Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العقل المأسوي" هل كان سيمنع "حماقة" غزو العراق؟

كتاب جديد لـ"دي كابلان" عبر فيه عن ندمه على المشاركة في الحرب ورأى أن "مئة سنة من الطغيان خير من عام واحد من الفوضى"

الطموح العظيم لإدارة جورج دبليو بوش إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط انتهى بحروب مطولة ودماء كثيرة (أ ف ب)

عقدان مضيا على #الغزو_الأميركي_للعراق، الذي يكاد يعتبر الخطأ الاستراتيجي الأفدح في #التاريخ_الأميركي. وعلى رغم أن هذين العقدين شهدا عديداً من المراجعات والانتقادات والإدانات الصريحة لهذا القرار من كتاب وباحثين وسياسيين أميركيين، فإن الأسابيع والأشهر الأخيرة شهدت موجة جديدة من هذه النقاشات، كان منها كتاب المؤرخ الأميركي المرموق ميلفن بي ليفلر "في مواجهة صدام حسين: جورج بوش الابن وغزو العراق" الذي سبق أن تناولناه هنا.

وها نحن أولاء نتناول اليوم كتاباً آخر في الموضوع نفسه وإن يكن مكتوباً من زاوية مختلفة، فهو لا يبحث في أسباب الغزو، ولا عمن يتحمل المسؤولية، ولا يعنيه التنقيب في الوثائق أو محاورة صانعي القرار والمقربين من دوائرهم، إنما هو كتاب يبحث عن خلاص شخص واحد، هو مؤلفه نفسه، وعلى الهامش يحاول طرح فلسفة مغايرة لممارسة السياسة الخارجية، ما لم يكن هذا هو المتن والأول هو الهامش.

يقول الكاتب الأميركي جون غراي عن هذا الكتاب "البليغ الوجيز" إن "فيه من الحكمة أكثر مما في دراسات ودراسات ضخمة في العلوم السياسية، ولو أن كتاباً معاصراً واحداً ينبغي أن يوضع بين أيدي من يقررون أمور الحرب والسلام فهو هذا الكتاب".

الكتاب المقصود بهذا الثناء الأقصى هو "العقل المأسوي: الخوف والمصير وعبء القوة" للكاتب والصحافي الأميركي روبرت دي كابلان، وصدر عن مطبعة جامعة ييل في قرابة 150 صفحة فقط. وكتبه مؤلفه اعتذاراً عن موقفه السابق من حرب العراق، لكنه بالطبع أكثر من محض اعتذار.

روبرت كابلان كاتب أميركي مرموق له قرابة 25 كتاباً في التاريخ والحرب والجغرافيا السياسية، وهو من أهم الكتاب الأميركيين في العلاقات الدولية، فضلاً عن كونه صحافياً مخضرماً مضى به عمله إلى كثير من الأماكن الملتهبة، فعمل مراسلاً حربياً من البلقان واليمن وأفغانستان وسيراليون وغيرها. أما حرب العراق على وجه التحديد فقد ناصرها الرجل إيماناً منه بأن إطاحة طغيان صدام حسين خير لبلده، لكنه حينما رجع مع قوات المارينز الأميركية في معركة الفلوجة الأولى في أبريل (نيسان) عام 2004 وجد نتيجة أخرى "شيء أسوأ كثيراً حتى من عراق الثمانينيات من القرن العشرين: فوضى دموية، الجميع ضد الجميع، وضع استطاع نظام صدام أن يقمعه عبر أشد أشكال وحشيته تطرفاً".

لم يكن الواقع العراقي الفوضوي الدموي الذي اصطدم به كابلان دافعاً إلى تغيير قناعاته فقط. يقول "دفعني الاكتئاب المرضي الذي عانيت منه سنين بعد ذلك بسبب غلطتي في شأن حرب العراق إلى تأليف هذا الكتاب. لقد فشلت في امتحان الواقعية [السياسية]... وساعدت في الترويج لحرب في العراق أدت إلى مئات الآلاف من الوفيات، التي ظلت تثقل نومي لعقود، وتحطمني في بعض الأوقات، ودفعتني إلى تأليف هذا الكتاب".

غير أن "العقل المأسوي" ليس إعلاناً للتوبة، أو نتيجة للندم واعتذاراً عن الخطأ وحسب، وليست "المأسوية" في العنوان إشارة إلى اكتئابه الشخصي أو ألمه أو إحساسه بالمسؤولية عما أريق من دماء، لكن "المأسوية" أو "العقل المأسوي" بالأحرى هو جوهر تفرد هذا الكتاب وسر أهميته، ولو في تقدير جون غراي في مقاله عن الكتاب (نيوستيتسمان ـ 28 يناير "كانون الثاني" 2023).

يقول غراي إن "جذر خطأ كابلان، مثلما تبين له، هو عجزه عن التفكير بشكل مأسوي". والمأساة بحسب ما ينقل غراي عن كابلان "هي الصراع بين خيرين. فكلتا العدالة والحرية سلعة جيدة، ولكن السلام والنظام أيضاً كذلك"، وقد تتعارض حزمة (العدالة والحرية) مع حزمة (السلام والنظام)، لكن هذا التعارض المحتمل، والواقعي كما نرى في كثير من الحالات، "ينكره المؤمنون بأن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان تنتشر في العالم، فيسعون إلى إسراع انتشارها، من خلال الحروب الرامية إلى تغيير الأنظمة، وبعض هؤلاء المؤمنين يتولون مناصب رفيعة في القوى العسكرية البارزة في العالم".

يكتب كابلان "إن الاعتقاد أن قوة الولايات المتحدة قادرة دائماً على تصحيح العالم انتهاك للوعي المأسوي. وعلى رغم ذلك فإن عناصر مهمة من نخبة السياسة الخارجية لدينا في واشنطن تتبنى هذه النظرية، لأن السياسة في ذاتها عملية تسعى إلى تحسين -بل إصلاح- مواقف لا حصر لها في الخارج، تثق النخبة في أن كل مشكلة قابلة للإصلاح، ويسمون كل من يختلف معهم في ذلك بأنه ذو تفكير قدري".

أتصور أن أي ارتباك قد يستشعره القارئ في الفقرة السابقة أو في أي موضع من هذه المقالة إنما مرده إلى ميراث كلمة (المأساة) ذاتها الذي قد يظل يطغى على القارئ مغيباً المعنى المحدد الذي يقترحه كابلان للمأساة وللعقل المأسوي أو الوعي المأسوي. كابلان يرى أن جوهر المأساة لا يتمثل في مشكلة الشر، فـ"الهولوكوست والإبادة الجماعية في رواندا ما كانتا مأساتين وإنما كانتا جريمتين هائلتين شنيعتين"، أما جوهر المأساة فهو القدر، "إذ يواجه البشر خيارات لا مفر منها فيكون اللجوء إلى أي منها سبباً في خسائر لا يمكن تعويضها"، وهذا هو المعنى المحدد للمأساة عند كابلان: الاختيار.

حماية المصالح الأميركية

يكتب فرانسيس ب سيمبا مستعرضاً الكتاب في "نيويورك جورنال أوف بوكس" قائلاً إن "روبرت دي كابلان يقترح في هذا الكتاب سياسة خارجية واقعية لحماية المصالح الأميركية في العالم ولاجتناب كارثة. وهو لا يستعمل فقط دروس التاريخ، وإنما يستعين كذلك بحكمة الكلاسيكيات الأدبية ليوضح الحاجة إلى تكوين (عقل مأسوي) لدى رجال الدولة، عقل يفهم حدود القدرة البشرية ويعين على (الوقاية من الغطرسة)".

مفهوم أن الغطرسة قد تضلل القادة وتوهمهم ألا حدود لقدرتهم، ومفهوم أننا بحاجة إلى وقاية من هذه الغطرسة التي قد تجعل قوة عظمى كالولايات المتحدة تقرر غزو بلد كالعراق، فيكون ذلك وبالاً عليها وعليه، لكن لماذا يكون العقل المأسوي هو الوقاية من هذه الغطرسة؟

يكتب جون غراي "لقد فهم سوفوكليس أن الآلهة فرضوا المأساة على البشر ليعلموهم التواضع"، وينقل عن مترجم سوفوكليس إلى الإنجليزية قوله إن "المأساة عند سوفوكليس تقوم على صراع بين الآلهة والبشر، وكان لهذا الصراع سببه عند الآلهة، إذ أرادوا أن يلقنوا البشر درساً، ويعلموهم حدودهم، ويلزموهم بتقبلها".

وليس في اللجوء إلى سوفوكليس من أجل فهم كابلان تزيُّد من غراي، فالحق أن كتاب كابلان نفسه لا يقوم فقط على الخبرة الميدانية التي جناها من تنقله وراء الحروب في ثلاث قارات، ولا من طول معاركته الشؤون والعلاقات الدولية والسياسة الخارجية لبلده، لكنه يقوم أيضاً على مسرحيات وليم شكسبير، ودراما قدامى كتاب المسرح الإغريقي، وكتاب آخرين من أمثال ميلفيل صاحب "موبي ديك" وغيرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في استعراضه المنشور بمدونة معهد الأمن الوطني (thescif.org)، يكتب جوشوا سي هومنسكي أن كابلان في (العقل المأسوي) -كما في مؤلفاته السابقة في الجغرافيا السياسية والشؤون الدولية- "يعثر على الحقيقة والإجابات في الأعمال الكلاسيكية ولا يكف عن القول إن غيابها اليوم قد أدى وسيظل يؤدي إلى زلات متكررة من صناع السياسة".

يكتب هومنسكي أن كابلان قد يكون محقاً في أن قراءة الكلاسيكيات وشكسبير قد تنتج قادة أوعى ثقافياً وأقدر على التأمل، "لكن لهذه النظرية حدوداً. فما من قدر من المعرفة بالكلاسيكيات ليقدر على خلق خيارات سياسية أكثر أو يجعل المفاضلة بين الخيارات المتنافسة أقل تعقيداً أو إيلاماً من الناحية السياسية". ويتساءل هومنسكي "هل كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -بحسب ما يلمح كابلان- ليحجم عن غزوه الطائش لأوكرانيا لو قرأ مزيداً من شكسبير؟ وهل كان الرئيس الأميركي جو بايدن ليتخذ أي موقف أفضل في تعامله مع الصين لو كان أكثر دراية بالإلياذة؟ الإجابة شبه المؤكدة هي لا".

ولعلنا نحن أيضاً في موقف مأسوي الآن، أي إننا مخيرون بين اثنين، إما هومنسكي اليائس من قدرة المعرفة على التغيير، والموقن يقيناً قاطعاً بأنه ما من أثر للثقافة في اللحظات الحاسمة، وإما كابلان الذي يقول بالعكس.

الفوضى أم الطغيان؟

يعرف كابلان المأساة، بحسب هومنسكي، بأنها "مفاضلة بين سلعتين، وقبول بالسلعة الأقل جودة بدلاً من السلعة التي قد تكون الأجود لولا أنها تأتي مصحوبة بالفوضى".

والفوضى، في الواقع، هي الرعب المسيطر على كابلان منذ تجربة العراق. وأولى الأولويات لديه هي النظام، إلى حد أنه يستشهد بمقولة ينسبها إلى الإمام أبي حامد الغزالي يقول فيها إن مئة عام من الطغيان خير من عام واحد من الفوضى، ولعل قول الإمام هذا -إن كان قوله- إنما جاء في معرض الحديث عن جور الحاكم أو الخروج عليه أو الفتنة أو أي مما قد يكتب فيه عالم مسلم.

يكتب هومنسكي أن "كابلان يرى دمقرطة العراق مأساة حقيقية. فإطاحة صدام حسين وإقامة ديمقراطية في العراق، وإن كانا أمرين محمودين قد قوضا خيراً أكبر في تقديره، وذلك الخير هو النظام الذي كان يحافظ عليه صدام حسين، مهما بلغت قسوته واستبداده وعنفه".

يرى هومنسكي أن "هذه وجهة نظر متطرفة ليس من الوارد أن يتبناها غير القلة"، ولعله في هذا يحسن الظن أكثر مما ينبغي بالكثرة. ألا نرى بأعيننا شعوباً كثيرة آمنت بمثل ما آمن به كابلان، وآثرت وجبة مشبعة من الطغيان والاستقرار، على وجبة كريمة من الحرية والفوضى؟

 

يكتب هومنسكي أن كابلان في كتابه هذا "شأن كتبه السابقة، يخاطر بأن يظهر بمظهر الضيف الممل في حفل عشاء، ذلك الذي على رغم سعة اطلاعه ومعارفه (وهو بارع في نوادر الحانات) قد لا يخلو من كآبة، لكن كتبه عموماً في الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية تمثل مزيجاً من الفن والكلاسيكيات والتاريخ والشؤون المعاصرة".

ويمضي هومنسكي فيكتب أن في الكتاب "قدراً من تعظيم الذات. فكابلان يكتب عن الأهمية التي يتصورها لكتابه السابق (أشباح بلقانية) وتأثيره المزعوم على الرئيس الأميركي بيل كلينتون في تأخير التدخل الإنساني الذي قادته الولايات المتحدة في المنطقة". يقول هومنسكي إنه "من المؤكد أن كلينتون قرأ الكتاب، لكن من المحتمل أن تأثير الكتاب في تفكيره وفي عملية اتخاذ القرار الحكومي أقل مما يظن كابلان. ويمكن القول إن أثر الكتاب، إن كان له أثر، هو أنه صادف هوى لدى البيت الأبيض الذي كان عازفاً عن التحرك ويفتقر إلى كثير من الخيارات السياسية أصلاً، فجاءت حجة كابلان السردية لتدعم حسابات قائمة أصلاً".

غير أن الأرجح أن الأمر لا يقتصر على الرغبة في تعظيم الذات، بقدر ما هو مثال رأى الكاتب أنه يثبت من خلاله أن كتابه قد يكون له تأثير في صنع القرار إذا ما صادف المسؤول المناسب، وهومنسكي على أية حال، وهو مدير مركز مايك روجرز للاستخبارات والشؤون العالمية في مركز دراسات الرئاسة والكونغرس، وزميل معهد الأمن القومي بجامعة جورج ميسون، يعترف في مقاله بأنه مدين بتكوينه في مرحلة دراسته الجامعية لكتاب "الفوضى القادمة" لكابلان، وبأنه من جمهور قرائه المخلصين.

طموح عظيم ودماء كثيرة

يكتب كابلان أن العقل المأسوي هو العقل الذي يؤثر النظام على الفوضى، لكنه أيضاً العقل الذي يعي بأن النظام قد ينحط إلى الطغيان. ويكتب أن العواقب الوخيمة غير المقصودة التي قد تنجم عن "الطموح العظيم" والغطرسة هي عواقب يمكن أن يستشرفها العقل المأسوي، ويستشهد بما كتبه الإغريق عن المأساة الناجمة عن الغطرسة والطموح الجامح، كما يستشهد بما في "يوليوس قيصر" لشكسبير من إشارة إلى "جاذبية الطموح التي لا تقاوم" وما أفضت إليه من صعود قيصر واغتياله، ثم ما أعقب ذلك من حرب أهلية، رابطاً ذلك بـ"الطموح العظيم" لإدارة جورج دبليو بوش إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وما أدى إليه من حركات تمرد عراقية وأفغانية وحروب مطولة وكثير من الدماء.

 

وينهي كابلان كتابه بتبنيه فكرة أن "الوعي المأسوي" لازم مرة أخرى في هذه اللحظة التي تشهد خصومات بين القوى العظمى في أوروبا الشرقية وفي بحر الصين الجنوبي، منبهاً الصحافيين والمثقفين والمعلقين الرامين إلى تصحيح جميع أخطاء العالم إلى أنه "ليس كل شرير هو هتلر، وليس كل عام هو 1939". وإلى "أننا نعيش في عالم له قيوده وحدوده. وأن العقل المأسوي يدعو إلى الحذر والصبر والوعي بالخيارات القليلة التي نواجهها مهما اتسع الأفق، وأنه ليس كل شيء ممكناً، بغض النظر عن الظروف".

يقول غراي في مقالته عن الكتاب إن كابلان لم يعتمد فقط على كلاسيكيات الأدب والمؤلفين الذين فتحوا جحيم النفس الإنسانية فلم يلقوا نظرة خاطفة ارتدوا على أثرها مذعورين، وإنما أمعنوا النظر وأطالوا التحديق في الألم، لكنه اعتمد أيضاً على الكتابة "من أعماق اكتئابه، مستخلصاً عديداً من اللآلئ". ويمضي فيقول إن "المهللين في واشنطن ولندن لحرب العراق لا يزالون إلى اليوم ينكرون أية مسؤولية عن قوى الدمار التي أطلقوها. ويكاد كابلان يكون الوحيد الذي اعترف بدوره وخطئه. أما قادتنا فلم يتعلموا شيئاً. وما اقترفوه في أفغانستان والعراق لم يكن مأسوياً، على رغم معاناة كثيرين جراءه خسائر فادحة، لكنه كان حماقة خالصة. والخطر الحق أن هذه الحماقة ستتكرر، مع آثار أكثر ضرراً، في ما يتعلق بروسيا والصين".

في (العقل المأسوي) ينقل كابلان عن الكاتبة الكلاسيكية الأميركية إديث هاملتن تعريفها للمأساة بأنها "جمال الحقائق التي لا تطاق"، ولو أن العقل المأسوي هو العقل القادر على تقبل الحقيقة مهما بدا أنها لا تطاق، والتخطيط للمستقبل بناءً على هذه الحقائق، فالعقل المأسوي ضرورة ملحة، أو على حد قول كابلان "لم يحدث من قبل أن كان التفكير المأسوي، ومعانقة الخوف من دون سماح له بأن يشل حركتنا، أكثر ضرورية مما هو الآن".

العنوان: The Tragic Mind: Fear، Fate، and the Burden of Power

تأليف: Robert D Kaplan

الناشر: Yale University Press

المزيد من كتب