الأمر وكأنني كبحت هذا الجزء منّي وقتاً طويلاً. كانت مرحلة صعبة جداً ومليئة بالعواطف"، على حدّ تعبيره.

وبعد سفره إلى الهند للاختلاء بنفسه لبعض الوقت، عاد روبنسون إلى الوطن وأنشأ فرقةً موسيقية، وانتقل للعيش في منزلٍ جديد، وبدأ بتأليف كتاب كما قرّر العودة إلى الجامعة لاستكمال دراسته من أجل نيل شهادة الدّكتوراه. ويوضح "كانت تلك الفترة بمثابة نقطة تحوّل كبيرة في حياتي التي سلكَت بالفعل اتجاهاً مختلفاً وعبَرت نفقاً صعباً للغاية.. بإلقائي نظرة على ماضيّ، أجزم أنّ ما مررتُ به هو أزمة مكبوحة أو مسكوت عنها وقد اتّخذَت نمطاً مرحليّاً يُمكن وصفه اليوم بأزمة ربع العمر".

ويُعّول روبنسون على تجاربه ومعرفته الشخصية بالأزمة لإمداد بحوثه المستمرة بالمعلومات، لكن هل هذا أمر جيّد أم أنّ البحوث تكون أكثر واقعية عندما تُنفّذ بموضوعيّة؟ ردّاً على هذا السؤال، يقول الباحث "أحيانا، يجب التريّث والتصرف بموضوعية والبقاء على مسافة من المسألة. لكن عندما تُحاول سبر أغوار ما يعتبر غير مفهوماً للآن، فثمة احتمال كبير بأن يكون الارتباط به على المستوى الشخصي أمراً مفيداً إلى حدٍّ ما".

والأهم من ذلك أنّ العمل ليس المحفّز الوحيد لأزمة ربع العمر. فالأزمة هي في الأساس، أيّ مرحلة إنتقالية تتسبّب لشابٍ راشدٍ بحالة من عدم الاستقرار العاطفي ويواجهها على امتداد عام تقريباً. ووفقاً لروبنسون، يُمكن لأي شيء، من تغيير الفئة الاجتماعية إلى الانفصال عن الشّريك، أن يكون مصحوباً بشعورٍ عميق بالحزن، وسيكون من الضروري أن يتعامل المرء مع هذا الحزن كي يتمكّن من المضي قدماً في حياته.

إليز كلارك، صانعة مجوهرات من نيويورك، كانت في الثامنة والعشرين من العمر فقط حين طلّقت زوجها الأول. لكنّ الفراق لم يكن هو التجربة التي غيّرت مجرى حياتها، إنما زواجها المتعثّر. عن موضوع طلاقها، تقول كلارك "لقد مرّ على المسألة وقتاً طويلاً (فكلارك تزوّجت في الخامسة والعشرين من عمرها وهي اليوم في الواحدة والستين). لكن حتى في أيامنا هذه، يُمكن لطلاق الشخص أن يُشعره بالفشل. كان الأمر مزعجاً جداً بالنّسبة إليّ. وللأسف، ليس الطلاق بأمرٍ يُمكن للمرء أن يفعله لوحده من دون أن يدري به أحد ، فعندما تكون متزوجاً، الجميع يعلمون بوضعك العائلي. وعلاوة على مشاكلك الخاصة، سيكون عليك أنّ تتعامل مع الإحراج ونظرة النّاس إليك".

 تغيّر الزّمن منذ كانت كلارك في العشرينات من عمرها، فالظروف تحسّنت على حدّ قولها، إذ لم يعد النّاس يتزوّجون في سنّ مبكر أو يؤسّسون عائلات خاصّة بهم تحت وطأة الضّغوط. فكلارك تزوّجت عام 1983 وتطلّقت بعد ثلاثة أعوام. وتوضح "آنذاك، شعرتُ بضغطٍ كبيرٍ من جانب أسرتي، وأعتقد أنّ هذه كانت حال الجميع.. وإلى حين إتمام عقد زواجي، كان جميع معارفي قد سبقوني إلى ذلك وأنجبوا الأطفال. وبالعودة إلى ذلك الوقت، يبدو لي الأمر جنونياً بعض الشيء لأننا كنّا جميعاً أطفال. كان عمري وقتذاك 25 عاماً فقط، لكنني أتذكر شعوري الكبير بالنّضج حينها ، أما الآن، فلا أعلم ما إذا كان الواحد منّا يبلغ قمّة النّضج يوماً". يبدو أنّ أحاسيس كلارك تُحاكي أحاسيس  النجم ميك جاغر الذي تساءل ذات مرة "ألا تعتقدون أنّه من الحكمة أحياناً ألا ننضج؟"

والذي لم يتغيّر منذئذ هو شعور الشّخص بالاحتجاز داخل أزمة ربع العمر التي تعتبرها كلارك تعريفاً لزواجها الأول. وتتذكر قائلة "قبل أن أترك المنزل الذي كنتُ أعيش فيه مع الرجل الذي كان زوجي حينذاك، كنتُ أقول لنفسي يومياً :هذه هي حياتي ولن أكون سعيدة بعد اليوم. في الوقت الحاضر، تبدو لي طريقة تفكيري تلك غاية في الدّراماتيكية لكنّها كانت منطقية للغاية في تلك الأثناء ، إذ كنتُ مضطربة ومقتنعة بأنّه لم يعد بوسعي أن أفعل شيئاً".

وتُضيف كلارك أنّ الأسابيع التي تلت تخليها عن زواجها وخروجها من البيت آخذة معها فقط قطتها وعدّتها الخاصة بصناعة المجوهرات،  كانت أفضل أيام حياتها؛ "أعتقد أنّه عندما يشعر المرء منا بالتّعاسة، يكون جزء من تعاسته مشوّهاً بعجزه عن النّظر إلى الأمام والقول بأعلى الصّوت إنّ "ما أشعر به الآن لن يدوم إلى الأبد". صدّق أو لا تصدّق، طريقة التفكير هذه هي فعلياً أحد أسباب تعاستك. فأنت تظنّ بأنّ مشاعرك الآنية ستستمرّ إلى ما لا نهاية، ولكنّها لن تستمرّ. وهذا بالضبط ما حصل معي."

أزمة منظّمة

يفيد روبنسون أنّ اقتناع الشخص بأن أزمة ربع العمر سيدوم إلى الابد ، طبيعي لأنه في حدّ ذاته ميزة أساسية لتركيبة هذه الأزمة. ويقول "للأزمات من هذا القبيل رواية، وللرواية بداية وحبكة ونهاية. والنهاية هي الجزء الأهم بينها ولا بدّ من أن تبقى في الذّاكرة على الدّوام". بكلامٍ آخر، تتأتى أزمة ربع العمر جزئيّاً عن عدم قدرة الشّخص على التسليم بأنّ المشاعر الجياشة والمستفيضة التي يعيشها ستنتهي.  ويتابع الباحث "يظهر أنّه من الصّعب على الشّخص إدراك أزمة في حينها، لكن مع مرور الوقت ستتضح الأمور كلّها.. من المحتمل جداً أن تشعر بالاكتئاب أو تظنّ بأنك تُعاني من مرضٍ عقلي أو ما شابه. لكنّك ما إن تخرج من النّفق المظلم وتعبر الجسر باتجاه ضفّة الأمان، ستقول في نفسك: آه، تلك كانت تلك مسألة فعلاً في البدء، كنتُ مستقراً نسبياً. ثم، ساءت أحوالي لبعض الوقت. والآن، انتهى كلّ شيء" .

النّقلة هي العنصر المشترك بين أزمات ربع العمر لكلّ من كلارك وروبنسون وآرياس، رغم الفوارق الواضحة بينها. أما الاقتناع بوجود نهاية للأزمة، فكان الجزء الأصعب من كلٍ من هذه التجارب، إضافة إلى توقّع الأحداث التالية. يهذا الخصوص، يقول رونسون "هنا تكمن الحاجة إلى المزيد من التمويل والأبحاث..لو أمكن لأشخاص مثلي أن يعرفوا السّبب الكامن وراء تأثّر عدد كبير من الأشخاص بأزمة ربع العمر وما الذي يُمكن فعله لمساعدتهم بشكلٍ فعال، ستزيد فرصنا بتسليح الجميع بما يلزم للتعامل مع هذه الحالة".

ممّا يبعث على القلق أنّ عدم توفّر بيانات وأبحاث كافية حول أزمة ربع العمر يعني، بحسب روبنسون، أنّ الأشخاص المُصابين بها سيغفلون عن حقيقة كونها "مرحلة نمو انتقالية" وسيعتبرونها مرضاً ذهنياً. "فهم على الأغلب سيقصدون الطبيب أو المرشد النّفسي وسُيشخصون كمصابين بمشكلة صحية نفسية إذا كانت أعراضهم تنسجم مع المعلومات المتوفرة سلفاً عن هذه الأمراض". وهذا يحتّم ، في رأيه،  وجوب "تمكين الأطباء والمعالجين من فهم" طبيعة بعض التجارب التي يمرّ بها الشباب والتي لا "تشير بأيّ شكلٍ من الأشكال إلى إصابتهم بمرضٍ عقلي أو اختلالٍ في الناقلات العصبية". ويضيف الباحث "فأحياناً، على أحدنا أن يُخطئ حتى يُحدث خرقاً ويتميّز. وأحياناً أخرى، عليه أن ينفصل عن المجتمع ليعود ويندمج فيه".

ولابد أن تحمل مرحلة النضج في طيّاتها الكثير من الأسباب والدّوافع للشعور بالتوتر أو الضّياع، لكن المهم أن يقاوم الشباب البالغون ميلهم لأن يُصبحوا " تحت رحمة العادة" حتى لا يتجاهلوا أيّ جانب من جوانب حياتهم ويكبحوا عواطفهم إلى درجة خطيرة. وفي مقابل ذلك، تبرز حاجة الحكومة والمجتمع الطبي إلى إلقاء الضوء بقدر كاف على أزمات ربع العمر وتوفير المزيد من المعلومات المتعلّقة بها.

ثمة أمثلة معروفة جداً لما يُمكن أن يؤول إليه تجاهل مشاكل النمو. وفي طليعة هذه الأمثلة، "نادي مشاهير الـ27" الذي يضمّ باقة من الشخصيات المشهورة، ومن بينهم نجوم البوب آيمي واينهاوس وجيم موريسون وجانيس جوبلين وكورت كوباين. هذا بالإضافة طبعاً إلى الممثل الطفل جوناثان برانديس، وفنان الجداريات المشهور جان-ميشال باسكيا، و"حركة صيف الحب 1967" الشهيرة التي شهدت تخلّي عدد كبير من شباب سان فرانسيسكو "الهيبين" عن مجتمعٍ متعثّر بنظرهم، وبحثهم عن العزاء في السّلام والحبّ وأكاليل الزّهور والتأمل والموسيقى والمخدرات. هل يُعقل أنّهم كانوا يمرّون بأزمة ربع عمر جماعية؟

ليس هناك من يعلم ما الذي كان سيحدث لهؤلاء لو أنّ أزمة ربع العمر كانت معروفة بشكل افضل في ذلك الوقت. لكن ما يتّفق عليه الجميع هو أنّ أزمة مرحلة الشباب بقيت لفترة طويلة مغمورة من دون أن تنال حقها من البحث والدراسة. ويرى روبنسون أن كل شيء يتوقف على ما يسميه الأساسيات، أي يجب أن يكون بوسع شخص يشعر أنه يواجه هذه الأزمة، أن يعثر على المعلومات التي من شأنها ان تساعده على اتخاذ القرار الصحيح حول الإجراءات التي يجب عليه ان يتخذها حيال المتاعب التي يعاني منها. هل يجدر بي زيارة الطّبيب؟ هل اتّصل بجهة توفر المساعدة؟ من هو أفضل شخص للتحدّث معه بشأن مخاوفي؟

ويضيف روبنسون"لا تزال كلّ هذه الأسئلة من دون إجابات، لكنّها لا ينبغي أن تبقى هكذا. علينا مساعدة الناس على فهم المنطق من الفترة العصبيّة التي يمرّون بها". إلا انه ليس متأكدا ما هي القناة التي يجب أن تُوفر عبرها هذه المساعدة، فهل يمكن أن تكون صفحة "حالات" على موقع "خدمة الصّحة الوطنية" أوتغطية إعلامية واسعة حول الخدمات ذات العلاقة التي يُقدّمها "كوارتر لايف" لمؤسسته غارلاند؟ ويزيد "لكن ما أعلمه جيداً هو أن المعلومات ستتوفر. وما لم تكن في متناول الجميع، لن يكون بوسع أيّ كان التأكّد أنه في حاجة لإلتماس المساعدة".

ليس التّغيير أمراً سيئاً على الدّوام

صحيح أنّ الصّورة العامة لغياب التمويل والأبحاث عن أزمة ربع العمر قاتمة، إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنه لا بدّ للتجربة ككلّ أن تكون قاتمة كذلك. المهم، حسب نصيحة روبنسون "هو الانفتاح. إيّاك أن تخشى التغيير. فبحكم خبرتي، أزمة ربع العمر هي فرصة لا تُعوّض للتغيير، وعلى الجميع أن يغتنموا هذه الفرصة".

هذه النّصيحة بالذّات تعنيني. فأزمة ربع العمر مسّتني كما مسّت روبنسون من قبلي. كيف؟ حين بدأت شقيقتي إيما العام الماضي تعود من عملها غاضبة وغارقة بالدّموع، لم أفكّر بالأمر كثيراً. افترضتُ بأنّها ترزح تحت ثقل ضغوطٍ آنية لا بدّ من أن تتخطاهاـ وتضحك لها الدّنيا من جديد. كثيراً ما كنتُ أتحدّث إليها وأُسدي إليها ما تيسّر لي من النصح والإرشاد. وبالنسبة إلى كلّ من كان يعرفني ويسكن معنا في المنزل نفسه، كانت إيما بخير. كلّ ما في الأمر أنّها تحوّلت إلى شخصٍ آخر نعرفه لا يحبّ وظيفته.

وعندما أمست الأيام السّيئة أسابيع، والأسابيع شهور، والشهور سنة، اتّضح للجميع بأنّ عمل إيما لم يكن السّبب في تعاستها وأنّها كانت غير سعيدة في جوانب عديدة من حياتها. عن تلك الفترة تقول "شعرتُ بأنّني أغرق..كنتُ مقتنعة بأنني أعاني من الكآبة وأنّ التّعاسة ستُظلّل حياتي حتى النّهاية. بتُّ أعلم الآن أنّ هذه لم تكن الحقيقة، لكنني لم أكن كذلك آنذاك".

ولمّا بلغت إيما سن السّادسة والعشرين، قرّرت أنّ الكيل قد طفح. فاستقالت من وظيفتها من دون أن يكون لديها أدنى فكرة عمّا ينتظرها أو عمّا ستقوم به في المرحلة القادمة. ووقع عليها الاختيار للمشاركة في "ماراتون لندن" وجمع التبرّعات لجمعيّةٍ خيريّة من اختيارها (وبالفعل، شاركت في الماراتون وركضت لمدة 4 ساعات و40 دقيقة). من ناحية ثانية، بدأت تزاول عملاً جديداً في شركة كانت تؤمن جداً بأهدافها وموضوعها، والأهم من ذلك أنّ الشركة آمنت بقدرات إيما.

حسناً إذن، يُمكنني القول إنّ روبنسون لم يكن مخطئاً: ليس التّغيير شيئاً سيئاً على الدّوام. لكن حتى يُدرك النّاس في نهاية الأمر هذه الحقيقة، من الضّروري أن يعرفوا ما هي أزمة ربع العمر و وأن يكونوا متأكدين من ضرورة االتعامل معها بمنتهى الجدية، فه تتعلق بالحياة نفسها، كما يدل الشطر الأخير من اسمها.

إذا كنت تظنّ بأنّك تعاني من أزمة ربع العمر، يمكنك الحصول على معلومات إضافيّة عنها على موقع أوليفر روبنسون الخاص. كما يمكنك ترتيب جلسة علاج سلوكيّ معرفيّ عبر عيادة "سي بي تي لندن" أو الاتصال بالسّيدة كلوي غارلاند لتدبير زيارة استشارية مجانية في "كوارتر لايف".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات