Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتي المركز

"دعوة" ترى أن للسودان هويتين زنجية تنتمي إلى أفريقيا ونهرية تنتمي إلى مصر والحجاز والبحر الأبيض المتوسط

تتردد دعوات انفصال بعض المناطق عن السودان من وقت لآخر في خطاب هامشي  (أ ف ب)

بين دعوات تقرير المصير والانفصال المتكاثرة في السودان بدت الدعوة إلى "دولة النهر والبحر" نشازاً. فأهل هذه الدولة بالتحديد من تشكل منهم "المركز" الذي نهضت في وجهه حركات تقرير المصير والانفصال في الجهات التي عرفت بـ"الهامش" في جنوب السودان ودارفور وإقليم النيل الأزرق.

شمل إعلان الدعوة إلى هذه الدولة في 29 أغسطس (آب) 2020، 10 ولايات من ولايات السودان الـ18، غطت وسط السودان وشماله وشرقه. وبدا من الدعوة وكأنها "قلب للمنضدة". فإذا اتفق غيرهم أن حل مشكلتهم بالسودان في الانفصال عنه فهم أيضاً يرون "الحل في الحل" بعبارة قديمة شهيرة لسياسي سوداني. ولعل الوارث يرث حجراً.  

ليست هذه أول دعوات انفصال "النهر والبحر"، إذا استخدمنا العبارة الطارئة حيال نهوض قوى الهامش بالسلاح وغير السلاح لتقرير المصير. فكانت في المركز الذي يتشكل افتراضاً من أهل النهر والبحر حشمة وطنية تمسك بها لوحدة البلاد صدقت أم لم تصدق. ومع ذلك صدع بالدعوة إلى الانفصال أفراد أو جماعات منه هنا أو هناك. وكان خطابهم بالانفصال مع ذلك هامشياً على حواف خطاب الوحدة.  

ومن المؤسف أن كانت هامشية خطاب انفصال النهر والبحر هذه سبباً لإهماله إن لم نقل تكفيره. وبلغ ذلك الإهمال حداً تمنى أجنبي متخصص في الدراسات السودانية يوماً لو كان له ممثلون في مؤتمر عقد لمناقشة مسألة جنوب السودان خلال النصف الثاني من الثمانينيات. فقال إنه وجهة نظر استحق أن نستمع إليها في مناقشة عقدت عن مالآت البلد.  

ثم خرج هذا الخطاب إلى العلن في أعقاب اتفاق السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان خلال 2005 من فوق منصة حزبية جهيرة هي منبر السلام العادل. وتزعم المنبر الطيب مصطفى بعد أن فارق إخوانه إسلاميو المؤتمر الوطني حزب دولة الإنقاذ. وأصدر صحيفة "الانتباهة" التي جعلت انفصال الجنوب عن الشمال أو العكس خطها لا محيد عنه.

كانت الصحيفة الأولى توزيعاً في جنوب السودان قبل شماله. واشتهر عن الطيب الذي رحل عنا في جائحة كورونا منذ عامين، أنه ذبح ثوراً أسود يوم اختار الجنوب الانفصال كرامة لرفع البلاءـ أو كما قال،  

مما يزكي الاهتمام السياسي والفكري النافذ بدعوة النهر والبحر وسياساتها أن خطاب الانفصال الشمالي لا يزال مما يدير عنه قادة الرأي والسياسة وجههم إلى الناحية الأخرى متى طرأ. فلم نتعلم من وقوع انفصال الجنوب الفاجع لأسباب لعل أهونها الطيب ومنبره وصحيفته، دروسه في بناء الوطن.   

وسيظهر لك فشلنا في استيعاب هذه الدروس في الوحدة الوطنية متى استمعنا إلى خطاب النهر والبحر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فتجد دعاته يقفون على مقدمات صحيحة إلا أنها تسوقهم إلى نتائج وخيمة جراء تاريخ معاصر للسودان مشوش أو عشوائي. فهم يبدأون من حقيقة أن السودان مما جمع فيه الاستعمار أخلاطاً من شعوب وقبائل متباينة تاريخاً وثقافة. وهذا من المعلوم بالضرورة عن الاستعمار الذي اصطنع أكثر حدود أفريقيا في مؤتمر برلين 1985 الذي تجاحد فيه الأوروبيون حول تملك أراضي أفريقيا.

ومع هذا ربما كان السودان أقل الدول تضرراً من اصطناع الحدود. فجغرافيا السودان الحالي تزيد أو تنقص تاريخية. فهو بلد موروث من دولة الخلافة التركية (1821-1881) ومن دولة وطنية هي المهدية (1881-1889) تطابقت في كليهما الحدود بصورة لا بأس بها. وجاء الاستعمار الإنجليزي علناً لاستعادة السودان كما عرفناه وفق ما سنرى.    

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 فإذا صح خطاب النهر والبحر في المقدمة عن اصطناع الاستعمار لحدود مستعمراته نجده أخطأ الاستنتاج منه. فمن رأي دعاته أن الإنجليز قصدوا من هذا الخلط إرباك الدول التي اصطنعها متى ما خرج منها. فالخلط في نظرهم "مقلب" ظللنا نعاني ويلاته حرباً ذات كلفة عالية في النفس والمال.

عقيدة النهر والبحر تعني أن في السودان هويتين، زنجية تنتمي إلى أفق أفريقي ونهرية تنتمي إلى مصر والحجاز والبحر الأبيض المتوسط. ودارفور عندهم مما انتمى إلى الأفق الأفريقي. فظلت قائمة على مملكتها التاريخية بعد غزو الإنجليز للسودان في 1898. ولم يتفق للإنجليز ضمها إلى السودان إلا في 1916. ويتخذ دعاة النهر والبحر من تأخر دارفور في الوفود إلى السودان حجة على أنها لم تنتم إليه إلا عن طريق الخطأ في أحسن الأحوال. 

سبقت دعوة النهر والبحر دعوة مماثلة في 2010 عرفت بـ"العرنوبية". وتمثلت جغرافيا هذه الدعوة في فضاء النهر والبحر نفسه. غير أن اسمها راجع إلى ثقافة هذا الفضاء التي هي مزيج من ثقافة العرب المسلمين الوافدة إلى السودان منذ القرن التاسع الميلادي وشعب النوبة والبجا التاريخي. وهذه الهجنة هي الحبل السري الحضاري لشعوب "العرنوبية" وتشكل أساساً لقيام دولة قومية منهم.

و"العرنوبية" حال زهد في الوطن السوداني الواحد سبقت النهر والبحر. ونفى منظروها أن دعوتهم عرقية. فهامش الوطن، في قولهم، رفع السلاح طلباً لتقرير المصير بينما يتعلل الشمال بأنه متى سقطت حكوماتهم الديكتاتورية تراضى الجميع على الوحدة الوطنية. وهذه في نظر الداعين إلى "العرنوبية" خطة كاسدة، فلن يتعافى الانفصالي من انفصاليته. ولا غضاضة.   

وأكثر زهد دعوة "النهر والبحر" في الوطن نقص حاد في التاريخ. أحد منظريها سأل ذات مرة لماذا لا نحصل على النتيجة المرجوة من ثوراتنا؟ وأجاب أن ذلك يرجع إلى التاريخ الخاطئ الذي نأتي به إليها. فلا يقوم دليل على قول النهر والبحر إن دارفور زنجية منبتة عن العرب ودوائرهم في الحجاز والبحر المتوسط. فأقام سلاطين مملكة دارفور علاقات وثقى مع الدولة العثمانية منذ نهايات القرن الـ18 اضطربت الروايات عنها. فبينما رأى السلاطين أنها ضمنت استقلال مملكتهم، جاءت نصوص صريحة من العثمانيين بتبعية دارفور لمحمد علي باشا. ومن عزة سلاطين دارفور بعلاقتهم بالعثمانيين أن سمى السلطان عبدالرحمن نفسه على أختامه "الرشيد" الذي حياه به السلطان سليم الثالث (1789-1807) وهو يتلقى هداياه. 

صحيح أن الإنجليز لم يستولوا على دارفور إلا بعد 18 عاماً من "استعادتهم" لمعظم السودان، كما تجري العبارة. ولم يكن تباطؤهم ذلك زهداً في تملك دارفور كأرض سودانية. كان وراء تأخرهم اعتبارات لوجستية وشواغل مع الفرنسيين الذين كانوا عند حدود دارفور الغربية. ولن نفهم ذلك التباطؤ على وجهه الصحيح إلا باعتبار أمرين. أولهما أن الإنجليز أقروا سلطان دارفور عليها شريطة دفع جزية سنوية بمثابة اعتراف بتبعيتها لهم. والأخير، وهو الأهم، أن اتفاق الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر (1899) شمل في السودان المناطق التي سبق للحكومتين "استعادتها" مثل الخرطوم والجزيرة والشرق علاوة على "المناطق التي ستستعيدها الحكومتان معاً" مثل دارفور.

لم يتأخر الإنجليز عن احتلال دارفور سهواً حتى طرأ طارئ قادهم إليه. كانت دارفور في واقع الأمر أرضاً سودانية "استعادتها" للأملاك المصرية فرض وجوب. وصح بذلك النظر في تأخر الإنجليز عن احتلالها في غير ما تهيأ للنهر والبحر، وحتى لانفصاليي دارفور أنفسهم، من أنها إضافة عشوائية إلى السودان.   

لا تزال الدعوة إلى دولة النهر والبحر خطاباً على وسائل التواصل الاجتماعي بين شباب زهد في وطن طالت الحرب فيه وأسقمت. ولن تجد صدى لها في دوائر الرأي والفكر المتنفذة. فلم تعقد قوى الحرية والتغيير بمختلف مسمياتها مثلاً حلقات نقاش مع دعاتها الفصيحين جداً. وبدا لي أنها دعوة استقل فيها هؤلاء الشباب بموقف من الوحدة الوطنية حيال مركز منسوبين إليه شاؤوا أو أبوا. وكان استقلالهم عن وجهي المركز، وجه مثل دولة الإنقاذ التي أرادت إخضاع الهامش بالحرب الزؤام من دون جدوى، والأخير معارضتها التي في الحكم الآن والتي تريد استرضاءه بتنازلات مسرفة مثل اتفاق سلام جوبا. وهو اتفاق في مركز الدائرة في خطاب النهر والبحر. فلم يروا منه دارفور تجنح إلى السلم إن لم تزدد عنفاً. وكان سبباً للفتنة و"الحسد" التنموي من أقاليم أخرى بما فيها أقاليم النهر والبحر. 

بدا لي، فوق كل هذا، أن دولة النهر والبحر لم تفكر بعد إن كانت ستنال انفصالها بيسر متى قررت ذلك من طرف واحد. وصح التحذير من هذه الاستنامة هنا باستعادة كلمة للعقيد جون قرنق قالها وهو في طور مشروعه لبناء السودان الجديد الموحد بفوهة البندقية. فكان إذا سمع من أحد الشماليين طلباً بالانفصال عن الجنوب قال له، "خذ سلاحك واطلع جبلاً أو غابة أو صحراء وحارب لانفصالك".   

اقرأ المزيد

المزيد من آراء