Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب متواصلة في رأس الجزائري!

ينحت لنفسه مفهوماً خاصاً للانتصار وللهزيمة وللعدو وللصديق

لا يعاني الجزائري أي عقدة تجاه فرنسا الاستعمارية وهناك حرب تحريرية وقعت كان فيها منتصر هي الجزائر وفيها مهزوم هي فرنسا (أ ف ب)

 

ملخص

هناك تركيبة معقدة يتميز بها #الجزائري وبها يختلف عن بقية شعوب منطقة #شمال_أفريقيا #والعالم_العربي

لماذا يعيش الجزائري حالاً من الحرب المتواصلة في رأسه؟  

حين أتأمل وأحاول أن أفكك مقفلات شخصية الإنسان الجزائري، على مدى نصف القرن الأخير، وبالضبط منذ الاستقلال عام 1962 إلى الآن، أجده، وهذا الحكم ليس تعميماً ولكنها خصوصية من الخصوصيات الطاغية على سلوكه اليومي، أجده، إنساناً بسيطاً وعفوياً، قريباً من منظومة التفكير البدوي، يتعامل مع المحيط الاجتماعي والسياسي والديني واللغوي الذي يحيط به بكثير من الحماسة والاندفاع اللذين يجعلان المصلحة "الجماعية الاقتصادية" في درجة ثانية مقدماً عليها المصلحة "الأخلاقية" بحمولة عاطفية وأهواء ومزاج موسمي عابر.

بهذا المنظور الساذج ينحت الجزائري لنفسه مفهوماً خاصاً للانتصار وللهزيمة وللعدو وللصديق.

هناك تركيبة معقدة يتميز بها الجزائري وبها يختلف عن بقية شعوب منطقة شمال أفريقيا والعالم العربي، وهي حال سوسيونفسية تتميز بنوع من زيادة في منسوب العصبية وجرعة الغضب الزائدة والحماسة التي تغطي في معظم الوقت على الهدوء والتفكير والتأمل.

من أين حصد الجزائري بشكل عام مثل هذه الثقافة وهذا السلوك وكيف راكم ذلك؟

بدءاً، علينا ألا نسقط في التعميم، ومن هنا وجب التنبيه إلى أن سلّم قيم ثقافة "الفروسية والحماسة والعفوية والسذاجة والبداوة" التي تلتصق بشخصية الجزائري حتى نهاية القرن الماضي تتراجع يوماً بعد يوم لدى الجيل الجديد الذي يعيش منفتحاً ومفتوحاً على العالم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، ومع ذلك فالظاهرة، وبشكل عام، لا تزال مسبباتها قائمة وجذورها عميقة ومركزة أيديولوجياً ودينياً ونفسياً وتربوياً.

منذ استقلال الجزائر في الخامس من يوليو (تموز) 1962، وذلك بعد حرب تحريرية طاحنة وحادة وعظيمة ومشرفة، والجزائري يعيش جيلاً بعد جيل غارقاً في ثقافة "الحرب"، في خطاب "حربي" متواصل، كل شيء من حوله يتم تفسيره بحرب التحرير، وكل شيء يقاس على حرب التحرير، وكل مجد فردي أو جماعي أسري أو جمعي يربط بمجد حرب التحرير، وكل شجاعة فردية أو جماعية أو وطنية تقاس بشجاعة مجاهدي حرب التحرير، وكل الاختيارات تقام على مرجعية ثورة التحرير.

صحيح، ولا يختلف في ذلك اثنان، إن آباءنا وأجدادنا قاموا بما قام به آباء وأجداد من دور حاسم وثوري وشريف وتحرري ضد الاستعماري الهمجي وهو أيضاً الدور الذي قام به آباء وأجداد الآخرين في دول أخرى في الشمال، في البلدان الأوروبية مثلاً وهم يخوضون حرباً شرسة ضد النازية، حرباً خلفت أكثر من 80 مليون نسمة، لكن الأحفاد والأبناء هناك في الشمال استطاعوا أن يتجاوزوا مربع ثقافة "الحرب ضد النازية" إلى منطقة الحرب ضد التخلف ومن أجل التنمية والذكاء والمصالح المشتركة، حتى بين أعداء البارحة، كما هي الحال بين ألمانيا وفرنسا، وبين فرنسا وإنجلترا...

إن الجزائري محاصر داخل مربع أيديولوجيا الحرب من جهات مختلفة ومتعددة، يحدث هذا الحصار انطلاقاً من مقاعد المدرسة، فالبرامج التعليمية تكرس صورة الحرب بشكل واع أو غير واع في مخيال الأجيال الصاعدة المتلاحقة، أكثر مما تكرس ثقافة السلام والسلم والعيش المشترك.

قيم السلم والسلام والعيش المشترك ليست معادلة لقيم التنازل أو الاستسلام أو التخاذل، فثقافة السلم والدفاع عن قيم العيش المشترك هي ذكاء وفطنة وقوة تاريخية كبيرة، قلّ من يحسن الاستثمار فيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فالطفل الجزائري يعيش منذ السنة الأولى في خضم نصوص غارقة في الحرب، نصوص مليئة بالدم، وعلى رغم شرعية هذه الحرب التحريرية، إلا أن هذه الشرعية تتحول للأسف إلى حال تقدم الحروب وكأنها الطريق الوحيد والصالح والمفضل لحل المشكلات العالمية والإقليمية المعقدة الراهنة.

من دون شك، هذا الخطاب المحتفل بالحرب يراد منه، عن وعي أو لا وعي، تعليم التاريخ للأجيال الصاعدة، تعليم حب الوطن للأجيال الصاعدة، وهو موقف إيجابي ما في ذلك شك، وواجب ما في ذلك شك أيضاً، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يكون مرافقاً لنصوص تعلم الطفل العيش مع الآخر، تعلم الطفل محبة السلام، محبة المختلف، فكرة التجاوز، فكرة الأجيال وأسبقياتها، فكرة التسامح، تعلم الطفل كيفية البحث عن مستقبل مشترك لا يمكن أن يتأسس إلا بمد الجسور نحو الجميع، حتى لو كان عدو البارحة المهزوم.

لا يعاني الجزائري أي عقدة تجاه فرنسا الاستعمارية، فهناك حرب تحريرية وقعت كان فيها منتصر هي الجزائر وفيها مهزوم هي فرنسا.

فالجزائر لا تبحث عن علاقة مع عدو هزمها، بل مع عدو هزمته، إذاً، من منطلق سيكولوجي، فالمنتصر أي الجزائر وثورتها لا يحمل أي عقدة نقص تجاه فرنسا، باعتبار أنها خرجت منتصرة انتصاراً بديعاً، كبيراً، لذا فالتركيز على الحرب والعيش فيها لا يسمح بإنتاج مواطن قادر على التعايش في مرحلة كالتي نعيشها الآن حيث الجيل الجديد يبحث عن قيم جديدة تدفه إلى العيش والعمل المشترك مع الجميع.

علينا التخلص من ذاكرة أيديولوجيا الحرب والذهاب لتأسيس جاد وواع لثقافة السلم والتعايش وتبادل المصالح.

وأنت تقرأ أو تسمع بعض الخطابات السياسية أو الأدبية أو الإعلامية، تشعر وكأن الجزائري الجديد يعيش في حال حرب متواصلة، كأن الحرب التي خاضها أجداده وآباؤه ببسالة وشرف البارحة لا يزال يمضغها، ويعيش حروباً أخرى بالوكالة التي تجري من حوله.

أشعر وكأن الجزائري الجديد، وهو محاصر بهذه الخطابات ومدجج بها يعبر أيامه في حال تشبه حال الـ "فارس" أو الـ "جندي" أو الـ "كاميكاز" وليس كمواطن عليه أن يصارع التخلف والجهل ويحلم بإقامة الجميل والنافع والبناء والعمران.

الإعلام ورطة أخرى

الكتابة الإعلامية الصحافية عن التاريخ المجيد شيء وشحن النفسية بقيم الحرب شيء آخر، لذلك يبدو لي أن المشهد الإعلامي الجزائري أسهم وبشكل كبير، ولا يزال، في تشكيل نفسية "الجزائري المحارب" في زمن يفارض أن يكون زمن السلم، "الجزائري المحارب" حتى في ساحة يفترض أنها ليست ساحة القتال، وكان بالإمكان للإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، وهذا هو المطلوب والمرجو، أن يكون صانع "عقل السلام" وصانع "مخيال السلم" لكن "الدوباج" الأيديولوجي والحصار المتواصل جعلا كل شيء يصب في اتجاه "التأجيج" الأيديولوجي وليس "السلم" والعمران والاقتصاد.

إننا بحاجة إلى إعلام يبني مواطناً جديداً داخل قيم أيديولوجيا السلام والسلم لينتقل هذا المواطن من حال التفكير الانفعالي الحماسي القتالي إلى حال من التفكير بالعقل والتدبير والتحليل لصناعة مستقبل جديد كل المفاهيم فيه معرضة للتغيير الجغرافيا والزمن والمسافة والصديق.

الأحزاب جمرة توقد رماد الحرب

كل حزب في الجزائر، مهما كان لونه الأيديولوجي، وطنياً كان أو إسلامياً أو ليبراليا، يريد أن يزايد على الآخر من خلال خطابات وتصريحات بعض قادته من الصف الأول أو الثاني تدعي فيها الدفاع عن التاريخ أو عن الذاكرة، كل حزب يريد أن يقول إن "ديكه" هو الأكثر صياحاً في "الحي"، وهي في خلاصة القول خطابات في معظمها تكرس فكرة تثمير أيديولوجيا "الحرب" وتتناسى أو تخاف من الدفاع عن فكرة "السلام" لأنها تعرف أن الدفاع عن السلام هو أكثر شجاعة من الدفاع عن الحرب وصناعة الموت.

من السهل الدفاع عن الماضي لأنه مضى مهما كان الشكل والمضمون اللذين مضى عليهما، ولكن من الصعب الدفاع عن السلام والعيش المشترك لأنهما يقومان على بناء طريق للمستقبل، طريق يتطلب تشييده كثيراً من الحنكة والذكاء والعبقرية البراغماتية.

ما يكرس فكرة تثمير أيديولوجيا الحرب في الذهنية الشعبية الجزائرية البسيطة هي تلك الجرعة الزائدة في القومية التي يتجرعها المواطن يومياً، عبر الخطابات السياسية والثقافية والدينية والإعلامية، حتى ليبدو الجزائري أكثر عروبة من أي عربي، وأمازيغياً أكثر أمازيغية من أي أمازيغي، وفرنكوفونياً أكثر فرنكوفونية من أي فرنكفوني في العالم، وأفريقياً أكثر أفريقية من أي أفريقي، وهذه الحال من التطرف والاصطفاف الأيديولوجي الإثني تنمي حال "سيكولوجيا المقاومة" الوهمية عند الجزائري، وتجعل المجتمع مفتوحاً على "حروب" متعددة لغوية وثقافية وجهوية لا تنتهي.

لا شك في أن الفرد كما المجتمع يحتاج إلى جرعة من المقدس في الفضاء العام وأيضاً في الذات الفردية وهي تواجه أسئلة الوجود الغامضة، إذ لا يمكن تصور مجتمع من دون مقدس ديني أو وطني وغيرهما، إلا أن العقيدة المؤدلجة أو ما اصطلح عليه باسم الدين السياسي أخرج المواطن المؤمن البسيط من حال تأمل الخير في الأنا وفي الآخر إلى حال "الحرب" التي وقودها كراهية هذا الآخر المختلف ديناً ولغة وثقافة وهوية، والتفكير في غزوه، في ظل هذا الوضع، تم ترحيل فكرة "الحرب" بمفهوميها "الغزو" أو "الفتح" من الزمن الإسلامي الأول إلى يومنا هذا وغرسها في رأس المواطن المعاصر البسيط بما تثيره لديه من شهية السبي والغنائم، يحدث ذلك في ظل عالم غير عادل، عالم غني وآخر فقير.

وفي ظل هذا الواقع المعقد الثقافي والسياسي والديني والهوياتي، تشكلت لدينا شخصية جزائري تتميز بشكل عام بالتطرف والمبالغة كخبز يومي في كل شيء وفي اللاشيء، فهو يبالغ إذا صلى إذ يراقب غيره بدل أن يتوجه إلى الله عز وجل، ويصوم بحس رجولي لا بحس ديني، ويدافع عن اللغة بحس المقاتل لا بحس المثقف المبدع والمفكر المحجاج ويساند فريقه لكرة القدم وهو على أرضية الملعب كما يساند الجنود في ساحة معركة مفتوحة، وإذا أحب يحب بحس الامتلاك وبفكرة الغالب والمغلوب لا بحس المقاسمة والمعاشرة مع المعشوق، بهذا، فالجزائري، بشكل عام، هناك استثناءات بطبيعة الحال، يعيش التاريخ والدين والحب والمنافسات الرياضية واللغة والوطنية وهو في حال تشبه حال الحرب التي تدور في رأسه، حرب إذا لم يجد له فيها عدواً فإنه يخلقه خلقاً.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء