Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مجمّعٌ هرمي الشكل هائل من الرّخام فوق جزيرة ينبعث من البحر، كاشفا أسرار أصول الإغريق الأوائل

خاص: السّتارة تُرفع أخيراً عن تاريخ الجزر الإيجيّة الذي يعود إلى آلاف السّنين، عساها تأتي للعالم بمعلومات جديدة ورائدة عن الحضارات القديمة.

جُزيرة على شكل قمة جبليّة قبالة جزيرة كيروس في بحر إيجة (مشروع كيروس في جامعة كامبريدج)

علماء الآثار يكتشفون للمرّة الأولى الأصول المحتملة لبلاد اليونان القديمة. فعمليات التّنقيب التي يقومون بها على جزيرةٍ صغيرة في بحر إيجة – على مسافة 201 كلم تقريباً جنوب شرق أثينا – تُفصح عن قصّة أوّل مجمّع مباني ضخم يتمّ نبشه في أي مكان في العالم اليوناني.

ومن المحتمل أن يكون الموقع الذي يعود تاريخه إلى 4600 سنة، تجسيداً مهمّاً للأفكار التي يربو عليها جانب جوهري من الديانة اليونانية والتي تعتبر قمم الجبال أماكن السّكن الدنيونيّة للآلهة.

وها المجمّع – القائم على جُزيرة على شكل قمة جبليّة، قبالة جزيرة كيروس في بحر إيجة (إحدى جزر أرخبيل كيكلاديس) - يقلب علماء الآثار رأساً على عقب ويُغيّر نظرتهم لليونان قبل التاريخ.

لغاية اليوم، لا يزال الحجم الحقيقيّ للمجمّع غير معروف – ناهيك عن الجهود الجبّارة التي بُذلت من أجل تشييده. لكنّ علماء الآثار يعتقدون اعتقاداً شديداً أنّه، ومن أجل بناء المجمّع إياه، كان على اليونانيين في بداية العصر البرونزي خوض غمار ما لا يقلّ عن 3500 رحلة عبر البحر لنقل بين 7 آلاف و10 آلاف طن من الرّخام الأبيض اللمّاع من جزيرة إيجيّة إلى أخرى.

وكانت كلّ رحلة كاملة من هذه الرّحلات تستلزم 24 فرداً تقريباً من أفراد الطاقم لتجديف السّفينة زهاء خمس ساعات.

برأي الدّكتور جوليان وايترايت، أحد كبار علماء الآثار البحريّة في "جامعة ساوثهامبتون" (University of Southampton)، هذه الرّحلات "هي أضخم عمليّة نقل بحريّ نُفذّت في حقبة ما قبل التاريخ وخرجت إلى النّور في أيّ مكان في العالم. إنّها في الحقيقة، دليل واضح على أهميّة الملاحة البحريّة ودورها في الحضارة الإيجية في بداية العصر البرونزي."

وبفضل هذه الرّحلات – التي اجتازت مسافة إجمالية ناهزت الـ72420 كلم – تمكّن المهندسون من تشييد ما يُرجّح بأنه كان معبداً دينياً ضخماً من 60 مبنىً رخاميّاً يتلألأ تحت ضوء الشّمس. وتمكّنوا كذلك من "إعادة تشكيل" "الجُبيل" أو الجزيرة الهرميّة الشّكل التي عُرفت في القرون الأخيرة بجزيرة داسكاليو (ومعناها "الجزيرة الصّغيرة")، بغية تحويل منحدراتها الشديدة إلى آلاف الأمتار من المدرّجات الصّناعية وتقسيمها إلى ستّ "مصاطب".

يبدو أنّ هذه المدرّجات التي تمتّد على نحو ستة أمتار بُنيت خصيصاً لاستيعاب كلّ المباني. وبالنّسبة إلى القمّة بحد ذاتها، فلم تكن موجودة في الأساس، وقد استُعيض عنها ربما بمنطقة مقدّسة مكشوفة وصغيرة استُخدمت على الأرجح لإيداع القرابين.

وفي هذا الصّدد، علّق مايكل بويد، المدير المساعد للمشروع من’معهد ماكدونالد للأبحاث الأثريّة‘ التّابع لـجامعة كامبريدج قائلاً: "تحقيقاتنا هذه غيّرت فهمنا للتراث الكيكلادي الذي يعود إلى بداية العصر البرونزي وبيّنت لنا أنّ اليونانيين القدماء كانوا أكثر تقدماً من النّواحي التنظيمية والتقنيّة والسياسية ممّا كان يُعتقد سابقاً."

فهذه هي المرّة الأولى التي يُعثر فيها على مثل هذا المجمّع الضّخم لعصور ما قبل التاريخ في اليونان أو جوارها.

وعلى الرّغم من أنّ التحقيقات الأثرية حول داسكاليو جارية على قدمٍ وساق منذ حوالى أربع سنوات، فإن التدقيق المفصّل بالبيانات المستخلصة على امتداد الأشهر الاثني عشر الفائتة هو الذي أماط اللثام عن الحجم الحقيقي للمجمّع ولوجيستيات النقل وأعمال البناء ذات الصلة.

لكنّ طبيعة الموقع المميّزة تُحاكي مجموعة من التقاليد المعمارية الأثرية واسعة الانتشار في أوروبا الغربيّة والشرق الأوسط. والمحير للأذهان هو أنّ الموقع قد شُيّد في غضون 100 عام أو نحو ذلك من نشوء ستونهِنج وأولى الأهرامات المصرية والمدن العظيمة في وادي السنّد وأولى ممالك بلاد ما بين النهرين.

وفي الإطار الأوسع نطاقاً، يظهر بوضوح أنّ داسكاليو كانت جزءاً من ظاهرة سياسيّة وثقافيّة أكثر شموليّة تضمّ مشاريع سياسيّة وإنشائية طموحة للغاية. ويكاد يكون من المؤكّد أنّ هذه التّقاليد المأخوذة من مصر وبلاد ما بين النّهرين ووادي السّند وأوروبا الغربيّة لا ترتبط ارتباطاً مباشراً ببعضها البعض – وتتأتى ربما عن حوافز مشتركة ألا وهي تطوّر المعادن وزيادة كثافة استخدامها، وما استتبعهما من تغيّرات سياسيّة وثقافيّة وتجاريّة.

وما يُضاهي ذلك في الأهمية هو أنّ التحقيقات بشأن داسكاليو خالفت المعتقدات السابقة وأثبتت أنّ اليونان كانت جزءاً لا يتجزأ من تلك الظاهرة الشاملة. وصحيح أنّ المباني الفرديّة في داسكاليو لم تكن ضخمة بحدّ ذاتها، إلا أنّ المجمّع برمّته كان كذلك من دون منازع.

وبالنّسبة إلى أحجار الرّخام البيضاء التي كانت ضروريّة للمشروع وتراوحت كميّتها بين 7 آلاف و10 آلاف طن، فقد استُخرجت من الجانب الجنوبي الشرقي لجزيرة ناكسوس الكبيرة التي تقع على بعد  10.4 كلم تقريباً جنوب غرب داسكاليو. وبناءً عليه، يُمكن القول إنّ الرحلة الكاملة بين ناكسوس وداسكاليو كانت بحدود 20 كلم.

وبالنّظر إلى صور قوارب كيكلاديس الإيجيّة التي لا تزال موجودة إلى اليوم، يتّضح لعلماء الآثار أنّ كلّ قارب من هذه القوارب كان بطول 10-15 متراً وكان قادراً على نقل ما بين طن واحد أو اثنين من الحمولة. لذا كان على مهندسي المشروع الإيجيّ أن يُحوّلوا سفح الجبل إلى مدرّجات من شأنها أن تستوعب عشرات المباني من الرّخام الأبيض - التي يتألّف بعضها من طابقين ويصل ارتفاع بعضها إلى 10 أمتار.

ولأنّ المجمّع بأكمله قد شُيّد وفقاً لمخططٍ محدد يشمل مجموعة مباني موحّدة التّصميم، ثمّة اعتقاد غالب أنّ العمل على المعبد الجُزري قد استُكمل خلال فترةٍ زمنيّةٍ قصيرة تتراوح بين 20 و40 عاماً.

أما وجود المعبد - والتنظيم المستمرّ والكبير للعمالة والنقليات الذي أسهم في بنائه - فيؤكد بشدّة على أنّ المشروع لم يكن ليُنفّذ ويُستكمل لولا وجود كيان سياسي مستقر وقويّ، لربما في كيروس أو ناكسوس.

من الجنوب، كانت رؤية الجزيرة ممكنة من على بعد كيلومترات عدّة، حيث كانت تبدو للناظر إليها جُبيلاً هرميّ الشكل، أبيض اللون، برّاقاً، يقف على عرش البحر.

من غير الأكيد بعد ما إذا كان الشّكل الهرميّ ذا مغزى بأيّ حال من الأحوال. لكن الأكيد أنّ المجمّع قد اختير بدقّة وعناية ليكون موقعاً دينياً متفوّقاً على جبال أخرى أعلى وأروع وأيسر منالاً، لا تملك الشكل إياه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والأهم من ذلك أنّ الأشكال الهرميّة في تلك الحقبة بالذات، كانت تُعتبر مقدّسة في المنطقة الواقعة على بعد 804 كلم فقط جنوب شرق مصر القديمة (وفي هذه المرحلة بالتحديد بدأت أولى علامات التأثير المصري بالظهور على جزيرة كريت المجاورة).

في مصر القديمة، كانت الأشكال الهرميّة مقرونة بأحد آلهة الخلق ويُدعى "آتوم". وبحسب المعتقدات السّائدة حينها، كان الإله آتوم يُقيم داخل صخرةٍ هرميّة تُسمّى ("تاج الهرم" أو حجر "البن بن").

وهذا الحجر هو رمز "التل الأزلي" الأسطوري، قل أوّل يابسة ظهرت على صفحة المياه وسط "بحرٍ من الفوضى الكونيّة والخواء" وقت إنشاء العالم، في إطار قصةٍ شبيهة إلى حدٍّ كبير بقصة الخلق التي ترد في التوراة.

والحجر الهرميّ كذلك، رمزٌ للمكان المقدّس حيث سطعت أشعة الشمس الأولى على التل الأزلي عند تكوين الخليقة – والشكل الهرمي للتاج (أو التلّ الأزلي المثالي) فاعتُبر دلالةً على أشعة الشمس المائلة أثناء سقوطها على الأرض.

بالفعل، كان المصريون القدماء يُغطّون "قمم الأهرامات" الرمزيّة بورقة من ذهب حتى تلمع وتتلألأ تحت الشمس (ولعلّ ذلك للأسباب نفسها أو لأسباب شبيهة بتلك التي كلّفت مهندسي داسكاليو عناء الحرص على تألّق المعبد الجزري الهرمي الشكل وتلألئه بنفس الطّريقة تحت أشعة الشمس).

وكان لشعب بلاد ما بين النهرين وسواه من الشعوب أساطير مماثلة عن نشأة العالم من تلّة أزليّة طفَت على صفحة المياه وسط بحرٍ من الفوضى الكونيّة والخواء – والمعلوم أنّ ظهور داسكاليو فوق سطح البحر هو النسخة الكيكليدية للمفاهيم الكونيّة المقدسة الأوسع نطاقاً.

في بدايات العالم اليوناني، يُرجّح أن يكون مفهوم الجبل المقدّس قد استُقدم من داسكاليو إلى كريت ومن هناك ربما إلى برّ اليونان الرّئيسي.

وممّا لا شك فيه أنّ الجبال المقدّسة (التي تتخذ أحياناً شكل هرمٍ مميّز) في كريت تتركّز بشكلٍ أساسي في منطقة لها صلة مباشرة بالمستوطنين الذين قدموا من جزر كيكلادس في بداية العصر البرونزي.

ويظهر أنّ الجبال المقدّسة والمعابد الدينية في أعالي جبال كريت سبقَت بروز جبل الأولمب في برّ اليونان الرّئيسي كمهد أساسي للآلهة اليونانيّة القديمة.

من النّاحية الدينية والسياسية ربما، يبدو أنّ داسكاليو لعبت دوراً مهماً إلى حدّ غير متوقّع أثناء التّطوّر الثقافي الأولي للعالم اليوناني.

"الأرجح أنّها كانت منشأً حيوياً لظاهرة الجبال المقدّسة في العالم اليوناني"، على حدّ تعبير الدّكتور آلن بيتفيلد، وهو خبير عالمي متخصص في المعابد الجبليّة اليونانية في ’كلية علم الآثار‘ التابعة لـجامعة دبلن.

وبالعودة إلى التّحقيقات الأثرية التي تجري حالياً على الجزيرة الصغيرة بدعمٍ من وزارة الثقافة اليونانية وبتمويلٍ من ’معهد إيجة ما قبل التاريخ‘ الكائن في الولايات المتحدة و’مؤسسة آي.جاي. ليفينتيس‘ الكائنة في قبرص و’مؤسسة ستافروس نياركوس‘ الكائنة في أثينا، فيضطلع بها علماء آثار من بريطانيا واليونان وألمانيا وفرنسا وأستراليا والولايات المتحدة وست دول أخرى.

والمعلوم أنّها تتلقّى مساعدات كبيرة من ’الكلية البريطانية في أثينا‘ المموّلة من الأكاديمية البريطانية و’معهد قبرص‘ المموّل دولياً. أما عمليات التّنقيب وتحليل الاكتشافات، فتتم بتوجيه من عالمي الآثار البريطانيين، البروفسور كولين رينفرو ومايكل بويد من ’معهد ماكدونالد للآثار‘ التابع لـجامعة كامبريدج.

وفي الوقت الراهن، يجري التحقيق بشكلٍ موسّع في الاكتشافات التي عُثر عليها في داسكاليو.

ولعلّ أبرز هذه الاكتشافات 1500 قرص حجريّ مستورد (كلّ قرص بقطر يتراوح بين 8 و50 سنتم) – و700 حصاة بيضاء مستوردة أيضاً. والأرجح أنّها استُخدمت في تلك الحقبة من التاريخ كقرابين دينية للروح أو للإله الخاص بالجبل الصغير.

وفيما كانت الأقراص تُستقدم من جزر مختلفة في أرخبيل كيكلاديس، كانت الحصى تُستورد حصرياً من جزيرة كوفونيسيا المجاورة التي تقع على مسافة 4.8 كلم شمالي غرب داسكاليو.

والواضح جداً أنّ هذه الممارسة القائمة على استخدام الأقراص الحجرية وتقديم الحصى كقرابين، مأخوذة عن الكيكلاديين الذين استوطنوا كريت وعمّموها في المواقع الجبلية المقدسة.

وفي الوقت الراهن أيضاً، يدأب علماء الآثار على فحص 36 تمثالاً رخاميّاً صغيراً وكاملاً من داسكاليو – وعلى التدقيق في دليلٍ مفاده أنّ عدداً كبيراً من الخناجر والرّماح والفؤوس وسواها من الأدوات النّحاسيّة صُنعت على الجزيرة المقدّسة (لتكون بمثابة تعويذات سحريّة تُعطى إلى الحجّاج ليعودوا بها إلى منازلهم).

وهناك، على بعد 100 متر فقط من الجزيرة المقدّسة، عند أقصى الطّرف الغربي لجزيرة كيروس، أَودع الحجّاج في بداية العصر البرونزي أكثر من ألف تمثال رخاميّ مكسور (بمعظمها لنساء بأشكال رمزية) كقرابين. وكانت هذه التماثيل مُستقدمة بدورها من أنحاء أرخبيل كيكلاديس.

وإلى جانب هذه التّماثيل، شملت قرابين الحجّاج آلاف النّصال وغيرها من الأدوات المُصنّعة في موقع الإيداع أو على مقربة منه باستخدام السّبج (أي الزجاج البركاني الطبيعي) المستورد بشكلٍ أساسيّ من جزيرة ميلوس الكيكلاديّة.

اليوم، داسكاليو هي جزيرة صغيرة – لكن في بداية العصر البرونزي، كانت موصولة بموقع الإيداع هذا في كيروس بواسطة جسر رمليّ طبيعي. ويُعتقد أنها كانت فائقة التقديس بحيث لا يسَع الحجاج العاديون أن يطأوها – ولا بدّ لهم من أن يتركوا قرابينهم على حافة الجسر حتى تأتي روح الجزيرة وتأخذها.

وبناءً على كلّ ما تقدّم، تظهر حاجة ملحّة لإجراء مزيد من الأبحاث ومساعدة الخبراء في تحديد الدور الذي لعبته داسكاليو في المراحل الأولى من تاريخ اليونان والرّمز الذي كانت تُجسّده.

لكن ما إذا كانت الجزيرة الهرمية مجرّد معبدٍ ديني ضخم أو رمزاً لبروز أول كتلة يابسة من أعماق المياه في وقت إنشاء العالم، فقد يظل أمراً مجهولاً.

على الرّغم من إقفال داسكاليو وكيروس أمام الزائرين، فإنّ أوّل معرض عالمي للاكتشافات الأثرية الأخيرة في المعبد الجزريّ القديم سيُقام على جزيرة كوفونوسي المجاورة خلال الفترة الممتدة بين 14 يوليو (تموز) و30 سبتمبر (أيلول).

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من علوم