تُعتبر بريطانيا معقل الفلسفة التجريبية أو الحسّية، التي أخذت دورها المحوري والفعّال تجاه الفلسفة العقلية الفرنسية، والفلسفة المثالية الألمانية، ضمن مذاهب وتكوينات الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة؛ ويُعَدّ بيرتراند راسل (1873-1970)، أحد أهم أقطاب الجانب البريطاني في هذا السياق. فقد كان راسل يتمتع بميزات متنوعة ومؤثرة في آن واحد، ففي الفلسفة والمنطق كانت نظرياته وأفكاره واضحة التأثير في المدرسة الوضعية، وفي المنطق الرياضي على حد سواء.
كما كانت أفكار وآراء وتصورات راسل في الحقول السياسية والتربوية والاجتماعية لافتة للنظر على نحو واسع، وكانت أيضاً موضع نقاش متواصل، علاوة على أن راسل كان معارضاً نشطاً للنهج الإمبريالي الغربي، ومشاركاً ميدانياً في الاحتجاجات ضد سباق التسلُّح النووي، فضلاً عن تأييده ومناصرته الاقتصاد الاشتراكي.
وفي هذه الدراسة سوف نتناول أيضاً، رؤية راسل في الفلسفة العربية، وما كتبه في هذا الصدد، ومفهومه بالواقع التاريخي للعرب وحضارتهم الإسلامية.
نظرية المعرفة
في كتابه "المعرفة الإنسانية مجالها وحدودها"، أشار راسل في خاتمة المقدمة قائلاً: "أعلن النبي (محمد) أنه إذا بدا نصّان من القرآن غير متناسقين (الناسخ والمنسوخ)، فإن النص الأخير يجب أن يؤخذ في هذا الأمر. وأتمنى من القارئ تطبيق هذا المبدأ المماثل في تفسير ما يقال في هذا الكتاب". (الطبعة الإنجليزية، 1948، ص 6).
إذ يرى راسل في نظرية المعرفة، أن إحدى صعوبات هذا الموضوع تكمن في استعمال المفردات العامة في الكلام، مثل: الإيمان والحقيقة والمعرفة والإدراك، وهي في الاستعمالات اليومية تكون شائعة وغير مضبوطة، وبما أننا لا نمتلك كلمات أكثر دقة لكي تحلّ محلها، حتماً سيكون كل شيء في المراحل الأولى من استفساراتنا بأنها ليست مُرضية من وجهة نظر ما نأمل أن نتوصل إليه في النهاية.
وحسب مفهوم راسل، فإن المعرفة اليقينية تعني معرفة الشيء قياساً إلى غيره من المعارف عن ذاك الشيء نفسه. إذ كلما كانت نسبة المقارنة قوية ومتينة كانت المعرفة الإنسانية أكثر صدقاً ووضوحاً، بحيث لا يصل الشك إليها قط. وفي كتابه "مشكلات الفلسفة" يطرح راسل هذا السؤال: "هل هناك أي معرفة يقينية في العالم لدرجة لا يستطيع الإنسان الشك فيها؟" (الطبعة الإنجليزية، 1964، ص 7).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفق تصور راسل، فإن هذا السؤال يبدو للوهلة الأولى ليس صعباً، لكنه من أصعب الأسئلة، لأنه يوجب علينا أن نفهم كل غموض، وكل إرباك، حسب ما تشكّله لنا أفكارنا العادية، علاوة على فهّم ما نحن نفعله في حياتنا العادية أيضاً. ومن هنا، يركّز راسل على تبيان الأسس اليقينية ضمن نطاق المعارف العامة، التي يألفها الفرد في حياته العادية وممارساته اليومية، وهي أشياءٌ كثيرةٌ جداً من المعارفِ الشائعة.
ولذلك يحاول راسل إدخال نوع من التنسيق المقارن على المعارف، وذلك عن طريق تصنيف هذه المعارف حسب نسبة اليقين إليها، وهكذا يفرّق بين القضايا الأساسية، التي تكون بها درجة اليقين عالية، والقضايا الفرعية المشتقة منها. وفي هذه العملية يتخذ راسل من الشك المنهجي، الذي وضعه رينيه ديكارت (1596-1650)، مسلكاً يرتّب فيه تنسيق وتنظيم هذه المجموعة من المعارف، بحيث تكون قضاياها مرتبة وفقاً لقوتها تجاه الشك المنهجي.
وبالنسبة إلى راسل، يوجد نوعان من القضايا التي لا يمكن أن يصل إليها الشك بتاتاً، وهما: المنطقية والرياضية. الأولى واضحة، وتكون حقائقها ثابتة، والثانية يكون موضوعها الخبرات الحسية المباشرة. فالمُعطيات الحسيَّة هي الوحدات البسيطة في تكوين الأجسام والأحداث العقلية، وبذلك يوحّد راسل بين المُعطيات الحسيَّة و"الإحساسات"، إذ إنهما شيءٌ واحدٌ.
وعليه، "ينبغي أن نستغني عن الذات، كونها إحدى مقومات العالم الفعلية، وإذا فعلنا هذا، فإنه من غير الممكن التفرقة بين الإحساس والمُعطى الحسّي"، لأن الإحساس الذي نشعر به عند مشاهدتنا شيئاً، إنما يكون هو ذاك الشيءُ نفسه لا غير. بمعنى، إن الإحساس والمشاهدة هما شيءٌ واحدٌ ليس إلا.
وطالما كان ذلك كذلك، فإن راسل يرفض أن يكون هناك أي تمييز بين المُعطيات الحسيَّة المشتركة عند البشرية جمعاء. والسؤال هنا: ماذا عن فعل الإدراك الحسّي؟ هو من الأفعال الذاتية المحضة، التي تخص الفرد المُدِرك وحده دون غيره.
جواب راسل: "على الرغم من أن المُعطيات العضوية مشتقة من نظام العالم النفسي، فإن حافز نتيجة الإحساسات داخل الجسم الطبيعي سوف لن يكون بالإحساس نفسه عند الناس الآخرين. فإذا أصابني ألم - معدة، فإنني لا أتفاجأ كون الآخرون ليسوا بنفس الألم، الذي نتج عن عصب عضلي، وهو علّة الإحساسات عند استعمال العضلات. إن هذه الإحساسات، طبيعياً، هي الحسّ بالشخص المُدِرك فقط، وتكون حافزاً خارجياً تجاه الجسم الُمُدرَك فحسب". (المعرفة الإنسانية، ص 59).
وهذا يعني، أن "الإدراك الحسّي"، حسب قول راسل، يكون في معنيين: الأول عام، والثاني خاص. فالخبرات الحسيَّة عامة بما فيها العوامل الإضافية، التي تدخل في تكوين هذه الخبرات، كالذاكرة والمخيلة والأفكار والتصورات، هي قضايا إخبارية تكون عرضة للشك، إذ فيها الصواب والخطأ. بينما المعنى الخاص يدل على المركز الحسّي في الإدراك المباشر بمعزل عن تلك العوامل الإضافيَّة. فالنواة الحسيَّة هي خالصة، ليس فيها أثرٌ مّا من التأويل والتفسير، ولا غيرها من العوامل، التي تشكّل الإدراك الحسّي بمعناها العام، فهي التي لا يصلها الشك بتلك السهولة.
كما يرى راسل، أن الإحساس هو نواة الخبرة العقلية بالنسبة إلى الإنسان، لكن لا يوجد في حالته الخالصة إلا عند الأطفال، وعلى علماء النفس تحديد ماهيته، ذلك لأن تحديد حواسّ الطفل لا يخضع تحت تأثير العوامل المضافة، لأن موضوع هذا الإدراك هو النواة الحسيَّة أو "المُعطيات الحسيَّة الخالصة"، التي تكون بذاتها، وبشكل مستقل عن تأثيرات الذاكرة والمخيلة والاستدلال والخبرة المسبقة، وغيرها من العوامل الإضافية.
أمَّا التمييز بين العقل والمادة، حسبما يعتقد راسل، فإن ذلك يرتكز أساساً على طبيعة القوانين السببية، التي تربط العناصر المحايدة مع بعضها بعضاً. فالمادة ناتجة عن ارتباط المُعطيات الحسيَّة المحايدة ضمن كتلة أو مجموعة معينة من العلاقات السببية. والعقل ناتجٌ عن ارتباط هذه المُعطيات بكتلة أخرى من العلاقات السببية. وبذلك فإن ارتبطت وفقاً لقانون الجاذبية مثلاً، فإنه ينتج شيء مادي. أمَّا إذا ارتبطت وفقاً لقانون التداعي فتنتج عن ذلك حالة عقليَّة.
بمعنى ثانٍ، إن "القوانين السببية"، وفق رأي راسل، هي التي تجعل من العناصر المحايدة أن تكون عقلاً أو مادة. ومع ذلك، فإنه يشير إلى القوانين السببية بأنها تعميمات وصّفية مستخرجة من طبيعة الظواهر، سواء أكانت ماديَّة أو عقليَّة، كما أنها لا تفرض أي خصائص معينة على هذه الظواهر البتة.
ويذهب راسل إلى القول: إن "النوع الوحيد من الضعف في قانون السببية الذي يمكن الاعتراف به، هو ذاك الذي يقول: إن العلاقة السببيَّة قد لا تكون ثابتة، بل في بعض الحالات قد لا تكون هناك علاقة سببيَّة. وقد نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتراف بأن التحوّلات الكمومية والتفكك الإشعاعي النشط في الذرات المفردة ليس لها سوابق ثابتة، على الرغم من أنها أسباب وليست آثاراً، ولا توجد فئة من السوابق المباشرة، التي يمكن اعتبارها أسباباً لها". (المعرفة الإنسانية، ص 472).
أمَّا نظرة راسل إلى العناصر المحايدة كونها جزئيات أو كليات، فإنه قد ترنّح بالأخذ بها حيناً، والرفض حيناً آخر.
على أي حال، فإن راسل يرى أن "الهيولي (المادة)" تتكون من جزئيات لا تُحصى، إذ يتركّب منها العالم. وإن اللغة ليس بمقدورها أن تقدم لنا الوسيلة المباشرة على الجزئيات، التي تتكون منها الحِزّم في الأشياء والأشخاص. إذ باستطاعتنا أن نعين لهذه الجزئيات أسماء أعلام، لأن "تقنية علم اللغة مفيدة في تحليل المفاهيم العلميَّة"، وذلك باستخدام الكلمات وفق عبارات قليلة تفي لنا بالتعريف المطلوب علمياً.
إن "اللغة لها ميزتان مترابطتان: الأولى أنها اجتماعية. والثانية أنها توفر وسيلة نشر علني لـ(الأفكار) التي ستبقى خاصة. دون اللغة، أو ما قبل اللغة التماثلية اللغوية، تقتصر معرفتنا بالبيئة على ما أظهرته لنا حواسنا، إلى جانب الاستنتاجات التي قد تثيرها دائرتنا الخلقية، لكن بمساعدة الكلام، يمكننا أن نعرف ما الذي يمكن للآخرين أن يرتبطوا به، وأن نتعرف على ما لم يعد حاضراً بشكل معقول، لكن يتم تذكّره فقط". (المعرفة الإنسانية ص 73).
هذا، والجانب الآخر في المعرفة الإنسانية هو الرياضيات والمنطق، الذي انكب راسل على دراستهما بعمق وإسهاب. فالرياضيات، حسب تصوّره، ليست فيها الحقيقة فقط، بل إنها تحوي جمال الجد والصرامة، إذ فيها الصفاء والكمال، دونما أن يتعصّب الإنسان ويثار لشيء ضد آخر.
إن الرياضيات فيها من الموضوعية القويّة، بحيث لا تتيح للشخصيَّة أن تتدخل أبداً، كما أن الرياضيات وحدها تحوي المعرفة المطلقة، برموزها وأشكالها وطُرقها ذات الفروض الثابتة، رغم كل ما يطرأ على العالم من حوادث وتغيّرات.
على سبيل المثال، إذا فرضنا أن (أ) هي (ب)، ثم فرضنا أن (س) = (أ)، إذاً لكانت (س) = (ب) أيضاً. فهذه حقيقة ثابتة مهما تغيّر ما في العالم. وانطلاقاً من هذا الواقع الرياضي، يطالب راسل بأن تكون فروض الفلسفة مثل فروض الرياضيات، بحيث لا تتعلق بالأشياء، بقدر ما تبحث فيما بين الأشياء من صلات، لأنها يجب أن تكون مستقلة عن الحقائق الفرديَّة، والحوادث الجزئيَّة، حتى إذا تغيّر كل جزئي في العالم، لأنه هنا سوف تكون الفروض الفلسفيّة ثابتة في صحتها، لا يعتريها تبديل ولا تغير البتة.
وهكذا يحاول راسل أن يحصر كل الفروض الفلسفيَّة الواجبة في الصور الرياضيَّة المجردة، ليزيل منها الحقائق الجزئيَّة، التي يجب أن تستقل عن الفلسفة تماماً. وهنا، يكون راسل متوافقاً مع مسلكية نظريته المعرفيَّة، إذ إن "الكائنات الفرضيَّة"، كما يقول في كتابه "التصوف والمنطق"، هي مثل الإلكترونات والغازات المثاليَّة وغيرها، عند تحليلها لا يمكن مشاهدتها، كونها تركيبات مؤلفة من عناصر يدركها الإنسان سواء كان بالفعل أو بالقوة، لأنها وحدات محسوسة. (الطبعة الإنجليزية، 2012، ص 100).
معنى ذلك، أن تحليل الأجسام إلى وحداتها الأولى والبسيطة، فإن كل هذه الوحدات إنما تكون محسوسة بالفعل أو بالقوة. وبذلك فإن جميع القضايا التي تخص الكائنات الفرضيَّة أو التي تخص الأشياء يمكن ردها إلى "القضايا الأساسية"، التي لا يتطرق إليها الشك قط، وفق قول راسل، سواء أكانت من القضايا الرياضيَّة والمنطقيَّة أو من القضايا الحسيَّة المُدّرَكة بالحواس مباشرة.
صفوة القول، إن نظرية المعرفة عند راسل ترتكّز على محورين رئيسيين، ويمكننا من خلالهما أن نتعرف على ما يحيط بنا من أشياء وظواهر في العالم الطبيعي والكوني. الأول، يعتمد على المعرفة بواسطة البيانات الخاصة بنا عبر تصوراتنا اللحظيَّة إلى ما ندركه من اللون والصوت والرائحة والطعم وغيرها. والثاني، في المعرفة التي تتضمن الأشياء المادية ذاتها، التي يمكن الاستدلال عليها بشكل مباشر، كونها أشياء مُدّرَكة، لكن من دون معرفتها.
وبما أن راسل تجريبي صميمي، إذ إن المعرفة عنده إنما تكون مستخلصة من الأبحاث التجريبية، التي تكون يقينية بتكرار الاختبار فقط، إلا أنه ظلّ مقتنعاً بأن المنهجين العلمي والفلسفي لا يؤديان إلى معرفة كلية ثابتة، بل مؤقتة وجزئيَّة ليس إلا.