Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة النوق السودانية من التصدير إلى التهريب

"هناك إحصائية تقدر قطيع الإبل في البلاد بنحو خمسة ملايين رأس"

ظل الفخر بامتلاك الإبل عند مربيها في شرق وغرب وشمال ووسط السودان باقياً لا تكدره إلا ظواهر تهريبها التي تنشط بين وقت وآخر (اندبندنت عربية – حسن حامد)

كانت #الإبل ومنذ قديم الزمان أعز المطايا، فبالارتحال عليها تكون أنيسة عبر الفيافي والقفار البعيدة فضلاً عن قيمتها العالية كأحد أعمدة اقتصاد #الثروة_الحيوانية، ولا تنفصل عن كونها أحد مقومات التراث الشعبي في السودان.

ولأن استئناس الإبل كان أول ما كان في الجزيرة العربية، فقد أخذت الطبيعة البدوية السودانية منها مظاهر تربية الإبل بكل ما فيها من تراث. فعند مضارب مربي الإبل تستعاد سيرة الفروسية والحب، منذ أن طلبت قبيلة "عبس" من فارسها عنترة بن شداد "نوق العصافير" مهراً لابنة عمه عبلة بنت مالك. وخرج عنترة يطلبها من ملك الحيرة النعمان بن المنذر الذي كان يزدهي فخراً واعتزازاً بما يملكه من أنواع الإبل ومنها بالطبع "نوق العصافير" التي كانت مضرباً للأمثال.

 

ومثل ما عند أولئك، ظل الفخر بامتلاك الإبل عند مربيها في شرق وغرب وشمال ووسط السودان باقياً لا تكدره إلا ظواهر تهريبها التي تنشط بين وقت وآخر. ففي ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي وحده، أفشلت شرطة مكافحة التهريب محاولة تهريب 369 رأساً من الإبل في عمليتين منفصلتين شرق البلاد. وقبلها حدثت عمليات تهريب كثيرة تم إحباطها، وأخرى نجت من أعين السلطات عبر الحدود الشاسعة التي يتقاسمها السودان مع سبع دول ولا تحجزها فواصل طبيعية. ويشكل تهريب الإبل أحد أعمدة التهريب الأخرى، وبالوسائل ذاتها التي يتم بها تهريب البشر والسلاح والسكر والحبوب وغيرها، وإن كان المهربون يبتدعون الطرق ويتحينون الفرص عبر سنوات، فإنه في الفترة الأخيرة يستغلون حال السيولة الأمنية التي أسست بعد ثورة ديسمبر 2018.

حظر التصدير

لم يكن التهريب هو السلاح الوحيد الذي يتهدد بقاء هذه الثروة في حزام الصحراء وشبه الصحراء والسافانا خفيفة وغزيرة الأمطار، وإنما قبله، نشب جدل واسع بين مربي الإبل والتجار والسلطات بسبب تصدير النوق (إناث الإبل) الذي تعرض لحالات عدة من المنع والسماح، ما بين مؤيدين ورافضين. فالرافضون يعتمدون على حقيقة تأثير ذلك في نقص عدد الإناث، مما ينعكس مباشرة على الإنتاج، أما المؤيدون لتصديرها فظلوا يروجون إلى ضرورة التخلص من النوق، لأن نسبتها زادت في القطيع السوداني بوتيرة متسارعة وأصبحت تؤثر في المراعي. وأصدرت هيئة الجمارك بوزارة الداخلية السودانية، في وقت سابق، بحثاً أفاد بأن الحديث عن زيادة إناث الإبل فرضية خاطئة، لأن من الطبيعي أن تكون نسبة الإناث في الإبل كبيرة، وأن نسبة التكاثر في شرق السودان تقارب 91 في المئة، وقد تحدث كل عامين أو ثلاثة أعوام، ويقابل ذلك نفوق بنسبة عالية في أعداد المواليد، وأن عدد الولادات للناقة محدود لا يتعدى ست ولادات، لهذا يجب أن يكون عدد الإناث كبيراً للمحافظة على القطيع.

ومع أن الحكومات السودانية ظلت ملتزمة في عهود سابقة حظر تصدير إناث الماشية ومنها الإبل، لكن، في ظل النظام السابق، كان هناك قرار لوزارة الثروة الحيوانية عام 2003، تم السماح بموجبه بتصدير إناث الإبل بنسبة 30 في المئة وفق شروط معينة. وفي عام 2008، صدر قرار لمجلس الوزراء تم بموجبه فك الحظر عن تصدير إناث الماشية، وأصبحت الشروط أضعف من ذي قبل. وبعد سنوات، صدر قرار مجلس الوزراء لعام 2017 الذي أكد أن "لا خوف على سلالات الماشية السودانية، لأن الجينات الوراثية تنتقل عبر الذكور". وهذا القرار أثار مربي ومالكي المواشي ولم توضع ضوابط جديدة إلى أن أصدر المجلس العسكري الانتقالي قراراً في يوليو (تموز) 2019، ألغى القرار السابق، ولكن في سبتمبر (أيلول) 2020 عادت وزارة الثروة الحيوانية والسمكية وأصدرت قراراً يسمح بتصدير إناث الإبل، خصوصاً صادر الهجن وفق شروط معينة بررت لها بأنها تحقق مكاسب مادية لدعم حصائل الثروة الحيوانية.

مؤسسة متكاملة

وتحدث أوشيك آدم علي الأستاذ في كلية "زمزم" الجامعية ومؤلف كتاب "الإبل البجاوية... دراسة ثقافية تاريخية اجتماعية" عن أن "الإبل تشكل مكوناً أساسياً لثقافة أهل السودان، وهي مؤسسة قومية متكاملة تلتقي فيها النواحي التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. فتاريخياً، كانت الإغارة على الأعداء في مصر القديمة تتم بالإبل التي تحمل الجنود بعتادهم العسكري إلى مناطق المعارك. وقد ذكرها المتنبي عند قدومه إلى كافور الإخشيدي، وعندما خذله، فكر في الهرب من مصر بأسرع وسيلة ممكنة فاختار ناقة بشارية بجاوية وذكرها في قصيدة له، وصفها بأنها ناقة سريعة، وهذا دليل على أن الإبل السودانية كانت منذ فترات تاريخية تصدر إلى مصر".

وقال آدم علي عن أهميتها الثقافية إنها "تحتل حيزاً كبيراً في التراث الشعبي، خصوصاً لدى الإبالة ويدخل فيه الشعر واللغة والأمثال والأساطير وغيرها". أما اجتماعياً فذكر أنها "تشكل إحدى دعامات تثبيت السلم والوئام في المجتمع، ولها دور مميز في سلامته، وتدخل في دفع مهور النساء والديات والقصاص". أما عن دورها الاقتصادي فأوضح أنها "كانت تدخل في تجارة الترانزيت، والمقصود بها البضائع القادمة عبر البحر الأحمر من الشرق الأقصى أو من الخليج العربي، فعندما تفرغ في ميناء سواكن، كانت تحمل إلى مدينة بربر والمناطق الأخرى من السودان، كما أنها كانت وسيلة مهمة لنقل الحجاج عبر الصحراء، من أفريقيا في المنطقة التي كان يطلق عليها اسم السودان القديم التي تبدأ من السنغال غرباً حتى البحر الأحمر شرقاً، وأيضاً من مناطق المغرب العربي إذ كانوا يمرون بسواكن أو ميناء عيذاب في الماضي. وهذا جعل للمجتمع البجاوي تواصلاً مع الشعوب الأخرى"، وواصل أنها "حتى الآن، تشكل العمود الفقري للاقتصاد الرعوي لإنسان الريف ووسيلة للتداول والمقايضات لخصوصيتها وتميزها عن الحيوانات الأخرى".

"الإبل البجاوية"

وأكد مؤلف كتاب "الإبل البجاوية" أنه "نتيجة لموجات الجفاف المتعاقبة التي تعرض لها السودان منذ بداية القرن العشرين وأبرزها منتصف الثمانينيات، وبداية التسعينيات، فقد انعكس على الأنشطة المرتبطة بالإبل من خلال التربية والرعاية لأن أعدادها سجلت نفوقاً عالياً، وأدت إلى انحسار التراث المرتبط بالإبل". وإضافة إلى الظروف المناخية "هناك تمدد المشاريع الزراعية على حساب الغطاء النباتي والرعوي في شرق السودان، وأصبحت تحد من حركة الإبل، مما قلل من الاستفادة من الأراضي التي كانت تمثل مناطق رعوية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبين آدم علي أن "الإنسان البدوي، خصوصاً عند البجا، حريص على المحافظة على الإبل وما تمثله كاقتصاد رعوي، باتخاذه آليات عدة، أولاها وسم الإبل بطريقة خاصة بكل قبيلة، إذ يعد هوية خاصة لها، والثانية تقفي آثار الإبل الهاربة والمنهوبة، والثالثة الطب الشعبي ويتكون من بعض الأعشاب التي تنتجها المنطقة أو الصخور أو التربة لمداواة الإبل المريضة، وكذلك الكي الذي يمثل جزءاً من التراث الطبي الشعبي. والرابعة هي الترحال وتوفير الماء والكلأ لها، والتأقلم على البيئات الجديدة بالابتعاد عن المناطق التي توجد بها ذبابة (تسي تسي) المزعجة والناقلة للأمراض للإبل مما يتسبب في نفوقها".

نشاط التهريب

وفي ما يتعلق بتهريب إناث الإبل، قال الأستاذ الجامعي أوشيك "أفضل سلالة في شرق السودان هي الجمل البشاري، وهو معروف منذ فترة طويلة، واستطاع مربو الإبل بواسطة التهجين أن يستخلصوا هذه السلالة الفريدة، وهي معروفة في سباقات الهجن وغالباً لونها أبيض أو رمادي وضامر البطن وخفيف الحركة وسريع". وأضاف "تعرضت هذه السلالة خصوصاً وبقية السلالات إلى التهريب، في عمليات تضرر منها السودان اقتصادياً. وفي حين أننا نجد كثيراً من دول العالم تحفظ حقها في أنواع السلالات بإجراء عمليات مسح جيني حتى لا يتم التغول عليها، فإن هذه الآلية غير موجودة في السودان". وأورد أنه يتردد أن "بعض الدول تعمل في صحراء النقب على عمليات علمية مكثفة، على أنواع من الإبل السودانية لإنتاج سلالات أفضل من الموجودة حالياً، مما يمكن أن يخلق منافسة قوية للإبل السودانية، وعليه يجب أن يكون تصدير إناث الإبل وفقاً لأسس معروفة وهي عدد الإبل الموجودة في السودان، وما يستطيع تصديره منها بشكل لا يؤثر في الاقتصاد بطريقة عشوائية لأنه سيقلل من عدد المواليد".

موارد وراثية

من جانبه، قال تاج الدين البشير الأستاذ في كلية الإنتاج الحيواني بجامعة "الخرطوم" إن "هناك إحصائية تقدر قطيع الإبل في السودان بنحو خمسة ملايين رأس، وتتنوع بين الإبل الخاصة بالنقل خصوصاً المحاصيل وأمتعة البدو الرحل، وفي الترحال من الريف إلى الحضر، وتلك الخاصة بالسباق والهجن". وأضاف "يتميز السودان بوجود هذين النوعين من الإبل على مستوى الدول الأفريقية، لأنه يتمتع بمراع واسعة متنوعة الأشجار والأعشاب، ولدى الإبل خاصية تأقلم عالية في السودان لأنه دولة مدارية".

وعن رأيه في تصدير إناث الإبل، شدد على أنه "يفترض منع تصدير الإناث لخاصية حفظ النوع والكم، لأن ذلك يقع في إطار الموارد الوراثية، لذلك لا بد من أن تسن قوانين لمنعها، لأنها الحاضنة للمواليد والأجنة وفي تصديرها هدر للموارد، ولعائدها الاقتصادي المتمثل في الاستفادة من لحمها ولبنها وصوفها". وبين أن سبب تنوع السلالة السودانية من الإبل يعود إلى تنوع الأعشاب والأشجار. وقال "حتى تلك التي تؤخذ من السودان وتستولد في بيئة أخرى فإنها لا تنتج مثل السلالة السودانية نسبة لفقدانها التنوع الغذائي الطبيعي".

 

 وعن تهريب الإبل تابع قائلاً "هناك تهريب منظور تكافحه الدولة لأنه يدخل في الأمن الاقتصادي للبلد، ولأهمية الإبل ومزاياها الموجودة حتى في مخلفاتها مثل العظام والجلود التي تدخل في صناعات كثيرة". وأوضح أن "شرطة مكافحة التهريب تعرف طرقه التي تنشط في دول الجوار وخصوصاً مصر حيث تحظى الإبل المهربة بتجارة رائجة هناك. وأيضاً هناك تهريب غير منظور وبعيد عن أعين المكافحة، وللمربين والتجار دور أساسي فيه، إما لعدم إدراكهم خطورة الأمر وإما للكسب السريع". وتابع أنه "كما أن الإبل تستعمل لتهريب الأسلحة والذهب وغيرها من الأنشطة الممنوعة، لذلك فإنه لا بد للدولة من أن تسن قوانين لمكافحة التهريب، إذ إن القوانين الحالية غير رادعة". ورأى البشير أن "دور إناث الإبل في سباق الهجن في السودان غير منظم ويكون في إطار ضيق، يتم بصورة اجتماعية غير علمية، لكن الدولة بدأت في تحديد مناطق معينة تتركز فيها الإبل مثل إقليم كردفان وشرق السودان والمنطقة الوسطى".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات