Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المركز والهامش: من ينبح للشجرة الخطأ؟

مما يستند إليه دعاة النهر والبحر بدعوتهم للاستقلال أن دارفور وأقاليم أخرى مثل جبال النوبة مجرد إضافات للسودان لا أصل لها فيه

الدعوة لمغادرة السودان ضجراً من أقاليم فيه كدارفور هو نباح للشجرة الخطأ في قول الإنجليزية (رويترز)

يروج في الوسائط هذه الأيام جزء يسير من حديث قديم للمفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم بدا للناس وكأنه تنبأ فيه بدعوة انفصال شمال السودان ووسطه وشرقه، في ما عرف بـ"دولة النهر والبحر"، من أقاليم دارفور وجنوب كردفان ومناطق في النيل الأزرق. فاستنكر أبو القاسم في جملته هجوم جماعات أطراف السودان على الشماليين السودانيين من دعاة دولة النهر والبحر الحاليين، وقال إنهم في الهامش يستهينون بالشمال لأن الحاكم منهم، أو عليهم، دولة الإنقاذ الإسلامية، وعاجل بقوله إن الإنقاذ ليست قدر الشمال لا محيص له منها، وستسقط، ولكن المبالغة في تحميل الشمال وزر التهميش ستؤدي إلى عنصرية مضادة، فسيخرج الشماليون بدعوتهم الخاصة للانفصال عن الهامش قائلين لأهله "حلوا من طرفنا". وغير خاف أن نبوءة أبي القاسم القديمة صدقت متى اعتبرنا الدعوة القائمة لانفصال دولة النهر والبحر عن السودان.

ومهما يكن، فالدعوة لفصل النهر والبحر عن السودان هي العلاج الخاطئ لإشكالية المركز والهامش التي لم نحسن تشخيصها بعد، وخطؤها في أنها وجدت الحل لإشكالية سياسية بتقطيع أوصال الوطن، أي في الجغرافيا. وبدا من مثل هذا الحل أن الإشكال هو دارفور مثلاً لا السياسات التي صارت بها دارفور هامشاً أزعج بهامشيته أبو القاسم قبل دعاة دولة النهر والبحر، ومع ذلك، فالدعوة لمغادرة السودان ضجراً من أقاليم فيه كدارفور هو نباح للشجرة الخطأ في قول الإنجليزية.

مما يستند إليه دعاة النهر والبحر في دعوتهم إلى الاستقلال بدولتهم أن دارفور وأقاليم أخرى مثل جبال النوبة (جنوب غربي السودان)، الموصوفة بأنها "زنجية الفضاء"، مجرد إضافات للسودان لا أصل لها فيه. فهي إما جاء بها الإنجليز مثل دارفور متأخرة إلى دولة السودان في 1916 بعد 18 عاماً من احتلال معظم أجزاء البلاد الأخرى، أو كانوا قد طبقوا عليها سياسات "المناطق المقفولة" مثل جبال النوبة، أي فرضوا عليها ضروباً من العزلة تمنعها من التواصل مع أجزاء المستعمرة الأخرى.

منطق دعوة النهر والبحر أن حدود السودان الحالية من اصطناع المستعمر حق إلا في تطبيقه على السودان الحالي. فمعلوم أن غزو الإنجليز للسودان في 1898 لم يكن خبط عشواء في الفضاء السوداني ومحل ما تمسي ترسي. كان في اعتقادهم بأنهم إنما يستردونه، نهراً وبحراً ودارفور وجبال نوبة وجنوب سودان، للخديوية التي حكمته منذ 1821 حتى أطاحتها الثورة المهدية في 1881. وسوء هذه الحجة على أغلاطها أنها، حين نسبت إلى الاستعمار اصطناع السودان، أسقطت تاريخ الحركة الوطنية السودانية التي استقلت به في 1956 من فوق حدوده الحالية. فخيال تلك الحركة، في قول بنديكت أندرسون في "الأمم المتخيلة" (1983)، هو التأسيس الثاني للأمة السودانية معززة بالحرية الوطنية ومستعيدة إرادتها الوطنية بعد طول خضوع لإرادة غيرها.

فليس بغير معنى أن من تقدم باقتراح استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1955 كان هو عبدالرحمن دبكة، النائب البرلماني عن دائرة البقارة غرب، جنوب دارفور. ولم ينكس العلم الإنجليزي في سائر السودان خلال الحركة الوطنية سوى في حراك وطني في مدينة الفاشر حاضرة دارفور، بل فدت دارفور الديمقراطية بشهيدين من بين شهداء ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود هما المرحومان صلاح عبدالله أحمد وأحمد الشريف إسحق (من 39 شهيداً في كل القطر). وشرفت دارفور بأن شهيد تلك الثورة الأول، الأيقونة الذي أشعل نارها، هو أحمد القرشي، الطالب في جامعة الخرطوم، كان من خريجي مدرسة الفاشر الثانوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جاءت مسألة دارفور وغيرها من باب السياسة وسيكون من قلة الحيلة حلها بالجغرافيا. فخطاب التهميش رؤية ومصطلحاً وتكتيكاً منذ بدايات هذا القرن كان من صنع صفوات متعلمة في الأطراف، وتفكيك خطاب هذه الصفوات وفهم سياساته أدنى إلى الرشد من تفكيك البلد.

ولعل أكبر الأخطاء في هذا الخطاب تغاضي هذه الصفوة عن حقيقة أن أكثر خصائص المركز وضوحاً هي أنه مركزان وليس مركزاً واحداً كما صوروه. فلم يقم مركز في الخرطوم لم ينهض بوجهه مركز معارض من الأحزاب والنقابات واتحادات المزارعين والطلاب، وثبات هذا المركز المعارض من ثبات المركز الحاكم لغلبة الديكتاتورية في صفة حكمه لـ44 عاماً من سنوات استقلالنا الـ67. ولم تشفع هذه المقاومة من المركز للمركز الحاكم عند صفوة الهامش، فظل الهامش يعرف المركز بـ"التكوين العرقي والثقافي" لا بالسياسات، فالمركز "إسلاموعروبي" في نسخة دولة حكم الإنقاذ والإسلاميين بغض النظر كنت في الحكم به أو في المعارضة له. وسبقت له مسميات مثل "المندوكرو" بين حركة القوميين الجنوبيين، أو "الجلابة" في لغة صفوة دارفور ويعود الاسم الأخير لتاريخ قديم في "جلب السلع". فكان سلف سكان النيل الأوسط في الشمال ممن عملوا بالتجارة في أطراف البلاد يجلبون بضاعتهم من موضع فيه إلى آخر. فسموهم لحرفتهم في كسب العيش.

فمعارض المركز في نظر صفوة دارفور "جلابي" ولو طالت عمامته. فهو "جلابي" كامن سيأتي اليوم الذي يسومهم الخسف في الهامش إذا تسنّم سدة الحكم في المركز. ويبدو أن وراء سقم جماعات النهر والبحر من عضويتهم في السودان حسهم بهذه العدمية السياسية. فـ"جلابية" الواحد مكتوبة في لوحة القدر لا لوحة السياسة، فليس له في الكسب نصيب: "جلابي" اليوم "جلابي" أبداً.

ولعل ما استثار دعاة النهر والبحر بالذات بعد ثورة ديسمبر 2019 على صفوة دارفور ومسلحيها بالذات أنهم جاؤوا إلى المركز بـ"اتفاق جوبا" للسلام في أغسطس (آب) 2020 بغير ما توقعوا منهم. فكان الرجاء، بل القناعة، أنهم سيأتون لتعزيز الثورة في وجه العسكريين وترجيح ميزان القوى لمصلحتهم. وخاب فألهم، فعاد من عاد من مسلحي دارفور وصفوتهم يداً بيد في صحبة العسكريين الذين اصطفوهم من دون المدنيين للتفاوض معهم حول السلام، ومد العسكريون لهم مداً في المنافع لهم ولإقليمهم في الاتفاق لدرجة لم تجعل منه مثار فتنة بين هوامش حسدتهم على الكسب الذي بذل لهم فحسب، بل شبه مستحيل التطبيق أيضاً. فبعد أكثر من عامين من توقيعه لا يزال يراوح في مكانه، وأفضل ما يقال عنه هو الحاجة إلى إصلاحه، جذرياً ربما.

لم تأت صفوة دارفور ومسلحو حركاتها على توقع دعاة النهر والبحر منهم. فقد أحسنوا الظن بهم وأملوا منهم أن يروا في ثورتهم المدنية مركزاً لرفقاء في القضية لا خصماء لها كما كانت الإنقاذ. وهي رفقة تعززت بتضامنهم في النضال المدني الطويل مع المسلحين، فجرؤت جماعة منهم على تكوين الهيئة الوطنية للحماية والدفاع عن المتأثرين بأحداث "الذراع الطويل" ودم ضحاياها لا يزال يشخب، و"الذراع الطويل" هو الاسم الذي أطلقته حركة العدل والمساواة على هجومها المسلح الفاشل على مدينة أم درمان في 10 مايو (أيار) 2008. كما تواثقوا معاً على برامج لبناء الوطن الجديد بعد زوال الإنقاذ في عهود بلا حصر، وتحملوا أذى كثيراً من حكومة الإنقاذ التي أوغر صدرها وضع القوى المدنية يدها مع مسلحين في حرب دائرة ضدها، وأغضب الحكومة أيضاً توقيع القوى المدنية على ميثاق "الفجر الجديد" (2013) مع قوى الهامش المسلحة، واتخذت إجراءات عقابية بحق من عاد من تلك القوى للسودان، ولم تمض أشهر قليلة على توقيع الميثاق حتى هاجم المسلحون مدناً وقرى في وسط ولاية كردفان واختاروا له اسم "الفجر الجديد" بلا وازع.

إن فجيعة النهر والبحر في مسلحي دارفور كبيرة، فكسرت خاطرهم رؤيتهم عائدين في رفقة محمد حمدان دقلو، قائد الدعم السريع ورعايته وهو الذي أوسعهم حرباً وقتلاً كان آخرها في معركة "قوز دنقو" (2016) التي وصفها إعلام الإنقاذ بأنها نهاية حركة العدل والمساواة. وبدا لجماعة النهر والبحر ذلك خذلاناً كبيراً لهم في حين لم يجف على لسانهم بعد هتافهم "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور". وكان الهتاف رداً على مسؤول في حكومة الإنقاذ قال خلال ثورة ديسمبر إن مسلحي دارفور المندسين في التظاهرات هم من أطلق الرصاص على بعض شهدائها.

رأينا أبو القاسم يطلب من صفوة الهامش ألا يحكموا على أهل الشمال بالإنقاذ لأنها ليست قدرهم. وصح، من الجانب الآخر، ألا يحاكم الشمال دارفور بصفوتها المسلحة، فهي بالمثل ليست قدرها، فكل البلد دارفور متى استنفد المغرورون في المركز والهامش عمرهم الافتراضي.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء