Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روبرت موزيل يرسم الإنسان الذي يستحيل رسمه

حلل النفس الإنسانية تحليلاً يشبه الاستقصاء الذي يترصد أطوار المادة ويتحرى أحوال الكون

الروائي النمساوي روبرت موزيل (دار سوي)

يعد الأديب النمساوي روبرت موزيل (1880-1942) من ألمع أدباء القرن العشرين، إذ استطاع أن يحلل النفس الإنسانية تحليلاً يشبه الاستقصاء الكيماوي الذي يترصد أطوار المادة، ويتحرى أحوال الكون. ولد في النمسا التي كان يسميها الكاكانيا (Cacanie) في رواياته، ودرس في المعاهد التعليمية العسكرية، ورغب في الالتحاق بالجيش، ولكنه ما لبث أن عدل عن المشروع، فانتقل إلى الهندسة، ومن ثم إلى الفلسفة والأدب. أتاحت له دراسة الهندسة أن يعلم في معهد الدراسات التقنية العليا بمدينة شتوتغارت. قصد برلين ليدرس في جامعتها علم النفس والفلسفة، وفي ظنه أنه يستطيع أن يهندس بنية النفس الجوانية. سحرته هذه المدينة بآدابها وفنونها ومسارحها، ولكنه ما لبث أن غادرها عام 1933 إثر تعاظم النفوذ النازي. استثمر الموهبة الهندسية في ما كان يدعوه أمانة سر دراسة النفس الإنسانية. بفضل مثابرته، استطاع أن يعد أطروحة لامعة في الفلسفة تناولت التجريبية النقدية التي كان ينادي بها فيلسوف العلوم الفيزيائي النمسوي إرنست ماخ (1838-1916).

من الهندسة إلى الكتابة

بفضل النجاح الذي اكتسبته روايته "اضطرابات التلميذ ترلس" (Die Verwirrungen des Zöglings Törless)، ظن أنه أضحى قادراً على التفرغ لمهنة الكتابة، ولكنه اضطر إلى الخدمة العسكرية التي أداها برتبة ضابط متفرغ للإعلام العسكري وإدارة مكتبة الثكنة. أثرت الحياة العسكرية الوجيزة في مساره الأدبي تأثيراً بيناً، فعقد العزم على تصوير الوضع الإنساني في أدق اختباراته الباطنية. فإذا به يضطلع بمسؤولية الكشف عن العصبة السياسية العازمة على تمجيد الزمن الإمبراطوري النمسوي - الهنغاري. على هذا النحو نشأت في وعيه فكرة الرواية غير المنجزة "الإنسان العديم الصفات" (Der Mann ohne Eigenschaften). في هذه الأثناء، أبان له المجتمع الفرنسي المشهد الإنساني المعقد الذي جعله ينشئ الروايات التحليلية اللاذعة، ومنها "ثلاث نساء" (Drei Frauen).

بيد أن رواية "الإنسان العديم الصفات" جسدت مشروعه الأدبي الأشمل، إذ أراد أن يطلع القارئ بواسطتها على هندسة النفس الإنسانية الكاملة، لذلك تصور العمل كله في صورة الرواية الشاملة الجامعة المانعة التي لم يستطع أن ينجزها. من أجل إنجاح المهمة، كان قد أعد ما يقارب خمسة آلاف صفحة انطوت على شتيت مذهل من المعاينات والمشاهدات والملاحظات والتحليلات والمسودات والتصميمات والمتنوعات التي استخرج منها نص القسم الأول المطبوع، وبضعة من الفصول التي لحقتها في عام 1933. وما لبث أن انقطع الوحي، وفتر الإنشاء، لا سيما في إثر تنامي النفوذ النازي وهرب الأديب إلى فيينا، ومن ثم إلى سويسراً، طالباً الخلوة والراحة، بيد أن اضطراب الأوضاع الخارجية والنفسية هز كيانه هزاً عاصفاً، فأصيب بنزيف دماغي شله وأقعده عن مواصلة الكتابة، معفياً إياه من مسؤولية ابتكار الخاتمة الدفينة. ليس أدل على صراعية الرواية من المشاجرات العيلية التي أعقبت وفاته، إذ تضاربت آراء الأسرة في شأن نشر أعمال الكاتب الموهوب. لم ينجُ من نار الفتنة الأدبية هذه أهل النخبة الفكرية الذين قسمهم موزيل بعد موته، وجعلهم يتعاركون ويتزاحمون على استجلاء مقامات الصدارة في أعماله المتروكة.

معاناة قارئ موزيل

من أغرب وقائع الإنتاج الأدبي الذي تركه موزيل مشاريع الروايات ومخططات الأبحاث التي لم ترَ النور، بل ظلت منطوية في طور التصميم الإنشائي الأول. في أغلب الأحيان، يقع القارئ على نص غير مكتمل، مشرع الآفاق، مستباح الحدود، منزوع الإقفال والأختام، لذلك يعاني القارئ معاناة شديدة عند قراءة هذه النصوص. خلافاً لأدباء العصر، من أمثال الأديب الفرنسي مارسيل بروست (1871-1922) الذي تريحنا نصوصه، والأديب الإيرلندي جيمس جويس (1882-1941) الذي تفرحنا رواياته ما خلا "سهرة فينيغن"، والروائي الألماني فرانتس كافكا (1883-1924) الذي يسلينا ويستثير فضولنا التذوقي، يرهقنا موزيل بأثقال نصوصه والتباساتها وثنائياتها وتعاكساتها وتعارضاتها. موزيل كاتب تراجيدي مأسوي قالت فيه الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس (1914-1996) إنه من أعظم فناني النحت الروائي المعاصر.

المعتزل العابس الغيور

لم يكسب الشهرة الأدبية في أثناء حياته، ما خلا النجاح الذي حصده كتابه "اضطرابات التلميذ ترلس". أما سائر كتاباته، فلم يلتفت إليها أحد أثناء نشرها، لا سيما أن معظمها ظل في طور الإنشاء. عاش وحيداً، متنقلاً بين فيينا وبرلين اللذين لم يغادرهما إلا حين استولى النازيون على الحكم، فاضطر إلى اللجوء إلى سويسرا. غلبت على وجوده مسحة الحزن الكياني العميق، فارتسمت آثارها على محياه العابس المتجهم. إلا أنه كان طموحاً يرغب في الفوز بأعلى مراتب التقدير، وحسوداً يعتقد أن الأدباء الآخرين المعاصرين لم يكونوا يستحقون كلهم الثناء وتسنم قمم المجد. كان غيوراً على مقامه الأدبي، فلم يكن يعترف باستحقاقات الآخرين. حين سأله صاحب المكتبة الشهيرة في فيينا مارتن فلينكر (1895-1986) عن أعظم كاتب معاصر، أجابه بذكر اسم الأديبة الفرنسية إيف كوري (1904-2007) ابنة العالمين بيار وماري كوري. بجوابه الغريب هذا استبعد عظماء الأدب العالمي المعاصرين من أمثال توماس مان (1875-1955) وشتفان تسفايغ (1881-1942) وكافكا، وسواهم.

لم يكن موزيل يحب الحياة والصداقات والمعاشرات الأدبية، فكان يرتاد مقاهي فيينا الشهيرة، ولكنه كان يعتزل الآخرين، وينتبذ بنفسه مكاناً قصياً منفرداً، فضلاً عن مهنة الكتابة الأدبية، أخذ يعتني باستجلاء أحداث السياسة واستقصاء تطورات التاريخ وفتوحات الأفكار العلمية، سواء تلك التي ارتبطت بعلم الطيران أو بهندسة مناجم الحديد في أوروبا الوسطى، أو بأدب المقالة التحليلية في بداية القرن العشرين. كان يسعى إلى الإحاطة بكل اختبارات الوجود، ولو على هيئة التخيل والتعبير الأدبي الحر. عرف عنه أنه كان كاتباً عسير الفهم، يقرؤه الإنسان العادي فلا يدرك مقاصده للوهلة الأولى. كان يحذرنا بنفسه من أن الكاتب العظيم يحارب غيابه محاربة شرسة حتى يصون فيه سره الجذاب. فالنخبة لا تستطيب الإقامة إلا في الغربة الإلهامية.

التشكيك في مقام الوجود واللغة

استطاع النتاج الأدبي النمسوي المكتوب بالألمانية أن يستدخل في الأدب الألماني بعض الشكية التي أخذت ترتاب من مقام اللغة وقدرتها على التعبير عن لطائف اختبارات الإنسان الجوانية. يبدو أن تعبيرية الأديب النمسوي هوغو فون هوفمانشتال (1874-1929) في "رسالة اللورد شاندوس" (The Letter of Lord Chandos) استهلت الأسلوب الأدبي الريبي هذا، وأثرت في كتابة موزيل، ذلك بأنها كتبت في منعطف تاريخي شهد نهاية حقبة من الازدهار الأدبي النمسوي في فيينا، وصاحب بروز الأزمة اللغوية في جميع أبعادها الأدبية والفلسفية والنفسية. ومن ثم، فإن الكلمات أضحت كالفطريات الفاسدة.

من أمثولات رواية "اضطرابات التلميذ ترلس" أن الواقع مفطور على اللاعقلانية واللامنطقية، وأن معنى العالم غير مستقر، يترجح بين استقطابات لغوية متنافرة، لذلك اختبر صاحب الرواية الاضطراب والارتعاش الوجودي، وانغمس في توترات الشك والإرباك. في وصف شخصية التلميذ المرتبك، يبدو موزيل خاضعاً لمنطق التشكيك في ظواهر الحياة عينها. وعليه، لم تكن الكتابة في نظره سبيلاً إلى علاج التأزم الناشب في الواقع. الكلمات محسوسات ملموسة لا تطيق أن تحتمل توترات الحياة، بل تنطق بالاضطراب الذي يعطل فهم الوقائع. إذا كانت اللغة مأزومة، فلأن الحياة في صميمها بؤرة اضطراب متقدة ببركان الهيجان الكوني الشامل.

اتصفت كتابات موزيل بأسلوب حسي تصويري ملموس يغترف الصور من صميم اختبار الحياة. غير أن أزمة النفس هيمنت على هذا الأسلوب، فجعلته يصوغ الكلمات صوغاً متردداً بين المعاني، فتأتي العبارة مشحونة بما يتجاوز دلالتها الظاهرة الصريحة، منعقدة على الالتباس وتراكم المعاني المتعارضة في المفردة الواحدة، لذلك غدا التشكيك في قدرة التعبير على نقل المعاني النفسية الملتبسة القاعدة السائدة في إنشاء موزيل الروائي.

رواية "الإنسان العديم الصفات" في سياقها التاريخي

تقع أحداث الرواية بين 1913 و1914، وتسرد لنا وقائع حياة أورليش، الشخصية الأساسية التي تتمحور حولها جميع الفصول. في القسم الأول من الرواية ينتمي أورليش إلى كوكبة من نخبة المجتمع تروم أن تحتفل بمرور 70 عاماً على حكم الإمبراطور النمسوي - الهنغاري فرانتس يوزف (1830-1916). أكب موزيل يستعرض آراء المثقفين النمسويين في السياسة والنظام الإمبراطوري والعلاقات التي تربط الإمبراطورية النمسوية - الهنغارية الكاثوليكية النزعة بالإمبراطورية البروسية - الألمانية البروتستانتية الهوى. من كنوز هذا القسم الوصف الدقيق الذي يرسم ملامح النخبة الاجتماعية الراغبة في الاحتفال بالحدث الجلل، وقد اغتنى بجميع ضروب الاقتراحات والمشاريع والمبادرات والاستعدادات، بيد أن موزيل كان يستجمع الرؤى السياسية الأيديولوجية هذه من أجل نقضها وإبطالها وإظهار مساوئها ومخاطرها.

إنسان في العقد الأربعين يخرج من منزله ليتناول طعام العشاء في مطعم المدينة. وفي الغد يستعيد عمله اليومي في الصباح، ومن ثم يستقبل عشيقته. غير أن الأمور لا تلبث أن تصطدم بعوائق انسداد المعنى. اللافت في هذا المنعطف، أن موزيل يستحضر أشخاصاً يشاركون لبرهة خاطفة في المشهد الروائي، فيحملون ضمة من الأفكار يتباحثون والآخرين في دلالاتها ومفاعيلها. يرسم موزيل ضياع هذا الإنسان الذي يحيا مع الأفكار ويتصور العالم من خلالها حصراً. فإذا به يضل السبيل ويفقد السيطرة على مسار الأحداث. غير أن موزيل لم يبلغ خاتمة الكتاب بسبب من مرضه وعجزه عن ابتكار النهاية، على غرار بطل الرواية الذي لم تكتمل ملامحه، فظل في طور الرسم.

يبدو أن موزيل كان يروم أن يعالج في رواية واحدة جميع مسائل الأخلاقيات والجماليات، فتاه في شعاب المسارات الوجودية المتعارضة، ولم يستطع أن يكلل بحثه بالظفر النهائي. من جراء التشتت السردي والتبعثر التصويري، حرمت الرواية من مركزيتها الاستقطابية، فاكتسبت على وجه المفارقة خصائص الإرباك والتضليل المتعمد، لذلك أعرض الكثيرون عن تحليل الحطامات الحياتية التي أفضت إليها مسيرة شخصيات الرواية، خوفاً من التورط الوجودي الذاتي. من خصائص الإرباك هذه اللامبالاة واللاتعين اللذان يجعلان القارئ يتيه تيهاً خطراً في إدراك معنى حياته الشخصية.

الصفات المنسلخة عن الإنسان

يفطن أورليش إلى حقيقته حين يخاطب صديقه امرأته واصفاً إياه بالإنسان السليب المزايا. عندئذٍ يدرك أنه مفطور على مثل هذه العدمية، فيقرر أن يعتنق دعوته ويحيا بموجب ما تقتضيه من فكر ومسلك. فإذا به يضطلع بمسؤولية الحياد الطبيعي، ويستأذن الحياة لكي يحيا في فراغها المطلق. حينئذٍ تتحول كل وقائع الحياة إلى محاولات جزئية متبعثرة متفككة لا يربطها سوى التأمل في خواء المعنى، بيد أن هذا الخواء لا يعني انعدام الوجود، بل انفتاح الحياة على ممكنات لا حصر لها ولا هوية ولا ميزة. ليس للحياة من غائية لصيقة بها. جل الأمر أن الإنسان يبسط كيانه ليتقبل جميع أصناف الإسنادات التي تأتيه من اختبارات الوجود. إنها حال اللاتعين واللايقين واللااكتراث. ليس المطلوب أن يعرف الإنسان أسرار الحياة، بل إن يحيا، إذ إن الفكر يتحول عند أورليش إلى رغبة بسيطة في العيش. أما إذا أراد الإنسان أن يتمرد على هذه الحال، فلا يبقى أمامه سوى الجنون الذي غالباً ما عاينه موزيل في مسلك أهل فيينا.

الإنسان العديم الصفات السليب المزايا هو الإنسان الذي يتحلى بالصفات من غير أن يمتلك في ذاته إنسانيته الحق. العديم الصفات صاحب الصفات المحروم من إنسانيته، لذلك أكب موزيل يصف واقع الناس وصفاً يستفز الفكر المستكين. كان الناس في قديم الأيام يدركون إنسانيتهم أفضل من إدراك المجتمع السائد في الزمن الراهن، إذ كانوا أشبه بسنابل الحقل تحركها يدا الله ولسعات الطاعون وحبات الثلج وحمم حرائق الحروب التي تلتهمها بين الحين والآخر. أما اليوم، فالتحول أصاب الإنسان في مركزية قراره، إذ جرده الوجود من قوة الإرادة، وجعل قرار الكون في الأشياء تترابط ترابطاً بنيوياً يعجز الإنسان عن تدبره.

أصبح كل أمر من أمور الحياة مرهوناً بمثل هذا الترابط، فنزعت اختبارات الناس من جوانيتهم، وقذف بها في بنى النصوص الوصفية واللوحات الفنية، وخضعت لمختبرات التحليل النفسي الاجتماعي الديني. ومن ثم، فقد الاختبار الوجودي انغراسه في تربة النفس الإنسانية، وأطلق إطلاقاً عبثيا في الأجواء الأثيرية. يجرؤ موزيل فيورد لنا مثالاً على هذا التحول، إذ يحدثنا عن غضب الإنسان، ويسألنا: من يستطيع أن يثبت لنا أن غضبنا من فعل ذاتيتنا الخاصة يعكس أحوال نفسنا اللصيقة بنا، لا سيما حين يشاركنا فيه الآخرون من حولنا ويتناولونه بالتحليل والتفكيك والتعرية؟ لذلك يمكننا أن نتصور عالم الإنسان مؤلفاً من صفات مجردة منعزلة عن كيان الإنسان، بحيث يستحيل على الإنسان أن يستعيد ذاتيته ويحيا في نطاق اختباره الشخصي الفردي الخاص.

تنازع الإنسان بين الداخل والخارج

المثال على ذلك بطل الرواية أورليش الذي يحمل في ذاته صفات شتى، ولكنه يقرر أن يفصل ذاته عن هذه المزايا ليحيا وكأنه قد جرد منها في سبيل البحث عن معنى استثمارها في الحياة. من الواضح أن جميع الناس لا يستطيعون أن يختبروا هذا التجرد، ذلك بأن أورليش الذي ينعم ببحبوحة العيش كان بمقدوره أن يجرب أسلوباً جديداً من الاختبار الوجودي الافتراضي الذي يجعل الإنسان يتصور ذاته مجرداً من صفاته. ومن ثم، يصبح التجرد هذا مصطنعاً يفتعله الإنسان افتعالاً ترفياً لكي يتحرر من مسؤولية الحياة التي فطرته بالضرورة على ما انتهى إليه من شخصية.

إذا كان الأمر كذلك، أمكننا القول إن أورليش يرمز إلى الانفصام الذي يعانيه الناس، وقد انصرفوا عن ذاتيتهم إلى موضع التأمل الخارجي يحيون حياة مزدوجة تدفع بهم إلى ممالأة المجتمع في زمن المخالطة، وإلى مقاومته في زمن الخلوة. إنه رمز الإنسان المنقسم على ذاته، العابر إلى ضفاف جديدة، الحامل في ذاته هوية الغموض والالتباس، ذلك بأن موزيل يصف إنسان عصره بالكائن اللامستقر، اللامحدد، اللامتعين، العديم القوام، السليب الهوية. فالعصر كله عاجز عن تحديد هويته، يلجأ إلى حلول وهمية لكي يعثر على هوية ترضيه وتشبع توقه إلى الذاتية والخصوصية. أما أفضل السبل إلى إدراك هذا الضياع، فابتكار منهجية الاستدلال على الجهل، إذ إن الركون إلى الاعتقاد من أسوأ الحلول الوجودية التي تفضي حتماً إلى الاحتراب بين الناس المصممين على الاعتقاد الراسخ.

البحث عن احتمال آخر في الحياة

تفصح الرواية عن اختبارات البحث الوجودي الذي يلتزمه الإنسان الساعي إلى اكتشاف زائلية الكون. المطلوب العثور على احتمال حياتي أو إمكان وجودي مختلف، من غير أن يقتصر الزمن الإنساني على صيغة واحدة تستبد بنا. لا بد من البحث عن كائن آخر، عن إنسان آخر، عن اختبار وجودي آخر. بحثاً عن الإنسان الجديد، يستطلع موزيل البعد المفقود الذي خسره الإنسان القانع بما فطر عليه من ألفة كيانه المنجز. من هنا ضرورة استذكار الانغراس الحميمي في تربة الحياة المعيشة. الإنسان كائن في طور النشوء لا يني يتجدد ويتطور انطلاقاً من مفاجآت الحياة، ومباغتات الدهر، ومداهمات الصدفة. الوجود مستودع الاحتمات اللامتناهية، اللامحدودة، المشرعة على إمكانات المستقبل المنعتق من قوالب التصورات المألوفة.

من جراء منطق اللااكتمال، ينبغي للإنسان أن يمتنع عن القرار الذي يحصره في إمكان واحد. ومن ثم، يجدر بنا أن نعتمد الأتوبيا المشرعة التي لا تقتصر على مشروع، ولا تنحصر في صيغة، ولا تختزل في إنجاز. الأتوبيا مسرح اللاإنجاز، أي انعدام المكان الإغلاقي. ليس من موضع (topos) في التاريخ يمكنه أن ينجز ماهية الإنسان. وقد يدلنا عجز موزيل عن إنهاء روايته هذه على تشبثه بالاحتماليات المشرعة التي يختزنها الوجود الإنساني. لا سبيل إلى تصور الخاتمة القاهرة وفرضها على القارئ. من الأفضل، والحال هذه، أن ينصرف الكاتب إلى الأقوال الحكمية المقتضبة، إلى الأدب الوجيز، إلى الالتماعات الإشراقية الراعدة التي تومئ إلى الفكر وترسم له من المشهد أوسعه، ومن الأفق أرحبه. في عزلة سويسراً، أعرض موزيل عن الرواية، وآثر إرسال الحكم الموجزة في صورة العبارات الإلهامية المقتضبة، وفي يقينه أن الحيلة الأدبية هذه تستنهض القارئ أفضل من السرديات المتناثرة التي وقعت فيها رواية الإنسان العديم الصفات.

التواصل الوجداني بين أورليش وأغات

في القسم الثاني الذي لم ينجزه موزيل من جراء تشابك الأحداث وتخالط السمات وتراكم الخصائص، نقع على حدث طارئ يستهل السرد بموت والد أورليش. أثناء شعائر الدفن يلتقي بطل الرواية شقيقته التوأم أغات التي نأت بها الأيام عنه حتى عادا فاجتمعا حول نعش أبيهما. خلافاً للتوقعات، نشأت بين الاثنين علاقة حب وشغف جعلتهما ينعزلان عن العالم، ويتواريان في منزل أورليش وحديقته الخاصة. في صميم التواصل الوجداني بين الاثنين، طفق أورليش يختبر حال الرغبة الإنسانية التي تروم أن تكتفي باندفاعيتها البريئة من غير أن تمسك بغرضها وتفوز بمنالها. من شدة العزلة الفكرية، يسقط العالم وتتوقف الحياة ويتعطل الزمن، فلا يبقى سوى حال التلاقي الحر بين الكائنين الراغبين في التشارك الوجداني. أما موت الأب، فلا يؤثر فيهما على الإطلاق، ولكأني بهما يهزآن بالموت ويعدانه من ضرورات الحياة، ذلك بأن قيمة التلاقي الأخوي تتجاوز عقدة الموت لتقترن بضرورة الانكشاف الذاتي في عيني الآخر. كلاهما يعيد اكتشاف ذاته في محضر الآخر الذي صاحبه في توأمية الولادة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عند هذا المنعطف شعر موزيل بأن عزلة الأخ والأخت لا يمكنها أن تستمر خارج حركة الزمان. ومن ثم، كان لا بد من إعادتهما إلى جادة الحياة. في هذه الأثناء، شرعت النازية تهدد السلام الأوروبي، وأخذت قوى موزيل الجسدية والفكرية تتقهقر. غير أنه عند اندلاع الحرب العالمية الثاني واصل كتابة الأجزاء الناقصة من الرواية، من غير أن يحدد المسار الروائي النهائي ويستجلي الرؤية الختامية. كان من الممكن أن يتصور التئام جميع شخصيات القسم الأول المنضووين إلى المحفل السياسي التحضيري حتى يملي عليهم الأمثولات والعبر التي استخرجها من معايناته واختباراته، بيد أن موزيل الذي اختبر في شخصية أورليش الانخطاف الوجداني والنشوة الكيانية في حال التلاقي الصميمي لم يعد قادراً على استعادة عناصر الوصف المرتبطة بما انتثر في القسم الأول من حقائق السياسة والتاريخ. حتى لو استطاع موزيل أن يحيا حياة أطول، لما كان قادراً على إنهاء روايته التي تشعبت تشعباً مربكاً يكشف أطوار نضجه الفكري والروحي.

الكتابة فن ترصد الإمكانات المشرعة

تشتمل الرواية، حتى في أقسامها غير المنجزة، على 1800 صفحة تصف لنا في مشاهد متقطعة القسط الجليل من اختبارات الإنسان المعاصر في غربته وصمته وقلقه. منذ صدور العمل الأدبي البارز هذا، تقاطرت شهادات الإعجاب والمدح معاينة فيه إحدى أعظم الروايات الأروبية، ذلك بأن موزيل عقد حبكته على وصف الأحداث التي واكبت نهاية الإمبراطورية النمسوية - الهنغارية، ولكنه اغتنم هذه الفرصة ليرسم لنا وجود الإنسان الغربي المعاصر بريشة الخفة التهكمية والتدبر الفلسفي العميق.

مارس موزيل مهناً شتى، غير أن مهنة الكتابة علمته أن المهنة الأعظم ليست سوى مهنة بحد ذاتها. أما الأهم فطلب الوضوح الخلاصي في إدراك معنى الوجود. غير أن مطلب الوضوح يرافقه عدم الرضا الكياني الذي ينتاب الكاتب. بما أن الكتابة الأدبية تعتصم بالاحتمالات المفتوحة والإمكانات المشرعة، فإنها تبطل الأنظومات الفكرية المغلقة، وتعطل المتافيزياء الشمولية، على نحو ما ذهب إليه هايدغر في الزمن عينه. فإذا بموزيل يشبه هايدغر في وجه من وجوه انتفاضة التفكيك والهدم. ليس إلغاء الخاتمة في رواية موزيل سوى التعبير عن استنفاد الكوجيتو الديكارتي، أي الذات المتفكرة. ذهب الإنسان وبقيت الصفات. فإذا به إنسان انعدام الصفات، لا مستند له ولا مركز يتكئ عليه. حتى العالم نفسه فقد تماسكه وتناثر في شتيت التبعثر والتعثر والتمزق. لا ريب في أن الحياة واصلت مسيرتها بعد موزيل وبطله أورليش. إلا أن نصها تصدع من جراء انفطارها على الالتباسية والترجحية والتنازعية، وجميعها سمات الإنسان السليب المزايا. حاول موزيل أن يصور لنا مشهد السر الغامض في صميم الوجود. غير أن نصه ما برح رصفاً لبعض الشواهد المقتبسة من كهوف الفكر المتألم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة