Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مستقبل العلاقات السودانية- المصرية بعد سريان "الحريات الأربع"

لطالما شهدت هذه العلاقة مداً وجزراً مع تبدل العهود والأنظمة في القاهرة والخرطوم

يرى البعض أن "الحريات الأربع" هي نسخة أخرى من "ميثاق التكامل" القديم الذي لم تتوفر فيه الشروط التي تضمن نجاح أي مشروع وحدوي (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

كان التكامل #السوداني - #المصري مميزاً لأنه جاء وسط تطلعات عربية وأفريقية كافحت من أجل ترسيخ وجود كتلها التي قامت على أنقاض الاستعمار.

 

بعد مطبات كثيرة في سير العلاقات بين السودان ومصر خلال العقد الماضي، بدأت الأمور الآن تشهد تحسناً ملحوظاً منذ قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وإسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019. ودخل البلدان ضمن مصالح مشتركة ومواقف متقاربة لتذليل العقبات التي تحيط بقضايا عدة أبرزها قضية سد النهضة التي يحاول فيها السودان أن يكون موقفه متوائماً مع طرفي النزاع مصر وإثيوبيا. ومع امتداد الفترة الانتقالية أصبحت مصر قبلة السودانيين للالتحاق بالمؤسسات التعليمية الجامعية وللعلاج والسياحة. وفضلت نسبة كبيرة من مجموع الجالية السودانية (نحو أربعة ملايين شخص، بحسب إحصائية أخيرة)، الاستقرار والإقامة الدائمة بمصر. ولا يواجه التحرك والانتقال بين مصر والسودان حالياً مشكلة كبيرة، من خلال الجسر البري السوداني- المصري (معبر أرقين) والمعابر الحدودية الأخرى التي كانت تتعرض للإغلاق كلما توترت العلاقات بين البلدين. وتسير على هذه المعابر الشاحنات المصرية المحملة بالبضائع، والسودانية المحملة بالماشية والمحاصيل الزراعية وغيرها، فضلاً عن تسيير رحلات يومية لمواطني البلدين.
في بداياته، كان التكامل السوداني- المصري مميزاً لأنه جاء وسط تطلعات عربية وأفريقية كافحت من أجل ترسيخ وجود كتلها التي قامت على أنقاض الاستعمار، ولأنها نشأت مشبعة بالروح الوطنية الثورية التي ظهرت في الأدبيات السياسية في تلك الفترة، فقد تأخرت لديها مشاريع بناء الدولة والتنمية، فنشأ التكامل السوداني- المصري على طبيعة سياسية اقتصادية، تأسيساً لمشروع واحد ذي ثنائيتين، الأولى، أنه ضم بين حناياه شمال وجنوب وادي النيل، وكثيرون يتمسكون بهذا الاسم تعبيراً عن أنه بلد واحد وليس بلدين، والثانية تتمثل في الإطار العربي- الأفريقي. وهذه الثنائية كانت فريدة إلى جانب منظمات ذات عضوية متعددة مثل منظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية وغيرهما.
في 16 فبراير (شباط) الجاري، أعلن السودان ومصر الاتفاق على تسهيل منح تأشيرات الدخول لمواطني الدولتين وتسهيل الإقامات وتصاريح العمل بينهما. جاء ذلك في ختام اجتماعات "الدورة الخامسة للجنة القنصلية الدائمة بين السودان ومصر" التي انعقدت بالخرطوم، وهي "تفاهمات توصل إليها الجانبان بعد التداول حول موضوعات الحريات الأربع، إلى جانب مواصلة التعاون في مجالات التعليم العالي"، وفق مدير الإدارة العامة للشؤون القنصلية بوزارة الخارجية السودانية تاج الدين الهادي الطاهر. وزاد عليه السفير المصري بالخرطوم هاني صلاح الدين مصطفى بأنه "سيكون هنالك تعاون في مجالي القضاء والطيران المدني".


ظروف مؤثرة

ومرت اتفاقية "الحريات الأربع" بمراحل عدة تحت تسميات مختلفة على طول التاريخ السياسي للسودان بعد استقلاله، ولمصر بعد تحولها من ملكية إلى جمهورية. وفي الواقع لم تتغير الأسس التي قامت عليها الاتفاقية عند إحيائها في كل حقبة زمنية، كما لم تتغير الأهداف وإن تغيرت الظروف المؤثرة على فاعليتها.
بعد استقلال السودان، وتولي جمال عبدالناصر حكم مصر في عام 1956، نشأت جفوة بين مصر والسودان الذي تسلم رئاسة الوزراء فيه الأميرلاي عبدالله خليل، ونشبت آنذاك قضية "مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد"، ثم خفتت بعد تنفيذ الفريق إبراهيم عبود انقلابه العسكري واستيلائه على الحكم في السودان في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، وتم التوصل إلى اتفاق حول مياه النيل وإنشاء السد العالي. وبعد الثورة ضد عبود في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 وفي الفترة التي عرفت بـ"الديمقراطية الثانية" بين عامي 1964 و1969، لم تبد مصر مؤيدة للثورة، بل كان الإعلام المصري يقلل منها مما أدى إلى احتجاجات في الشارع السوداني ضد ذلك الموقف. وعند اندلاع حرب يونيو (حزيران) 1967، وعلى خلفية الهزيمة أو ما عرف بـ"النكسة"، وقف السودان إلى جانب مصر، بل إن رئيس "مجلس السيادة" إسماعيل الأزهري قال إن "السودان دولة مواجهة مع إسرائيل، وأن جل إمكاناته لخدمة المعركة"، وخطط مع رئيس الوزراء السوداني حينها محمد أحمد المحجوب لأن تكون قمة جامعة الدول العربية المنعقدة في الخرطوم في 29 أغسطس (آب) 1967 هي "قمة اللاءات الثلاثة"، وخلصت القمة إلى الإصرار على التمسك بالثوابت من خلال "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل".
وبعد استيلاء الفريق محمد جعفر النميري على الحكم في السودان بانقلاب عسكري نفذه في 25 مايو (أيار) 1969، ووفاة عبدالناصر في 28 سبتمبر (أيلول) 1970، أعقبه محمد أنور السادات في سدة الحكم، ونادى بالانفتاح الليبرالي وفق الرؤية الغربية. كذلك بدأ النميري أيضاً يتجه غرباً بعد أن كان قد نفذ انقلابه بواسطة الحزب الشيوعي، ثم نفذ أعضاء في الحزب انقلاباً مضاداً عليه سمي "حركة يوليو التصحيحية"، في 19 يوليو (تموز) 1971 التي استلمت السلطة لمدة ثلاثة أيام، لكن النميري انقلب عليهم مرة أخرى وأعدم كل قادة تلك الحركة. تحرك السادات لحماية السودان من الشيوعيين، وكان يخشى تطويق نظام حكمه بواسطة محور إثيوبيا واليمن والالتفاف عليه بدعم سوفياتي، ونتيجة لذلك وقع البلدان "ميثاق الدفاع المشترك" في 15 يوليو 1976، وأعاد السودان علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وألمانيا الاتحادية.

آثار كامنة

أما "اتفاق التكامل" فكان الرئيسان النميري والسادات قد وقعاه في عام 1974، وتمثلت ملامحه السياسية في تبادل الخبرات التنظيمية والحركية، والاطلاع على التجربة النضالية وتاريخ مقاومة الاستعمار في البلدين. ودخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد ثلاثة أعوام من توقيعه في عام 1977، وكفل حرية الحركة والانتقال والعمل والإنتاج لمواطني وادي النيل، وإلغاء تأشيرة الدخول والعمل باتفاقية ازدواج الجنسية السودانية- المصرية، وربط البلدين بشبكة طرق برية وبحرية ونهرية وجوية يتم التعامل معها باعتبارها رحلات داخلية، كما تم التعاون في المجال الصحي والضمان الاجتماعي. ولتيسير ذلك، دمجت عديد من المؤسسات والشركات في مجالات الزراعة والصناعة والتعدين والمياه الجوفية والري والإنشاءات والملاحة النهرية وعدد من المشاريع الاستثمارية.
وبعد اغتيال السادات في السادس من أكتوبر 1981، استمر خلفه الرئيس حسني مبارك محافظاً على نمط علاقات ودية لم تغفل الأهداف السابقة، وزاد عليه بتوقيع "ميثاق التكامل المشترك" في أكتوبر 1982، وأنشئت مؤسسات داعمة له مثل "المجلس الأعلى للتكامل"، و"برلمان وادي النيل"، و"الأمانة العام للتكامل"، واللجان الفنية المشتركة، و"صندوق التكامل". واتفق على "تنمية المصالح المشتركة بين البلدين في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، وإزالة القيود والحواجز خصوصاً في مجال التبادل التجاري والسلعي، والعمل على إزالة الاختلافات والتباينات بين الشعبين لتأكيد الوحدة التاريخية والمصير المشترك".
ورغماً عن ذلك فإن "اتفاق التكامل" فشل لعوامل عدة منها، الهاجس الأمني لدى الرئيسين إقليمياً وداخل بلديهما وتدهور الأحوال الأمنية في جنوب السودان مما تسبب في توقف العمل في "قناة جونقلي" ذات الأهمية الكبرى بالنسبة إلى مصر كونها تحتوي على قناة ري لنقل مياه بحر الجبل لري المناطق الزراعية في السودان وتمتد إلى مصر. أما العامل الثاني، فكثيراً ما اتهم السودان مصر بأنها لا تلتزم بتطبيق الاتفاقية. والثالث، فإن الطرفين يريدان أن يجنيا ثمار تنفيذ الاتفاقية مع تجاهل عنصر التفاعل الجماهيري، فبدا وكأن الاتفاق أنزل من عل. والعامل الرابع، فكان إعلان النميري بشكل مفاجئ تطبيق قوانين سبتمبر (أيلول) 1983 من دون الرجوع إلى مصر ومعرفة تأثيرها على اتفاق التكامل.
وبقيت آثار فشل الاتفاق كامنة إلى أن ثار الشعب السوداني على النميري وأسقط حكمه في السادس من أبريل (نيسان) 1985، فتوترت العلاقة بين البلدين إثر اتهام السودان مصر بدعم النميري وحمايته بعد لجوئه إليها من طوفان الغضب الشعبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طابع اقتصادي

بعد مجيء الرئيس عمر البشير بانقلاب عسكري في 30 يونيو 1989، وجد دعماً من مصر، وكان نظام مبارك قد حصل على معلومات مضللة لم تكشف عن هوية النظام الإسلاموي، كما أن البشير وقتها لم يكن معروفاً واعتمدت الاستخبارات المصرية على معلومة غير دقيقة بأن النظام الجديد ناصري ويدعو إلى علاقات وثيقة مع مصر فاعترفت به ودعمته، ولكن سرعان ما تغير موقفها إلى العداء ثم أثيرت قضية الحدود وحلايب مرة أخرى، ولكن السودان صعد الأمر إلى الأمم المتحدة كبديل عن المواجهة العسكرية.
وفي عام 1995 تأزمت العلاقات بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا، ثم ظلت مصر تراقب العلاقة بين البشير والشيخ حسن الترابي وتنظيمه إلى أن حدثت المفاصلة الشهيرة عام 1999، وبفضل ذلك الانقسام وضع حد للتوترات، وكانت بداية عهد جديد في العلاقات السودانية- المصرية إلى أن وصلت إلى شراكة استراتيجية تم فيها إحياء مشروع التكامل وتوقيعه في عام 2004 بالقاهرة. ونص الاتفاق على حق التنقل والإقامة والعمل والتملك.
ثم بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005، أحست مصر بأن تفعيل أجهزة التكامل التي أرسيت من قبل بمشروعات الأمن الغذائي، يمكن أن تشهد قفزة كبيرة وتسد حاجة البلدين، وغلبت الطابع الاقتصادي على سواه، خصوصاً أن المشروع تخفف من الهواجس الأمنية التي سيطرت عليه منذ عهد السادات، فشكل البلدان لجنة للتنفيذ والمتابعة.

محركات الشك

بعد أحداث "الربيع العربي"، بدا أن النظامين اللذين تأسسا على "الإسلام السياسي" يمكن أن يتفقا ويزيلا كل الخلافات القديمة في سبيل تحقيق مشروع التكامل في الواقع، ولكن ما حدث أن القاهرة طالبت في فبراير (شباط) 2013، بإجراء تعديلات على المشروع الأولي لاتفاقية "الحريات الأربع" بين البلدين، مما أثار انتقادات الخرطوم.
وتضمن التعديل أن يكون حق التملك للمصريين في السودان بلا قيود، بينما ملكية الأراضي للسودانيين في مصر وفق قانون "الحكرة"، وهو يعني أن تكون فترة انتفاع السودانيين بالأراضي المصرية لفترة زمنية لا تتجاوز 10 سنوات حتى يصلوا إلى حق التملك، وذلك حتى تضمن مصر استثمار أراضيها أولاً قبل تمليكها. أما في ما يتعلق ببند التنقل بين مواطني البلدين فإن التعديل جاء بمنع دخول السودانيين إلى الأراضي المصرية للذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عاماً إلا بالحصول على تأشيرة مسبقاً، بينما تسمح السلطات السودانية للمصريين من جميع الأعمار بالدخول إلى السودان من دون تأشيرة.
عند زيارة الرئيس المصري وقتها محمد مرسي الخرطوم بتاريخ الرابع من أبريل 2013، تجاوز الرد على انتقادات الخرطوم، وطرح مقترحات لمشاريع جديدة ظهرت منبتة عن بنود الاتفاقية، وكان هدفها الواضح هو محاولة تهدئة الشعب المصري بأن هناك مشاريع ضخمة تنتظره، وهو الخارج لتوه من ثورة أطاحت نظاماً وجلبت آخر لم يستطع معالجة القضايا الاقتصادية والاضطرابات السياسية والأمنية. وأثار تجاوز اتفاقية "الحريات الأربع" محركات الشك لدى الخرطوم، ولم تفلح تطمينات السفارة السودانية بالقاهرة بأن هناك تقدماً في هذا الموضوع في تهدئة الهواجس، إلى أن أطيح بمرسي في يوليو (تموز) 2013.


أسس متينة

على رغم مضي ما يقارب العقدين منذ توقيع اتفاقية "الحريات الأربع" بشكلها الأخير وفق بنود واضحة بين السودان ومصر، فإن المقدرة على تنفيذها لا يزال محل شك بالنسبة إلى السودان الذي يرى أن السودانيين لم يستفيدوا منها بالشكل الأمثل، وأن القيود التي يضعها الجانب المصري على السوداني، تتناقض مع مبدأ "المعاملة بالمثل"، فيما يرى الجانب المصري أن الاتفاقية أوفت بالتزاماتها، رغم ما رافق فتراتها الزمنية من توترات تعوق التنفيذ ولكن لا تلبث أن تستأنف بعد فترة وجيزة.
في الواقع، ينظر الجانبان إلى الاتفاقية من الناحية التي تناسبهما، إذ إن تقديرات السودان ومصر، مبنية على خلل في التنفيذ إضافة إلى عدم تناسق في الاستفادة الكاملة من البنود، ففي الوقت الذي قطع فيه حق التحرك والانتقال والإقامة شوطاً كبيراً من التنفيذ، هناك خلل في تنفيذ حق العمل والتملك. وهو ما حاول الاتفاق الأخير معالجته بالتوازن في التنفيذ ومساواة البنود.

أما المعوقات التي تقف في وجه التنفيذ الكامل، وتعيده إلى وصفه بأنه ليس بالكفاءة المطلوبة، فمنها، أنه ربما تحيط بالتنفيذ عقبات إدارية نظراً إلى البيروقراطية التي تحيط بالعمل الحكومي. وهناك أيضاً التناوش الإعلامي من معارضين للخطوة في البلدين، إثر تصاعد أزمة حلايب وشلاتين من وقت لآخر، إذ لا تزال القضية معلقة بقضية أكبر هي ترسيم الحدود بين البلدين.
وعلى رغم أن الاتفاق تمت المصادقة عليه من قبل، بأن يكون سريانه لمدة خمس سنوات، وتجديده لمثل هذه الفترة، فإن بعض الرافضين له قد يحركون دعوى قضائية، بحجة أنه تم إحياؤه في غياب المجلس التشريعي في السودان، ولم يحصل على موافقة البرلمان السوداني الذي ينتظر تشكيله.
ويرى البعض أن "الحريات الأربع" هي نسخة أخرى من "ميثاق التكامل" القديم الذي لم تتوفر فيه الشروط التي تضمن نجاح أي مشروع وحدوي، الذي يجب أن يقوم على أسس متينة تستوعب التغييرات السياسية في البلدين، والقضايا المتشعبة مثل قضية سد النهضة، بينما يرى تيار آخر أن الاتفاقية تسير في الاتجاه الصحيح لأن الحماية متوفرة لها بأكثر من الوثيقة السابقة، واستطاعت أن تخلق قاعدة جماهيرية من شعبي البلدين، حريصة على تطبيق بنود الاتفاق حتى في ظل الخلافات والتوترات بين حكومتيهما.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل