ملخص
بين حرب تقليدية شاملة وحرب التكتيك الهادفة، تباين واضح في #الصراع القائم اليوم بين #روسيا و#أوكرانيا.
أدت هذه القيود إلى خوض روسيا حرباً شاملة على الأراضي الأوكرانية من دون أن تواجه خطراً جسيماً مشابهاً بأي شكل من الأشكال على أراضيها. وأصبح التناقض بين النهجين الروسي والأوكراني أكثر حدة مع تقدم الحرب.
على مدى الحرب في أوكرانيا، ازداد التباعد والتباين بين استراتيجيات روسيا وأوكرانيا. في البداية، سعت روسيا إلى مباغتة أوكرانيا على حين غرة باستخدام جيش حديث يقوم ببعض المناورات السريعة الحركة التي من شأنها أن تؤدي إلى نصر سريع وحاسم، لكن مع مرور الوقت، تدهور وضع الجيش الروسي بشكل خطير، وأصبح يعتمد بشكل متزايد على قذائف المدفعية والهجمات الشاملة والجماعية من فرق المشاة من أجل تحقيق تقدم واختراقات على ساحة المعركة، وفي الوقت نفسه صعد هجماته على المدن الأوكرانية. كذلك، تسعى القوات الروسية، إلى فرض "الترويس" [فرض اللغة والثقافة الروسية] في المناطق التي تحتلها، وتتعامل بقسوة مع أولئك الذين تشتبه في أنهم يتجسسون ويخربون، أو ببساطة يبدون رأياً معارضاً.
في المقابل، كانت أوكرانيا أكثر ابتكاراً في تكتيكاتها وأظهرت انضباطاً أكبر في تنفيذها. مدعومة بإمدادات متزايدة من الأسلحة الغربية، ومستفيدة من براعة قياداتها، تمكنت من استعادة بعض المناطق التي احتلتها القوات الروسية، بيد أنها تقاتل على أراضيها ولا يمكنها الوصول إلى داخل روسيا. إذاً، في حين أن أوكرانيا تكتفي باستهداف الجيش الروسي، تستهدف روسيا أوكرانيا برمتها، بما في ذلك قواتها المسلحة، وبنيتها التحتية، وشعبها.
هذان النهجان المتناقضان المتمثلان في "الحرب الكلاسيكية" [التقليدية] التي اعتمدتها أوكرانيا و"الحرب الشاملة" التي تبنتها روسيا، لهما جذور عميقة في حروب القرن العشرين. وبعد مضي عام على اندلاع الحرب في أوكرانيا، بدأت تعطي فكرة أوضح وأعمق حول الطريقة التي سينجح فيها النهجان المذكوران في التماشي مع النزاعات المعاصرة [الطريقة التي سينجح فيها تطبيق النهجين المذكورين في النزاعات المعاصرة]، وكيف من المحتمل أن يحددا شكل المنافسة بين كييف وموسكو في الأشهر المقبلة.
نوعان من الحرب
كانت طريقة الصراع التقليدية، التي هيمنت على الفكر العسكري قبل الحرب العالمية الأولى، تدور حول المعارك. وفي الواقع، ركزت الاستراتيجية الكلاسيكية على تأمين وضع يسمح للجيش بأن يقاتل، وكانت التكتيكات تتمحور حول القتال في حد ذاته. أما الجهة المنتصرة، فكانت تحدد بحسب الجيش الذي يحتل ساحة المعركة وعدد جنود العدو الذين قتلوا أو أسروا وكمية المعدات التي دمرت، وبهذه الطريقة، حسمت المعارك نتيجة الحروب. واستطراداً، عززت هذا النهج قوانين الحرب التي شملت معاملة الأسرى وغير المقاتلين وافترضت أن العدو المهزوم سيقبل بالأحكام الصادرة عن المعركة.
وحتى قبل الحرب العالمية الأولى، كانت هناك أسباب متعددة تدعو للشك في مدى تجسيد هذا النموذج للحقيقة، لا سيما بسبب الطريقة التي أصر فيها على الفصل بين المجالين المدني والعسكري، بيد أن هذا النموذج الكلاسيكي استمر في تشكيل التوقعات في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى. على رغم ذلك، تحول ذاك الصراع إلى حرب استنزاف طويلة، لعبت القوة الاقتصادية والصناعية الأساسية فيه دوراً أكثر أهمية بكثير من نتائج المعركة. وأثارت قدرة الطائرات على ضرب مدن العدو شكوكاً وتساؤلات حول مفهوم ساحة المعركة المختلفة المنفصلة عن المجتمع المدني. وتحول الناس والممتلكات إلى أهداف طبيعية.
بالنسبة إلى عدد كبير من الاستراتيجيين، بدا الطريق الأسهل نحو النصر هو قصف المدن، لا الفوز في المعارك.
وكان المبرر المنطقي وراء استهداف المراكز السكانية بسيطاً: فالجيوش استخدمت البنية التحتية المدنية للقتال. كذلك، اعتمدت مصانع الذخائر على قوة عاملة مدنية. وحينما احتاجت الحكومات إلى مزيد من القوات، قامت بتجنيد المدنيين. بعبارة أخرى، عندما كانت دولة بأكملها في حالة حرب، لم يكن فيها أي شخص بريء. علاوة على ذلك، كانت الحكومات تتخذ قرارات الحرب والسلم مستندة إلى الدعم الشعبي، بيد أن المواطنين الضعفاء الذين تعرضوا لقصف متواصل، كان من الممكن أن ينقلبوا على الحرب، لدرجة مطالبتهم الجانب الذين ينتمون إليه بالاستسلام. بالنسبة إلى عدد كبير من الاستراتيجيين، بدا الطريق الأسهل نحو النصر هو قصف المدن، لا الفوز في المعارك. وهكذا، تحول الصراع إلى حرب شاملة، ما أدى إلى غارات جوية مكثفة في الحرب العالمية الثانية ودفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار إلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان في عام 1945. بعد ذلك، لم ينج المدنيون إلا في حروب لم تدم طويلاً خاضتها الأطراف بعيداً من المدن.
لكن ثلاثة تطورات دفعت الاستراتيجيين الغربيين إلى تغيير رأيهم في شأن الحرب الشاملة. أولاً، أدى المنطق المعتمد في هذا النوع من الحرب إلى كارثة نووية. ومن أجل تجنب ذلك، كان لا بد من إيجاد طريقة يبقون فيها الحروب محدودة ومحصورة. ثانياً، كان هناك وعي متزايد بأن الهجمات على المدنيين تأتي بنتائج عكسية. وقد جاءت هذه الاستنتاجات من الدراسات التي أجريت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية حول تأثير حملات القصف الاستراتيجي التي شنها الحلفاء، ثم التجربة اللاحقة في حرب فيتنام، التي أدت الجهود المبذولة فيها للبحث عن الفيت كونغ [الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام] الشيوعية والقضاء عليها إلى سقوط كثير من الضحايا المدنيين.
وكان التطور الثالث هو ظهور الذخائر الدقيقة التوجيه في سبعينيات القرن الماضي. من حيث المبدأ، إن التحسينات الهائلة في الاستهداف الدقيق التي وفرتها هذه التكنولوجيا كانت تعني أنه لم يعد هناك أي عذر لإحداث أضرار جانبية. أصبح من الممكن إجراء العمليات بطرق يمكن فيها تجنب المدنيين وضرب الأهداف العسكرية فحسب. وباستخدام الأسلحة الموجهة بدقة، ولدت فرصة لإحياء الحرب الكلاسيكية من خلال التركيز على تقويض التنظيم العسكري التابع للعدو عن طريق الضربات في العمق والمناورات السريعة. وكان هذا هو الدرس المستفاد من الانتصار الحاسم للولايات المتحدة على القوات العراقية في حرب الخليج الأولى.
ولكن على رغم أن هذا التحول العقائدي بات واضحاً في تخطيط التدخلات العسكرية الغربية الأخيرة، فغالباً ما كانت استراتيجية الحرب الكلاسيكية توضع جانباً بمجرد تحول تلك الحروب إلى حملات تهدف إلى مكافحة التمرد، مثلما حدث في العراق وأفغانستان. في كلا النزاعين، بذلت الولايات المتحدة وحلفاؤها جهوداً رامية إلى تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين من أجل الحفاظ على دعمهم وتجنب تأجيج التمرد، بيد أن تلك الجهود كانت تتضاءل عندما كانت قواتهم تتعرض للخطر. وما شكل مصدر توتر إضافي بالنسبة إلى القوى الغربية، هو أن المجتمعات المحلية غالباً ما اعتبرتها غير مرحب بها، خاصة عندما كانت تدعم حكومة تفتقر إلى الشرعية الشعبية، لأنها تعتمد على الدعم الأجنبي على وجه التحديد.
الوحشية الروسية وأوكرانيا المقيدة
من جانبها، في العقود التي تلت الحرب الباردة، لم تتخل روسيا مطلقاً عن نموذج الحرب الشاملة. وكان هذا هو الحال حتى عندما استخدمت ذخائر دقيقة التوجيه. في سوريا، على سبيل المثال، أثبتت القوات الروسية أن تجنب الأهداف المدنية كان مسألة خيار لا علاقة لها بالتكنولوجيا، إذ إنها هاجمت عمداً مستشفيات المتمردين. وحتى في الحروب القريبة من أرض الوطن، استخدمت روسيا تكتيكات لا رحمة فيها، بخاصة في حروب الشيشان في تسعينيات القرن الماضي وفي العقد الأول من هذا القرن، التي استخدمت موسكو خلالها قوة غاشمة مباشرة على المناطق والمدن المأهولة بالمدنيين.
واليوم، تقوم روسيا بالعمل نفسه في أوكرانيا، لكن هذه المرة، تواجه جيشاً منظماً ومحترفاً للغاية. نظراً إلى أن الكرملين يشعر بإحباط متزايد في شأن حملته الرامية إلى احتلال البلاد، فقد لجأ إلى هجمات منتظمة على المجتمع المدني والاقتصاد الأوكراني. وقد تضمنت هذه الهجمات تصويب الصواريخ على كييف ومدن أخرى، وهدم مجمعات سكنية وأحياناً بلدات بأكملها، ومهاجمة البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، وفرض حصار مطول، كما في حالة ماريوبول في الربيع، وسيفيرودونتسك في الصيف، وباخموت أخيراً، وهي عمليات تنطوي على قصف مدفعي يحول المدن إلى أنقاض ويجبر سكانها على الفرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم الأهداف الروسية القصوى [الشمولية والواسعة النطاق] في أوكرانيا، فمن الممكن القول إنها لا تسعى إلى حرب شاملة، وذلك لأن روسيا امتنعت عن استخدام الأسلحة النووية، التي تعتبر رمزاً يمثل الحرب الشاملة المعاصرة تمثيلاً مطلقاً. وفي الواقع، سبق أن لعبت الأسلحة النووية دوراً حاسماً في رسم حدود الصراع. في بداية الحرب، ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التهديد النووي بمثابة تحذير لدول الناتو من التدخل بشكل مباشر. في الوقت نفسه، فإن رغبته في تجنب حرب مع الحلف قد منعته من استخدام الأسلحة النووية على نطاق أصغر داخل أوكرانيا وثنته عن إصدار أوامر بشن هجمات على دول الناتو المجاورة، ولكن في معظم النواحي، اتبعت روسيا، نهج الحرب الشاملة الذي استخدمته في صراعات أخرى منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي الوقت نفسه، تتبع أوكرانيا نهج الحرب الكلاسيكية. في الدفاع عن مدنها ومصانعها ومحطات الطاقة الخاصة بها، تملك القوات الأوكرانية أسباباً وجيهة تدعوها إلى تجنب الأضرار غير الضرورية التي تلحق بالمناطق المدنية، وبطريقة موازية، احتاجت إلى الحفاظ على ذخيرتها الشحيحة لكي تستخدمها على الأهداف العسكرية الروسية ذات الأولوية القصوى. علاوة على ذلك، كانت كييف مقيدة بالضوابط التي فرضها عليها الموردون الغربيون. أحد المجالات التي حدث فيها ذلك هو تقييد واشنطن المتعمد لقدرة أوكرانيا على مهاجمة الأراضي الروسية، في الأقل في ما يتعلق بالأسلحة الغربية، وفي الواقع يشكل هذا مثالاً آخر على التأثير الرادع للتهديد بالحرب الشاملة. لقد تمكنت القوات الأوكرانية من شن بعض الهجمات على أهداف داخل روسيا باستخدام طائرات من دون طيار وأعمال تخريب، بيد أن هذه العمليات كانت قليلة. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة منعت أوكرانيا من الحصول على القذائف البعيدة المدى والطائرات التي تخولها شن ضربات أعمق وبشكل متكرر، على رغم أن مثل هذه الهجمات ضد دولة بحجم روسيا لها تأثير رمزي أكثر منه مادي.
وأدت هذه القيود إلى خوض روسيا حرباً شاملة على الأراضي الأوكرانية من دون أن تواجه خطراً جسيماً مشابهاً بأي شكل من الأشكال على أراضيها. وأصبح التناقض بين النهجين الروسي والأوكراني أكثر حدة مع تقدم الحرب.
مقاومة كاملة
نظراً إلى أن أوكرانيا وروسيا كانتا تشكلان جزءاً من الاتحاد السوفياتي حتى عام 1991، فهناك تاريخ مشترك يجمع بين قواتهما المسلحة، إضافة إلى الخبرة المشتركة مع المعدات السوفياتية القديمة، لكن منذ عام 2014، خضعت أوكرانيا للنفوذ الغربي العسكري بشكل تدرجي أولاً، ثم بدأ ذلك يحصل على نحو أسرع أثناء التحضير للغزو الروسي عام 2022، وازداد سرعة بمجرد بدء الحرب. لقد قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها لأوكرانيا أشكالاً مختلفة من المساعدة، بما في ذلك التدريب والاستخبارات وأنظمة الأسلحة المتقدمة. على رغم أن أوكرانيا استخدمت أسلحة تخولها استهداف الأصول الروسية الواقعة بعيداً من خط المواجهة (على غرار مواقع القيادة، ومستودعات الذخيرة، والمراكز اللوجيستية) والمناطق التي تتركز فيها القوات الروسية، إلا أن روسيا لم تحظَ بخيارات كثيرة ولم يكن أمامها سوى الاعتماد على مدفعيتها، وبعد التعبئة، استخدام هجمات المشاة بغية جعل الدفاع عن البلدات والمدن الأوكرانية متعذراً.
ومن أجل تعزيز التناقض، حاولت القوات الروسية "ترويس" المناطق الخاضعة لسيطرتها، من خلال فرض قيود وشروط متعلقة باللغة والتعليم والعملة، ولجأت إلى التعذيب والإعدام لكي تلجم المقاومة الأوكرانية، هذا إضافة إلى جرائم الحرب الواسعة الانتشار التي ارتكبتها، بما في ذلك التنكيل والاختطاف، فضلاً عن السرقة والنهب والاعتداء الجنسي، مما يبرر خوفها من التخريب والتجسس، وحالات عدم الانضباط والعصيان العام.
حتى الآن، أكدت نتائج النهج الروسي صحة الانتقادات المعروفة لاستراتيجية الحرب الشاملة. فالهجوم على المجتمع المدني الأوكراني لم يؤثر في الدعم الشعبي للحكومة الأوكرانية. وعوضاً عن ذلك، أدى تراكم الأدلة على السلوك الروسي الفظيع إلى جعل أوكرانيا أكثر تصميماً على ضمان تحرير هذه الأراضي وعدم تسليم أي منها مطلقاً إلى روسيا. والجدير بالذكر أن العواقب الإنسانية المترتبة على الأساليب الروسية زادت الدعم الغربي لأوكرانيا. وإضافة إلى ذلك، فإن أهداف الحرب الشاملة الروسية عززت الاعتقاد الأوكراني بأن "التسوية السلمية" غير متاحة. كذلك، لم تنجح تكتيكات الحرب الشاملة الروسية في عرقلة العمليات الأوكرانية.
في الأشهر الأخيرة، قدمت موسكو مبررات قسرية لهجماتها على البنية التحتية المدنية، وربطت ذلك برفض أوكرانيا قبول ضم روسيا أربع مقاطعات في شرق أوكرانيا في سبتمبر (أيلول). وفي الحقيقة، صعبت هذه الهجمات الحياة على الأوكرانيين بشكل كبير، إذ أسفرت عن مقتل المدنيين وجرحهم باستمرار بسبب الضربات العشوائية، وأدت إلى انقطاع التيار الكهربائي على نحو متكرر خلال أشهر الشتاء، لكن الأوكرانيين تعلموا التكيف، فتمكنوا من إسقاط أعداد متزايدة من الصواريخ والطائرات المسيرة مستخدمين دفاعاتهم الجوية ووجدوا طرقاً للتعامل مع معاناة المدنيين. بعد عام من الحرب، لم يظهر أي تأثير واضح في إرادة القتال الأوكرانية.
عودة الدبابات
لقد أدى عام من الحرب في أوكرانيا إلى التشكيك في فاعلية نهج الحرب الشاملة، ولكن ما الذي كشف عنه عن الحرب الكلاسيكية؟ هنا، تحذر التجربة من أن الانتصارات في ساحة المعركة التي تعتبر ضرورية في هذا النهج يمكن أن تكون بعيدة المنال عندما يبدو أن القوات المدافعة تتمتع بمزايا أساسية تجعلها متفوقة على القوات المهاجمة. في مثل هذه الحالات، يمكن أن تعلق الجيوش في مواجهات طويلة وشاقة. ومن الممكن التغلب على عدو يفتقر إلى الأسلحة من خلال إحداث ثغرات في خطوطه، لكن هذا عادة ما يتطلب مناورات بالمركبات المدرعة، ومفاجأة العدو بتقدم غير متوقع، وتحقيق النجاح من خلال الحصار، ودفع العدو إلى تراجع سريع إلى درجة يصبح فيها غير قادر على التعافي في النهاية.
ليس من السهل تحقيق مثل هذه النتيجة. في أوكرانيا، جاءت أنجح الهجمات من الجانبين في الظروف التي كانت فيها الدفاعات ضعيفة على الأرض. في الأيام الأولى من الحرب، حققت روسيا المكاسب عندما حظيت قواتها بعنصر المفاجأة وتمكنت من التحرك بسرعة. وفي الجنوب، لم تواجه مقاومة تذكر، بخاصة حيثما كانت الدفاعات ضعيفة التنظيم، ولا سيما في خيرسون. في المقابل، اتخذت في الشمال مواقع متقدمة لا يمكنها الحفاظ عليها، وسرعان ما واجهت مشكلات ضد الدفاعات الأوكرانية المرنة والرشيقة، واضطرت إلى الانسحاب. ثم، في المرحلة التالية من الحرب، بدءاً من معركة دونباس، تضاءلت المكاسب الروسية، شاملة المناطق الضيقة والصغيرة فحسب، واستغرق تحقيقها شهوراً عدة وترتبت عليه كلف باهظة.
من الجانب الأوكراني، حصل الهجوم الأكثر إثارة للإعجاب في خاركيف في سبتمبر، عندما استغلت قواتها دفاعاً ضعيفاً وغير مهيأ بشكل جيد، حينما كان تركيز القيادة العليا الروسية منصباً على دونيتسك وخيرسون، لكن في المناطق التي تحضرت فيها الدفاعات الروسية كما ينبغي، وجرى تعزيزها بالقوات الإضافية الناتجة عن التعبئة، تباطأ التقدم الأوكراني. ومع بداية فصل الشتاء أصبحت الأرض موحلة مما أدى إلى تقييد القوات الأوكرانية بشكل أكبر. في البداية، تعثر هجوم أوكرانيا المضاد الرامي إلى استعادة السيطرة على خيرسون في أواخر الصيف، ولم تنجح قواتها في إحراز تقدم إلا عندما تمكنت من قطع خطوط الإمداد الروسية، مما جعل خيرسون مدينة يتعذر الدفاع عنها، ثم أخلى السكان المدينة في نوفمبر (تشرين الثاني).
إذا كان على جيش ما تحريك قوة السلاح فوق التضاريس الوعرة، فما يحتاج إليه على الأرجح هو الدبابات.
في الأشهر المقبلة، قد يتحدد الاتجاه الذي تسلكه الحرب أيضاً من خلال التوازن المتغير لقوة الأسلحة. عندما تجد أوكرانيا فرصة للشروع في الهجوم في المرحلة التالية، فهي ستستفيد من مزيد من المركبات المدرعة، بما في ذلك دبابات تشالنجر Challenger وليوبارد Leopard وأبرامز Abrams التي توفرها أوروبا والولايات المتحدة، بعد مناقشات مطولة في يناير (كانون الثاني). وعلى القدر نفسه من الأهمية، ستحصل كييف أيضاً على مركبات المشاة القتالية، ودفاعات جوية محسنة، وقذائف وصواريخ أطول مدى.
لكن الأمر سيستغرق وقتاً حتى يجري تسليم كل هذه الأسلحة وتدريب القوات الأوكرانية على استخدامها. في غضون ذلك، سيتعين على أوكرانيا التعامل مع هجوم روسي جديد يعتمد على الاستنزاف بشكل أساسي كأحد أساليبه، ويقوم على استعداد روسيا لتكبد خسائر كبيرة من أجل تحقيق مكاسبها. وفي حين أن الأفضلية العددية قد تسمح للقوات الروسية بالتقدم في بعض المناطق، إلا أن تلك القوات لم تثبت قدرتها بعد على استغلال أي اختراق في صفوف العدو والتحرك بسرعة إلى الأمام. في الوقت الحالي، أوكرانيا ملزمة بالتعامل مع هذا الضغط على أفضل وجه ممكن، قلقة إزاء معدل استخدامها للذخيرة، على أمل أن تصمد في الجبهة بما يكفي لتحظى بفرصة الانتقال إلى الهجوم في حال بدأ الهجوم الروسي الجديد في التلاشي.
واستطراداً، سيتم توجيه القدرات الأوكرانية الجديدة نحو حرب المناورات. في الأشهر الأولى من الحرب، أعلن عدد من المعلقين الغربيين أن الدبابات عفا عليها الزمن، على أساس الأعداد الكبيرة التي فقدها الروس بسبب الأسلحة الموجهة المضادة للدبابات، والطائرات من دون طيار، ونيران المدفعية. في الواقع، هناك تفسيرات لخسائر الدبابات الروسية، من بينها فشل الروس في اتباع العقيدة الخاصة بهم المتمثلة في استخدام كل الأسلحة في آن معاً، الأمر الذي جعلهم مكشوفين (وسبب آخر لركاكة الهجمات الروسية هو الدور المحدود غير المتوقع الذي لعبته قواتها الجوية. في الحقيقة، بدا أن الضعف الواضح للطائرات الروسية أمام الدفاعات الجوية يوفر تأكيداً إضافياً لما أصبح سمة مميزة تلازم الحرب المعاصرة: استخدام أسلحة رخيصة نسبياً من أجل تعطيل أنظمة باهظة الثمن أو حتى تدميرها).
والآن، فإن الدبابات، إلى جانب عدد أكبر من مركبات المشاة، أصبحت تشكل العنصر الأساسي في مجموعة المعدات الأخيرة التي وافق الغرب على إرسالها إلى أوكرانيا. إذا كان على الجيش تحريك الأسلحة المزودة بدروع واقية فوق التضاريس الوعرة، فهو يحتاج إلى عتاد تنطبق عليه صفات الدبابات إلى حد كبير. نادراً ما يكون من المفيد النظر إلى أي أنظمة من دون مراعاة السياق الاستراتيجي الذي تستخدم فيه والقدرات الأخرى المتاحة لكلا الجانبين. وتجدر الإشارة إلى أن هجوماً أوكرانياً جديداً، ضد الدفاعات الروسية الراسخة، سيمثل اختباراً مهماً للحرب الكلاسيكية في أوضح صورها.
نهايات بعيدة المنال
المشكلة الأساسية في الحروب هي أن البدء بها أسهل من إنهائها. وبمجرد أن تراجعت الحدة التي ميزت الهجوم الروسي في البداية، وجدت موسكو نفسها عالقة في صراع طويل الأمد لا تجرؤ فيه على التنازل والإقرار بالهزيمة على رغم أن نصرها بعيد المنال، هذا النوع من الحروب يصبح مستنزفاً لا محالة، إذ يستنفد مخزون المعدات والذخيرة وتتضرر القوات بشكل كبير. وتزداد المغريات التي تشجع على إيجاد طريق بديل للنصر من خلال مهاجمة البنية الاجتماعية والاقتصادية للعدو. لم تتخلَّ روسيا عن هذا المسار البديل على رغم أنه لم يؤدِّ حتى الآن إلا إلى تعزيز العزيمة الأوكرانية.
في الواقع، ثابرت روسيا على اعتماد استراتيجيات غير فعالة ومكلفة، ربما لأنها اعتقدت بأن حجمها واستعدادها لتقبل التضحيات هما اللذان سيحسمان النتائج في نهاية المطاف. على النقيض من ذلك، يعتمد طريق أوكرانيا إلى النصر على مقاومة القوات الروسية بما يكفي لإقناع موسكو بأنها شرعت في حرب عقيمة. ونظراً إلى أنه لا يمكن أن تستهدف الشعب الروسي، يجب على أوكرانيا استغلال دقة أنظمتها البعيدة المدى لاستهداف الجيش الروسي، مما يجعل خطوط الإمداد الروسية وشبكات القيادة وتجمعات القوات عرضة للخطر. وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى خلق ظروف يكون فيها الشعب الأوكراني قد عانى بما يكفي وضاق ذرعاً، فإن أوكرانيا تسعى إلى وضع الجيش الروسي في موقف لا يحسد عليه. ومع دخول الحرب مرحلتها الحرجة التالية، ستخضع هاتان الاستراتيجيتان ومقارباتهما المتناقضة إزاء الحرب، لأصعب الاختبارات.
*لورنس فريدمان أستاذ فخري في دراسات الحروب في كينغز كوليدج لندن، ومؤلف كتاب "القيادة: سياسة العمليات العسكرية من كوريا إلى أوكرانيا".
فورين أفيرز
فبراير (شباط) 2023