Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تغريبة" وليد سيف عندما تنتقل من الدراما إلى الرواية

استرجاع تاريخي للنكبة في مرويات الأفراد والجماعات الشعبية

من دراما "التغريبة الفلسطينية" التي حولها كاتبها وليد سيف إلى رواية (ملف المسلسل) 

ملخص

اللافت في حالة الشاعر وكاتب الدراما التلفزيونية #الفلسطيني – الأردني #وليد_سيف هو أنه قام خلال السنوات الخمس الأخيرة بتحويل معظم ما كتبه من دراما تلفزيونية إلى أعمال #روائية مطبوعة.

المألوف في العالم الثقافي أن يقوم الكاتب أو شخص آخر متخصص في كتابة الدراما أو السيناريو السينمائي بتحويل عمله الروائي إلى فيلم سينمائي أو دراما تلفزيونية أو عمل مسرحي يعتمد الحوار ووصف المشاهد والتعليمات التي يكتبها ليقوم المخرج بتنفيذها، أو أنها على الأقل ترشده إلى الرؤية الإخراجية التي ينفذها للعمل، هذا ما عهدناه في آلاف الأعمال الروائية والقصصية وكذلك المسرحية، في طول العالم وعرضه، وفي ثقافات العالم المختلفة، ومن ضمنها الثقافة العربية. وقد شهدنا تحويل عدد كبير من أعمال نجيب محفوظ الروائية، وبعض قصصه إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية. وقام نجيب محفوظ نفسه بكتابة السيناريو والحوار لعدد من روايات إحسان عبدالقدوس التي تحولت إلى أفلام سينمائية، لكنه لم يكتب أي سيناريو لأعماله الروائية، وترك الآخرين يفعلون ذلك.

الشيء المفارق واللافت في حالة الشاعر وكاتب الدراما التلفزيونية الفلسطيني – الأردني وليد سيف هو أنه قام خلال السنوات الخمس الأخيرة بتحويل معظم ما كتبه من دراما تلفزيونية إلى أعمال روائية مطبوعة. لقد نقل من ورق السيناريو التلفزيوني الذي أعده لينفذ درامياً مادة قام بإخضاعها لرؤية كاتب الرواية، وأعاد كتابة الوصف الدرامي، وتعليمات المؤلف للمخرج، وشرح سمات الشخصيات وأشكالها الخارجية، وعمق شرحه للهواجس الداخلية، وأحاديث الشخصية مع نفسها، لكي يعطي للشخصيات الدرامية أعماقاً نفسية، بما يسمح لجريان الأحداث وحركة الشخصيات على الورق أن تتخلق روائياً وتتشكل سردياً. هكذا فعل في: ملتقى البحرين (2019) ومواعيد قرطبة (2020) والنار والعنقاء (الرايات السود، 2021) والنار والعنقاء (صقر قريش، 2021) والشاعر والملك (2022)، وأخيراً: التغريبة الفلسطينية (2022) التي تتكون من جزأين: أيام البلاد وحكايا المخيم، وهو بذلك يتيح للقراء معظم الأعمال الدرامية التي لاقت صدى واسعاً، عندما عرضت على الشاشات، وحظيت بنسب مشاهدة عالية، خصوصاً، ثلاثيته الأندلسية، وتغريبته الفلسطينية التي ما زالت تحظى باهتمام المشاهدين.

مسعى درامي تأريخي

 

يمكن القول إن مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، الذي كتب قصته وصاغ السيناريو والحوار له وليد سيف وأخرجه السوري الراحل حاتم علي (1962 - 2020)، هو أهم مسعى درامي لتصوير النكبة الفلسطينية، والشتات الذي أعقبها، والظروف المعقدة التي أحاطت بسقوط الوطن الفلسطيني عام 1948. وقد حشد له حاتم علي عدداً كبيراً من نجوم الدراما السورية والفلسطينية والأردنية، لتجسيد حياة الفلسطينيين قبل النكبة وبعدها، في عمل يتسم النص المكتوب فيه بالتألق، والطاقة الفياضة، والقدرة على تصوير حياة شخصياته، ونقل صورة الحياة في الريف والمدينة الفلسطينيين قبل النكبة، وحياة المخيم بعدها، كما أن إدارة المخرج لممثليه تتميز بإطلاق طاقات هذا الحشد الكبير من الممثلين، ممن قاموا بالأدوار الرئيسة، كما الشخصيات الثانوية، مما جعل المسلسل يتصاعد وتتطور أحداثه، ويلتصق الممثلون فيه بأدوارهم، مشهداً بعد مشهد، وحلقة بعد حلقة. لقد استطاع الثنائي وليد سيف وحاتم علي، اللذان تعاونا في أعمال أخرى، قبل هذا المسلسل وبعده، أن يوفرا رؤية من أسفل للقضية الفلسطينية، ولنضال الجموع الشعبية الفلسطينية وعذاباتها، وأحلامها بالعودة إلى الوطن الذي سلب منها، والأرض التي اقتلعوا منها، على رغم كل ما قدموه من دم، لمنع هذا الاقتلاع والنفي والتشريد العنيف.

يقدم وليد سيف وحاتم علي في "التغريبة الفلسطينية"، ملحمة شعب، ومسيرة القضية الفلسطينية، بدءاً من عشرينيات القرن الماضي، وصولاً إلى انبثاق حركة المقاومة الفلسطينية بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967. ويقيم وليد سيف عمارة قصته حول أفراد عائلة ريفية فقيرة، تمتلك قطعة أرض صغيرة تعتاش منها، إضافة إلى عملها لدى المالكين الكبار من الفلاحين بالأجرة اليومية. وتعيش هذه العائلة في واحدة من القرى الواقعة شمال فلسطين، وتتكون من أب وأم، وأربعة أبناء وابنة وحيدة. ويصور المسلسل معاناة العائلة في كسب رزقها اليومي، وظلم أحد ملاك الأراضي لها، وضغوطه المتزايدة عليها لإجبارها على بيع قطعة الأرض الوحيدة التي تمتلكها، لكونها تقع على حدود أرضه.

هكذا يصعد بنا المسلسل من واقع أسرة فلسطينية شديدة الفقر، مشيحاً النظر عن إبداعات روائية وقصصية فلسطينية لونت حياة الفلسطينيين بألوان رومانسية حالمة، وكأن فلسطين كانت فردوساً أرضياً خرج منه الفلسطينيون جميعاً إلى أرض الشتات والفقر والذل والمهانة، فقد تضافرت الصراعات السياسية، والتفاوت الطبقي، والظلم الاجتماعي، والتخلف، والعشائرية البغيضة، وصراعات الزعامات العائلية في المدن والقرى الفلسطينية، مع مؤامرات الدول الاستعمارية الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا، والمخطط الصهيوني، الذي حاك مؤامرته للاستيلاء على فلسطين.

نحن هنا، بإزاء إعادة كتابة درامية للنكبة الفلسطينية، من خلال التفاصيل الصغيرة، وحكايات العيش اليومي، ومشاهد الأفراح والأتراح، وصور الفقر المدقع الذي لا يمنع الروح المتوثبة لأبناء هذا الشعب من الحلم والتغلب على صعوبات العيش، وحبائل السياسة التي صنعت واقعهم اليومي، ورمت بهم إلى خارج الجغرافيا الفلسطينية، وألقت بهم إلى مخيمات ما زالوا يرون فيها صورة نكبتهم الماثلة والمستمرة. ويستخدم المؤلف، من أجل كتابة نصف قرن من المأساة الفلسطينية (1917 – 1967)، مادة السيرة الذاتية التي يكتبها علي (الأخ المتعلم الذي أصبح عالماً وأستاذاً للفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت)، وتتخللها تحليلات للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، ليضيء على المشاهد والأحداث والحوارات التي تدور بين شخصيات المسلسل. وهو ما يبدو لنا متطابقاً مع صوت المؤلف، ورؤيته الذاتية للقضية الفلسطينية، وتصوره الشخصي لأسباب النكبة، وتحليله الخاص لما آلت إليه الأمور. ويوفر استخدام صوت السارد، الذي يحكي ويحلل، على خلفية مشاهد المسلسل التي تصور الحياة اليومية للعائلة الصغيرة، وللأحداث التي تنذر بضياع وطن وتشريد شعب، نوعاً من الثقافة العالمة التي توحي بالموضوعية، والحياد التحليلي، والرؤية الواقعية التي تباعد بينها وبين عاطفية الشخصيات، وآمالها بعودة سريعة إلى الأرض والوطن.

هذا في المسلسل، فماذا عن الرواية؟

 

 

تكاد أحداث الرواية، الصادرة عن الدار الأهلية في عمان (2022)، أن تتطابق مع أحداث المسلسل، مع تعديلات طفيفة في عدد من المواضع التي ربما أملتها ظروف التصوير والإنتاج، ورؤية المخرج، لكن مقارنة المسلسل بالرواية تفضي إلى تطابق، لا في الأحداث فقط، بل في حوارات الشخصيات، والأغاني، والمواويل التي ترد على ألسنة بعض الشخصيات، كما تتخلل المسلسل والرواية السيرة التي يكتبها علي صالح الشيخ يونس في غربته، حيث يصبح في الرواية مدرساً في جامعة برنستون الأميركية. ولا ندري إن كان ذلك متطابقاً مع النص الأصل – المكتوب، فيما جرى التعديل على السيناريو، عند تصوير المسلسل، ليكون علي الشيخ يونس أستاذاً للفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت، في اتفاق جرى بين المؤلف والمخرج.

على رغم التطابق بين المسلسل والرواية، فإن قارئ العمل الروائي يجد نفسه مشدوداً إلى هذا العمل السردي، الخطي، الذي تتوالى أحداثه، في سياق زمني يبدأ من الماضي ويتجه نحو المستقبل. لا تجريب هنا، لا انتقالات زمنية، لا عودة إلى الماضي، ثم ارتداد إلى الحاضر المكلوم المهزوم. وهو ما يجعل هذا النص تقليدياً في حبكته، واستخدامه للأمكنة وصيغ الزمان، وكذلك ظهور صوت المؤلف، لا في سيرة علي الشيخ يونس فقط، بل كذلك في ثنايا السرد والتعليقات والتحليلات، وتأويلات الأحداث، ورسم صور الشخصيات، وعلاقتها بالمكان، وكذلك في الحوارات التي تدور بين مثقفي العائلة، وتسعى إلى نقل الجدل الثقافي والسياسي في العالم العربي، في تلك الحقبة الزمنية التي أعقبت النكبة، وسادت فيها تيارات الفلسفة الوجودية التي جرى تطعيمها بالأفكار القومية العربية.

 

ما يفارق به النص الروائي العمل الدرامي هو استخدام الشعر، في مدارات الفصول. فالمؤلف يقتبس من أشعار محمود درويش، وصلاح عبدالصبور، وتوفيق زياد، كما يورد شعراً من كتابته، ومن دواوينه السابقة، واضعاً القارئ في جو مجموعاته الشعرية: "قصائد في زمن الفتح" (1969)، و"ووشم على ذراع خضرة" (1971)، و"تغريبة بني فلسطين" (1979)، حيث تتخايل أساطير الخصب الكنعانية، برمز خضرة التي تلتحم بالأرض، وتطلع من أعشابها، ورمز جبينة التي ما فتئت تبحث عن أمها. ولا شك أن ذلك يشير في وجه من وجوهه إلى خضرة، البنت الوحيدة للعائلة التي ذهبت مع زوجها إلى بلدة أم الفحم، وانقطعت عن العائلة داخل سور احتلال 1948، فصاروا هم في الخارج، وظلت هي في الداخل. وفي هذا التقابل بين خضرة وعائلتها إيحاء بتقابل واضح بين شطري الشعب الفلسطيني، الباقين منهم والمنفيين المشردين اللاجئين.

لا نعلم بالطبع، هل كانت هذه النصوص الشعرية الواردة في النص الروائي، موجودة في النص المكتوب من أجل تنفيذه، لتلحن وتغنى، كما هي قصيدة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905 - 1941) التي اتخذها المسلسل شارة له، تتردد في مطالع الحلقات. لا نعلم إن كان المخرج حاتم علي قد قام بحذف تلك القصائد لكي لا يثقل المسلسل بالقصائد المغناة، لكن وجود هذه القصائد، سواء تلك التي كتبها المؤلف ووضعها على لسان الشاعر الشاب صلاح، أو تلك التي استعارها من شعراء فلسطينيين وعرب آخرين، تعطي للنص الروائي أعماقاً شعرية، ودلالات تفيض عن الواقع اليومي، الضاغط، الكابوسي، الذي ترزح تحته شخصيات العمل، في مرحلة ما بعد النكبة وأثناء الإقامة في المخيم، كما أنها تشحن الفضاء الروائي بالأمل، وتحقنه بشرارة المقاومة التي تتسم بها النصوص الشعرية التي أضافها المؤلف إلى عمله الروائي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فلماذا قام وليد سيف بتحويل هذا العمل الدرامي الناجح إلى رواية؟ إن المؤلف يعرف أن جمهرة مشاهدي المسلسلات التلفزيونية ليست هي نفسها ممن يقرؤون الروايات بالضرورة، خصوصاً أن الفئة الأخيرة هي من المتعلمين والمثقفين والمهتمين، وهي قليلة العدد بالقياس إلى الجماهير الغفيرة من مشاهدي التلفزيون، والمهتمين بالمسلسلات. فالصورة أوسع انتشاراً، وأكثر استقطاباً للمهتمين من قراء الكتب، لكن كاتباً دراميا، بحجم وليد سيف، يحاول، كما أظن، الوصول إلى شريحة مختلفة من المهتمين، أي جمهور المثقفين والمتعلمين، من قراء الرواية. ففي العمل الروائي نقع على مهارة الكاتب، وأفكاره، وطريقة بنائه لعالمه الروائي، ورؤيته للعالم، والقضايا التي يقوم بتحويلها إلى حكايات. في الرواية ينغمس القارئ في عالم الروائي، ولغته، وكلامه، ولا ينشغل بأداء الممثلين، والموسيقى التصويرية المصاحبة للعمل الدرامي، وصور المعارك، والعالم المتحرك أمام أعين المشاهدين، ورؤية المخرج للنص. نحن هنا، في النص الروائي المطبوع، نتوحد مع الكاتب، مع الكلمات التي تتراصف أمام أعيننا.

لكن مشكلة نص وليد سيف، الذي تحول من دراما إلى عمل روائي، خصوصاً في "التغريبة الفلسطينية"، تكمن في أن مشاهدي المسلسل ليسوا فقط من عامة الناس، بل هم من جمهرة قراء الروايات كذلك. صحيح أن عدد هؤلاء أقل من مشاهدي المسلسل، لكن قراءتهم ستعيدهم على الدوام إلى المسلسل الذي شاهدوه من قبل، وسيستعيدون صور الممثلات والممثلين الذين أدوا أدوار الشخصيات، خصوصاً إذا كان ما يقرؤونه يتطابق كثيراً مع ما شاهدوه على الشاشة. ولربما تحثهم قراءة الرواية إلى العودة إلى المسلسل الذي شاهدوه قبل سنوات طويلة، ليبحثوا عن التشابهات والاختلافات بين نص الرواية وتجسيد الدراما.

على رغم هذه المشكلات التي يثيرها تحويل دراما "التغريبة الفلسطينية" إلى عمل روائي، وتشويش العمل الدرامي على النص الروائي، حيث تطل شخصيات المسلسل، ومشاهده المتوالية، على قارئ النص الروائي، فإن الكسب الذي يتحقق، من خلال نقل دراما "التغريبة" لتصبح عملاً مطبوعاً، هو إعادة تسليط الضوء على المسلسل الشهير، ومن ثم، إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية التي ما فتئت تتعقد، وتلح على وعينا، كفلسطينيين، وعرب، وكذلك كبشر، يشهدون هذه النكبة المستمرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة