Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النيل جمع مصر والسودان وفرّق بينهما في "رقص الإبل"

المصري فتحي إمبابي يروي التاريخ المشترك بتناقضاته الشائكة

النيل تاريخ وحروب وشعوب (أف ب)

تحكي رواية "رقص الإبل" (الهيئة المصرية) للكاتب فتحي إمبابي، قصة عشق صبي يدعى "التَلِب" (من معاني هذا الاسم التمساح)، لابنة عمه وتدعى "مِسك الجنة"، وهما من قبائل الحُمر، التي تقيم في منطقة النهود الواقعة غرب ولاية كردفان في السودان، وتعمل في رعي الإبل والماعز على امتداد وسط السودان وحتى بحر العرب جنوباً. يتسع السرد ليشمل قصصاً إنسانية عدة، منها قصة عشق أخرى ربطت بين ضابط في الجيش المصري وفتاة من قبيلة وثنية، وتوجت بزواجه منها وترْكِ السلك العسكري والتفرغ للعمل بالزراعة في وطنٍ بديل. فضلاً عن قصص أخرى تظهر عادات قبائل السودان العربية والزنجية وتقاليدها في حقبة زمنية شهدت مخاض دخول هذا البلد في طور الحداثة. وهذه الرواية تعتبر الحلقة الثالثة في "خماسية النهر"، التي توثق "ذاكرة أمة"، في بلدين لطالما عقدت آمال على إمكانية أن يستمرا "روحاً واحدة في جسدين"، أو ضفافًا متصلة لنهر هو النيل يستمدان منه أسباب الوجود.

الرواية الأولى في تلك الخماسية صدرت عام 1987 تحت عنوان "نهر السماء"، فيما صدرت الثانية "عتبات الجنة" عام 2014. وستتم بروايتين قيد النشر، الأولى بعنوان "عِشق"، والثانية عنوانها "منازل الأرواح". ويهدي إمبابي "رقص الإبل"، على النحو التالي: "على شرف آلاف الضباط والجنود المصريين والسودانيين وعائلاتهم من نساء وأطفال، قاتلوا دفاعاً عن الدولة الحديثة ووحدة وادي النيل واستشهدوا أو بيعوا رقيقاً على أبواب مدينتي الأُبيِّض عاصمة كردفان، والخرطوم عاصمة السودان الحديث".

بين تمردين

يحيل العنوان إلى الحروب التي شهدها السودان في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت الإبل سلاحاً رئيساً في خوضها، في ظل احتلال مصري، كان هدفه الأول تأمين منابع النيل. ثم ما لبثت مصر نفسها - في زمن الرواية - أن وقعت تحت الإحتلال البريطاني الذي امتد نفوذه إلى السودان منطلقاً من الأراضي المصرية، فاجتمعت إرادة الطرفين المصري والبريطاني على حتمية مواجهة التمرد الداخلي الذي قاده محمد بن عبد الله بن فحل الملقب بالمهدي، والقضاء عليه. وهكذا يتقرر إيفاد حملة لقمع ذلك التمرد، قوامها ضباط وجنود مصريون سبق أن تمردوا على سلطة الخديوي توفيق، فاستعان عليهم بالانجليز الذين ألحقوا بهم الهزيمة ونفوا قائدهم أحمد عرابي، بعدما سيطروا على مقدرات البلد ودشنوا احتلالاً سيدوم لنحو سبعين عاماً. كان ضمن قوات المهدي التي انطلقت من جزيرة آبا فرسان يمتطون الإبل متسلحين بالسيوف والسياط والعصي، ثم ما لبثوا أن تعلموا استخدام الأسلحة النارية التي استولوا عليها كغنائم في أكثر من معركة خاضوها ضد القوات المصرية.

 

وتراوح لغة السرد بين تقريرية بحثية تناسب الوقائع التاريخية الوارد ذكرها في مراجع عربية وأجنبية عدة، وشاعرية تتناسب مع المتخيَّل شخوصاً وأحداثاً: "دار الصراع بين هويتين: الهوية التاريخية للجماعة المصرية تتلمس طريقها نحو دولة حديثة، أجهضها جهل قادة الثورة العرابية العسكري والسياسي" صـ338. "تحت سماء ملبَّدة بغيوم وسحب كثيفة ورياح تحمل مهاداً من الهموم والرعب، سار النيل في طريقه عازماً على تنفيذ المهمة التي أوكلتها له الآلهة منذ غابر الزمان وحتى بلوغ الأبد". صـ 103. "كان الليل يهذي في مضاجعه محموماً من قسوة البشر، وعلى حلبته رقصت شياطينُ على طبول السرور والبهجة، والريح تعوي في سماء كردفان، تحمل عواء إبليس وطغمته".

زمام النيل

يتولى السرد راو عليم، في معظم المتن، بينما يفسح المجال للسرد بين الحين والآخر لأحد شخوص الرواية التي جاءت في 400 صفحة من القطع الكبير، وغلب عليها الطابع التوثيقي لأحداث مصرية وسودانية مهمة شهدها الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، استناداً إلى مراجع رسمية وأخرى غير رسمية. ومن ذلك "تسخير مليون فلاح لشق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، مات منهم 20 ألفاً قدموا أضحيات لتنشط التجارة العالمية الإمبريالية" ص 119. ومنها أيضاً قرار الخديوي توفيق حل الجيش المصري في19 سبتمبر / أيلول 1882، ثم العدول عن القرار نفسه بعد أربعة شهور واستدعاء 13 ألف جندي من فلول جيش عرابي المهزوم، بناء على نصيحة من الحكومة البريطانية ليكونوا قوام حملة قمع تمرد المهدي، بعد وصولهم بمراكب نيلية إلى مديرية خط الاستواء. كان حلم الحرية الذي داعب خيال كل منهم يوما، قد تحوَّل إلى عقاب بالموت، بحسب السارد. أما المهدي فكان يتبعه جيش من 300 ألف مقاتل، ثمرة تحالف بين الدراويش والمشايخ ورجال القبائل والجلَّابة ضد الحكم المصري، "والذي أطلق عليه في واحدة من تشاكلات مصطلحات التاريخ المضللة للوعي العام: الحكم التركي، أو الحكم التركي المصري" ص 129.

 

كان محمد علي قال يؤمن بأن مصر من السودان والسودان من مصر... وفي السياق يتذكر رئيس الوزراء شريف باشا قول باني نهضة مصر الحديثة مبرراً اهتمامه بالأراضي السودانية: "في السودان منابع النيل والجزء الأكبر من مجراه"، ويضيف شريف باشا أن محمد علي "كان هدفه العمران وبناء المدارس والمستشفيات وإدخال المحاصيل الزراعية والتقسيم الإداري الحديث"، قبل أن يعبر بدوره عن إيمانه الشخصي بأنه "لن يكون لاستقلالنا أدنى قيمة إذا كان زمام النيل في قبضة غير مصرية".

التاريخي والمتخيل

ويتخذ السرد سمتاً بحثياً لدى تبرير تمرد المهدي، واصفاً إياه بأنه "ثورة شعبية ساهم فساد الإدارة وارتفاع الضرائب والإساءات التي تفنَّن فيها رجالها وقسوة عمالها في إشعالها"، ومع ذلك فإن قمعها بات واجباً على الإدارة المصرية بصرف النظر عن خضوعها للانجليز، حتى لا يتحكم معادون لها في تدفق مياه النيل نحو الشمال.  أما الانجليز فأرادوا ضم السودان إلى التاج البريطاني باستخدام جيوش وقادة وسلاح وأموال مصر، وكان قائد حملة قمع التمرد الملقب بـ"الجنرال المقتول"، "يحلم بضم نهر النيل أقدم أنهار العالم للتاج البريطاني". أما المهدي الذي كان أتباعه يضعونه في مصاف الأنبياء وأولياء الله الصالحين، فقد خان وعوده لخصومه وغدر بمن استسلموا له من الرجال وعائلاتهم، فواجه كبار الضباط المصريين القتل، فيما جرى اتخاذ الباقين عبيداً، فيما كان التعايشي وهو أبرز مساعديه "يجعل حياة من يختصمه ليلاً أسود".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي موازاة تلك الوقائع التاريخية، تبرز وقائع متخيلة تتعلق بـ"مِسك الجنة" التي زوَّجها جدها غصباً، ثم باعها زوجها الذي رفضت الخضوع له إلى تاجر من الموالين للمهدي، فيما ابن عمها لا يكف عن محاولة استعادتها. وكانت عشيرة (التلب) بحسب أحداث الرواية قد عقدت اتفاقاً مع عشيرة من رعاة البقر، من قبائل البقارة تعيش في مدينة الرهد الواقعة جنوب مدينة (الأبيض) عاصمة كردفان، قبل أن يولد كل من "التلب" و"مسك الجنة" بأن ابنها سيكون من نصيب ابنة خاله (ست النفر)، وكان كلاهما لم يتشكلا بعد في رحم أمهما، عندما كان (التلب) مع أخوته في مرحال الخريف الذي يستمر ستة أشهر، والذي تقوم العشيرة خلاله برعي ما تملكه من إبل وماعز.

الأصولية والحداثة

وبحسب أحداث الرواية قام الجد بوهب حفيدته (مسك الجنة) زوجة إلى ابن قاضي الأبيض مقابل حصول العشيرة على وثيقة بضم مساحات إضافية من الأراضي للزراعة والرعي. عاد (التلب) فلم يجد (مسك الجنة) فجن جنونه، وذهب إلى مدينة الأبيض ليبحث عن ابنة عمه، حيث التقي بالمهدي الذي كان يمهد لإطلاق دعوته في عموم السودان، فالتحق بالحركة وصار مشايعاً للمهدية.

تستمر أحداث الرواية على خلفية حروب دارت بين جيش المهدية والقوات المصرية، وتوجت في نوفمبر 1883 بإبادة ثلاثة عشر آلاف جندي وضابط من القوات المصرية بقيادة قائد بريطاني ضعيف الشخصية يدعى جنرال هكس في معركة (شيكان). وجد ذلك الجنرال نفسه يقود جنوداً يكرههم يعلم أنهم يكرهونه، في مواجهة درويش يملك بالفطرة عقلية عسكرية فذة ومقدرة سياسية وإدارة تنظيمية من طراز رفيع. كان على يقين بأنه يحظى بدعم من الله والملائكة. هكذا هزمت الثورة الدستورية الأولى في مصر، والتي كان لهزيمتها، بحسب الراوي العليم، سبب يضاف إلى صعود المهدية التي صهرت قبائل السودان العربية في بنيان واحد وصنعت شرخا بين السودان العربي والسودان الزنجي.

وهكذا، وبحسب صوت السارد / الباحث، فإن "الإبحار نحو شمس الحداثة تعاطفت معه الجماعة السودانية التي تسكن النيلين وشرق السودان. بينما الهوية الأصولية الدينية التي تضرب جذورها عميقاً في السودان وقبله في النفس البشرية وفي الثقافة العامة لجماعة يستند اقتصادها على الرعي والزراعة المطرية وتجارة الرقيق، يتم استدعاؤها مع كل انتكاسة في طريق التقدم. وجدت تلك الهوية صدى بين قبائل وسط السودان وغربه فمالت إلى المعلوم لديها من الصوفية وانضمت إلى ثورة المهدي". 

الروائي  فتحي إمبابي تخرج في كلية الهندسة، وعمل مهندسا حتى بلغ سن التقاعد، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1995 عن روايته "مراعي القتل"، وأصدر كذلك روايات "العرس"، "نهر السماء"، "أقنعة الصحراء"، "العلَم"، "شرف الله"، و"عتبات الجنة"، وله مجموعة قصصية عنوانها "السبعينيون"، بالإضافة إلى كتب "سهام صبري زهرة الحركة الطلابية"، "الروافد الاجتماعية لجيل السبعينيات"، "جنة الدساتير"، والقصة والسيناريو والحوار للمسلسل التلفزيوني "طيور الشمس".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة