Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إذاعات عربية قدمت لكم الانقلابات و"البلاغ رقم واحد"

فجأة ينقطع البث وتصدح موسيقى عسكرية ثم يعلو النداء: "أيها الإخوة المواطنون... بالاتكال على الله والشعب..."

أحمد سعيد الصوت الدعائي لسياسات الرئيس جمال عبد الناصر (وسائل التواصل)

يوم الجمعة 27 يناير (كانون الثاني) 2023 توقفت إذاعة "بي بي سي عربي" عن البث، لتطوي مرحلة كانت فيها الإذاعات تعلن الانقلابات_العسكرية في #العالم_العربي، ليذاع منها #البلاغ_رقم 1، وليبدأ بعده عهد جديد.

لم يكن العالم العربي بعيداً من تحولات البث الذي بدأ مع مطلع القرن العشرين، حيث بدأت الإذاعات تنمو وتتأسس. بدأت في مصر والجزائر منذ عام 1925، ثم في المغرب عام 1928، وتونس عام 1935، والعراق عام 1936، ولبنان عام 1938، وسوريا عام 1941.

 

كان الهدف تعميم القدرة على الوصول إلى الناس في كل المناطق من طريق أجهزة الراديو، ولكن لم يكن من المتوقع وقتها أن تتحول هذه الإذاعات إلى بند أول في خطط الانقلابات العسكرية، وبدلاً من أن تكون محطة الإذاعة مكاناً لتلاقي الكفاءات الغنائية والثقافية والترفيهية، صارت هدفاً عسكرياً وموقعاً من مواقع السلطة الاستراتيجية للتوجيه والإرشاد وخدمة الأنظمة. من يضمن السيطرة على الإذاعة يضمن السيطرة على البلاد. ومن هنا جاءت قصة "البلاغ رقم واحد"، خصوصاً في الفترة الممتدة من نهاية الأربعينيات حتى بداية السبعينيات مع الأخذ في الاعتبار أن التلفزيون بات أيضاً هدفاً مثل الإذاعة منذ نهاية الخمسينيات وقيام محطات التلفزة تباعاً في العالم العربي، ولكن معظم الانقلابات بدأت في الإذاعات.

ما يجدر التوقف عنده هو أن "هنا لندن" لم تكن المحطة الوحيدة العالمية الموجهة إلى العالم العربي، وتحديداً في الحرب العالمية الثانية، حيث إنه نشأت في المقابل "إذاعة برلين العربية"، وكان أحد أشهر مذيعيها يونس بحري، العراقي الذي كان يخاطب المستمعين بعبارة "إذاعة برلين... حي العرب"، وكان لجأ إلى ألمانيا مع مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وعدد من الشخصيات المؤيدة للألمان والمعارضة للحلفاء، ولكن هذه التجربة انتهت بانتهاء الحرب وخسارة الألمان.

 

"البلاغ رقم واحد"

في 30 مارس (آذار) 1949 افتتح رئيس أركان الجيش السوري حسني الزعيم أيام الانقلابات العسكرية، عندما احتلت وحدة عسكرية إذاعة دمشق لتبث البلاغ رقم واحد. منذ ذلك التاريخ كانت هناك لغة مشتركة تقريباً لهذه البلاغات تبدأ بقطع البث، ثم ببث موسيقى عسكرية، وبعدها يذاع "البلاغ رقم واحد". ويبدأ معظم هذه البيانات بعبارة "أيها الإخوة المواطنون، بالاتكال على الله والشعب...".
صبيحة ذلك اليوم أعلن الانقلابيون، "مدفوعين بغيرتنا الوطنية، ومتألمين مما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسف ممن يدعون أنهم حكامنا المخلصون، لجأنا مضطرين إلى تسلم زمام الحكم موقتاً في البلاد التي نحرص على المحافظة على استقلالها كل الحرص، وسنقوم بكل ما يترتب علينا نحو وطننا العزيز، غير طامحين إلى تسلم الحكم، بل القصد من عملنا تهيئة حكم ديمقراطي صحيح"، ولكن في 14 أغسطس (آب) من العام نفسه جاء البلاغ رقم واحد، ليعلن انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم، "لقد قام جيشكم الباسل بالانقلاب يوم الثلاثين من آذار الماضي لينقذ البلاد من الحالة السيئة التي وصلت إليها، لكن زعيم ذلك الانقلاب أخذ يتطاول هو وحاشيته على أموال الأمة، ويبذرها بالإثم والباطل، ويعبث بالقوانين وحريات الأفراد. لهذا، وبعد الاعتماد على الله، عزم جيشكم، الذي لا يريد إلا الخير بالبلاد، أن يخلصها من الطاغية الذي استبد هو ورجال حكومته. وقد أتم الله للجيش ما أراد، فأنقذ شرف البلاد، وآلى على نفسه أن يسلم الأمر إلى الأحرار المخلصين من رجالات سوريا...".
ولم يطل الأمر أكثر من ثلاثة أشهر حتى صدر في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) "البلاغ رقم واحد" الذي أعلن انقلاب العقيد أديب الشيشكلي على الحناوي، "إلى الشعب السوري الأبي، اضطر الجيش حرصاً منه على سلامته وسلامة البلاد، وحفاظاً على نظامها الجمهوري، إلى أن يقضي على هؤلاء المتآمرين، وليس للجيش غاية أخرى، وأنه ليعلن أنه يترك أمر البلاد في أيدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد، وكيانها يستدعيان ذلك...".
في 29 نوفمبر 1951 أصدر الشيشكلي للمرة الثانية "البلاغ رقم واحد" عشية انقلابه الثاني، وورد فيه، "تحيط رئاسة الأركان العامة الشعب السوري الكريم، علماً أن الجيش قد تسلم زمام الأمر في البلاد، وترجو أن يخلد الجميع إلى الهدوء والسكينة وتسهيل مهمة الجيش ومتابعة أعمالهم دون قلق أو اضطراب، كما تنذر في تسول له نفسه الإخلال بالأمن بأشد الإجراءات...".

 

بيان ثورة 23 يوليو

انتقلت عدوى الانقلابات من دمشق إلى القاهرة. ففي 23 يوليو (تموز) 1952 سيطرت وحدات من الجيش المصري على دار الإذاعة، وصدر "البلاغ رقم واحد"، "من اللواء أركان الحرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة إلى الشعب المصري، اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أية غاية، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف. والله ولي التوفيق".
في 25 فبراير 1954 بينما كان يتم اعتقال اللواء محمد نجيب في مصر، ويتسلم السلطة الرئيس جمال عبدالناصر حصل انقلاب مصطفى حمدون في سوريا ضد الشيشكلي، ولكن "البلاغ رقم واحد" أذيع هذه المرة من إذاعة حلب لأن قطاعات دمشق العسكرية كانت مؤيدة للشيشكلي، وقد جاء في البلاغ، "إخواننا في السلاح مواطنينا الأعزاء، ليس هذا ببلاغ، بل هو اعتراف وعهد ونداء. تعلن المناطق العسكرية الشمالية والشرقية والغربية، انفصالها عن دمشق ما دام حكم الزعيم أديب مفروضاً عليها، وهي تناشده أن يغادر البلاد حقناً للدماء. وقد تنازل الشيشكلي عن الحكم وانتقل إلى لبنان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"صوت العرب"

في عام 1953 انطلقت من القاهرة إذاعة "صوت العرب"، لتتوجه بشكل خاص إلى الشعب العربي في عملية تحريض واسعة ضد عدد من الأنظمة العربية، خصوصاً تجاه لبنان والأردن والعراق. في 22 يناير (كانون الثاني) 1956 تم الإعلان من عمان عن انطلاق "إذاعة العرب" بإدارة يونس بحري، في استعادة لتجربته في برلين، ولتكون هذه الإذاعة من عمان منافسة لإذاعة "صوت العرب" من القاهرة. أراد الملك الأردني حسين بن طلال الهاشمي أن يرد على الحملات التي كانت تشنها "صوت العرب"، ولذلك كان صوت يونس بحري في مقابل صوت أحمد سعيد نجم الإذاعة المصرية. وكانت هذه المرحلة قد شهدت عمليات اغتيال وتفجير ومؤامرات متبادلة بين العواصم العربية في القاهرة وعمان وبغداد ودمشق وبيروت، ولكن هذه التجربة لم تعمر طويلاً، إذ إن الاتصالات بين مصر والأردن انتهت إلى تسوية سياسية وإلى إغلاق الإذاعة في السابع من مارس 1956.

أما في العراق، بعد الانقلاب الذي قاده العقيد عبدالكريم قاسم في 14 يوليو 1958 ضد النظام الملكي، وإعلان جمهورية العراق، أذيع في الإذاعة بأن قاسم هو رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع بالوكالة، وتم اختيار العقيد عبدالسلام عارف نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية. وهذه المرة قتل عبدالكريم قاسم في إذاعة جمهورية العراق في حي الصالحية ببغداد.

الوحدة بين مصر وسوريا انتهت أيضاً ببلاغ رقم واحد أذيع من الإذاعة السورية بعد انقلاب بقيادة العقيد عبدالكريم النحلاوي في 28 سبتمبر 1961، وقد ورد فيه، "إن الشعب العربي المكافح في سوريا ومصر، يدعمه الجيش العربي فيهما، قد قام متكلاً على الله العزيز القهار، بحركة عربية ثورية منظمة لمحق الانحراف والمنحرفين".

 

تجربة فاشلة في لبنان

سقوط دولة الوحدة في سوريا شجع على خطوة انقلابية في لبنان، حيث جرت محاولة خطط لها الحزب السوري القومي الاجتماعي مع عدد من الضباط ليلة 31 ديسمبر (كانون الأول) 1961، وكانت الخطة تقضي باعتقال رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة والضباط الكبار. واحتلال وزارة البرق والبريد والهاتف لقطع الاتصالات بين بيروت وضواحيها وبينها وبين الجنوب واحتلال وزارة الدفاع والإذاعة اللبنانية لإذاعة بلاغ نجاح الانقلاب، ولكن الانقلاب فشل، ولم يكن هناك أي بلاغ ليحمل الرقم واحد. وسيطول الأمر في لبنان حتى 11 مارس 1976، عندما أعلن العميد في الجيش اللبناني عبدالعزيز الأحدب انقلاباً عسكرياً عبر تلفزيون لبنان، ولكنه فشل، ولم يعش أكثر من يوم واحد.

تحطيم الرقم القياسي

أما في سوريا فقد تم تحطيم الرقم القياسي في الانقلابات. الانقلاب الثاني لعبدالكريم النحلاوي كان في 28 مارس 1962. وقد أعلنت "القيادة الثورية العليا أنها تسلمت زمام الأمور في البلاد اعتباراً من 28 مارس 1962 تحقيقاً لرغبات الشعب وحفاظاً على مكاسبه"، ولكن في 8 مارس 1963 حصل انقلاب العقيد زياد الحريري الذي مهد لوصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة. وقد ورد في البلاغ رقم واحد، "بسم الله الرحمن الرحيم، أيها المواطنون، أيها العرب في كل مكان، لقد انطلق صوت الحق يعلن كلمة الحق في صبيحة هذا اليوم الأغر، فانهزم الباطل، وتساقط دعاته على درب أمتنا الطويل، وانتصرت إرادة الجيش والشعب، وانهزم عملاء الرجعية وأجراؤها، واندحر دعاة الانفصالية الذين حرفوا سوريا عن طريق الوحدة الصحيح"، ولكن في 27 يونيو 1963 حصل انقلاب داخل الانقلاب بقيادة أمين الحافظ ليعقبه انقلاب صلاح جديد في 23 فبراير 1966 ببلاغ رقم 1، "يمنع التجول في جميع أنحاء القطر العربي السوري اعتباراً من الساعة السادسة من صباح يوم الأربعاء 23/2/1966، وحتى إشعار آخر".
في 16 نوفمبر 1970 كان الانقلاب الأخير في دمشق بقيادة وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد ببيان، وفيه، "... ولكي نعيد إلى حركة 23 فبراير صفاءها وثوريتها، فقد تصدى رفاق لكم من واقع الشعور بالمسؤولية والحرص على الحزب والثورة، وشكلوا قيادة قطرية موقتة، أخذت على عاتقها قيادة الحزب والثورة في هذه المرحلة الانتقالية، بما يكفل السير بجدية من أجل رأب الصدع والعودة إلى الحياة الطبيعية بقيادة الرفيق حافظ الأسد يوم السادس عشر من نوفمبر 1970، للقيام بحركة تصحيحية من داخل الحزب تعيده إلى مساره الصحيح وتخلق مناخاً حزبياً وشعبياً في مجال القطر والوطن العربي".

"يعيش يعيش" وإذاعة "ميدا"

عالم الانقلابات أوحى للأخوين رحباني في لبنان في عام 1970 نص مسرحيتهما "يعيش يعيش" من بطولة السيدة فيروز، وقد عرضت على مسرح البيكاديللي في بيروت، وتدور أحداثها في محل تجاري صغير في قرية حدودية وتحاكي قصة انقلاب على "الإمبراطور" والبحث عنه بينما يكون قد لجأ إلى هذا المحل متنكراً في محاولة للهرب خارج الحدود. تبدأ المسرحية بمشهد الانقلاب المستوحى من البلاغات الانقلابية، "هنا إذاعة (ميدا). بلاغ رقم واحد. أيها الإخوة المواطنون، بعد الاتكال على الله والشعب قامت فصائل القوات الانقلابية فجر هذا اليوم باحتلال الإذاعة والتلفزيون وجميع الدوائر الرسمية دون مقاومة لتخليص البلاد ووضع حد للفساد والطغيان. وقد توارى الإمبراطور عن الأنظار. نطلب من المواطنين أن يلزموا الهدوء. هيئة الانقلاب العليا"، ثم تبدأ موسيقى عسكرية على وقع كلمتي، انقلاب انقلاب. هرب الإمبراطور هرب الإمبراطور. لتتبع بعد ذلك إذاعة بيانات التأييد.

بطي صفحة إذاعة "بي بي سي عربي" تنطوي صفحات من عمر الإذاعات في العالم العربي الذي عايش أحداثاً وانقلابات كانت تبدأ بالإذاعة وكأنها سلسلة فصول ومشاهد في مسرحيات متكررة يتوالى فيها كثيرون على لعب أدوار البطولة التي لا تدوم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات