Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تدهور الصين الخطير

على واشنطن التكيف مع جبل المشكلات المتراكم مع بكين

كان الشهران الماضيان من أكثر الفصول خطورة في تاريخ الصين القريب (رويترز)

كان الشهران الماضيان من أكثر الفصول خطورة في تاريخ الصين القريب. ففي أثنائهما عقد بداية "المؤتمر العشرون" للحزب، وتوسل به الرئيس شي جينبينغ إلى اجتثاث ما تبقى من منافسين قلائل. ثم، بعد أسابيع قليلة، اندلعت في البلاد أوسع موجة تظاهرات شهدتها الصين منذ التظاهرات الضخمة في ساحة تيان أن مين، وغيرها من الأمكنة سنة 1989. وبالكاد مضى أسبوع بعدها، حلت الخاتمة المروعة. ففي إقرار نادر (من دون الإعلان رسمياً)، قررت بكين تخفيف بعض تدابير سياسة "صفر كوفيد" التي رمت كثيراً من المواطنين الغاضبين إلى الشوارع.

وهذه المرحلة كانت وقتاً عصيباً، حتى وفق المقاييس المضطربة (وغير الواضحة) للصين المعاصرة. فتحت القشرة الظاهرة، تشير الحوادث (الأخيرة) إلى أن الصين، بعيداً من كونها ذاك العملاق الناهض، على ما يصورها غالباً الإعلام الأميركي والقادة الأميركيون، تترنح على حافة هاوية. فعشر سنوات من "إصلاحات" (الرئيس) شي– ويشيع الغرب أنها إجراءات ناجحة عززت السلطة والحكم – أدت إلى إضعاف البلاد وإنهاكها ومفاقمة مشكلاتها الكامنة، كما تسببت بقيام وبروز مشكلات جديدة. وعلى رغم تزايد عدد المحللين الغربيين– من بينهم مايكل بيكلي، وجود بلانشيت، وهال براندز، وروبيرت كابلان، وسوزان شيرك، وفريد زكريا – الذين يلقون الضوء على هذا الواقع، فإن كثيرين من المعلقين الأميركيين ومعظم السياسيين (من وزير الخارجية السابق مايك بومبيو إلى الرئيس جو بايدن) ما زالوا ينظرون إلى التنافس الأميركي – الصيني في ضوء صعود بكين. وفي حال أقروا فعلاً بما تراكمه الصين من أزمات فإنهم غالباً ما يرونها أزمات حيادية (من دون أي تأثير) أو تطورات إيجابية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. والعكس هو الصحيح وما من خبر مفرح في ذلك. فصين ضعيفة، أو مصابة بالركود، أو متهافتة، قد تكون أكثر خطورة من صين متعافية ومزدهرة– وليس ذلك في ضوء مصالحها الذاتية فقط، بل قياساً على مصالح العالم كله. لذا، فإن التعامل مع صين فاشلة قد يثبت للولايات المتحدة أنه أصعب مما سبق وخبرته من تجربة تعامل مع صين في حالة مختلفة (مزدهرة). وإن أرادت واشنطن النجاح في مهمتها (الجديدة) هذه – أو في الأقل تجنب أسوأ نتائج الإخفاق والتراجع الصيني– فإنها تحتاج، بسرعة، إلى تصويب تركيزها. فسجل واشنطن في التعامل مع المنافسين، وهم في حال تراجع، ليس محظوظاً، ووضع سياسة جديدة للتعامل مع تقهقر الصين لن يكون سهلاً. أما أسوأ ما في المسألة فهو أنه من غير الواضح أن كانت إدارة بايدن قد بدأت بالعمل على الموضوع أم لا، ولكن هذا ليس سبباً لليأس. فثمة هناك عدد من التغييرات، بعضها سهل، يمكن للولايات المتحدة إجراءه، وهو قد يحسن ظروفها كثيراً– خصوصاً إذا ما قامت سريعاً بإنجاز التغييرات المذكورة.

رداء الإمبراطور السيئ    

على مدى سنوات كثيرة، إثر موت ماو تسي تونغ، مثلت الصين نظاماً أوتوقراطياً استثنائياً في العالم: فهي كانت الدولة الاستبدادية الكبيرة الوحيدة التي بدا أنها تتحدى قوانين الجاذبية في المجالين السياسي والاقتصادي. وابتداءً من أواخر السبعينيات وتحت قيادة خليفة ماو، دينغ جياو (هسياو) وبينغ، قامت الصين تدريجاً بفتح أسواقها، وتوزيع سلطاتها التنفيذية وتقسيمها، وفرض ضوابط داخلية، وتعزيز النقاش الداخلي، واستخدام المعطيات البحثية لاتخاذ القرارات، ومكافأة المسؤولين على النتائج الجيدة التي يحققونها، وانتهاج سياسة خارجية غير عدائية عموماً. وسمحت الإصلاحات تلك للبلاد بتلافي المصائر الكئيبة والكارثية التي عاناها معظم الأنظمة القمعية – وهي مصائر تتضمن موجات مجاعة وعدم استقرار عاشتها الصين في عهد حكم ماو المديد. ولم تنج الصين، تحت حكم دينغ وخليفتيه جيانغ زيمين وهو جينتاو، من تلك المشكلات والمصائر وحسب، بل ازدهرت، ووسعت اقتصادها بمعدل بلغ سنوياً قرابة عشرة في المئة بين 1978 و2014، في أثنائها انتشل قرابة 800 مليون شخص من هاوية الفقر (إضافة إلى إنجازات كثيرة أخرى).

بيد أن شي، منذ توليه القيادة سنة 2012، وبأسلوبه الانفرادي في الحكم، قام على نحو ممنهج بتفكيك كل تدبير إصلاحي يحول دون ظهور ماو جديد– وتجنب ما سماه فرانسيس فوكوياما مشكلة "الإمبراطور النقمة"، ولكن الإصلاحات الصينية التي استهدفها شي للأسف هي تلك التي مكنتها من إحراز نجاحات هائلة في تلك الحقبة الفاصلة. وقد قام شي، طوال السنوات العشر الماضية، بحصر السلطة في يديه، وألغى المحفزات البيروقراطية للصدق المهني، وقول الحقيقة، وإنجاز النتائج الناجحة، مستبدلاً بإياها نظاماً لا يكافئ سوى الموالين. كذلك فرض الرئيس شي في السياق، قوانين أمنية صارمة ونظام مراقبة محكماً تكنولوجياً، وقمع المعارضة، وقوض المنظمات المستقلة وغير الحكومية (حتى تلك المتوافقة مع سياساته)، وحجز بين الصين والأفكار الخارجية والأجنبية، وحول منطقة شينغيانغ الغربية إلى معسكر هائل احتجز فيه مسلمي الإيغور. وفي أثناء السنة الماضية شن حرباً على أصحاب المليارات الصينيين، وضرب الشركات التكنولوجية الشهيرة في البلاد، وزاد سلطات وميزانيات الاستثمارات التي تملكها الدولة، وهي شركات غير كفؤة وضعيفة الأداء– حاجباً في الوقت نفسه عن الشركات الخاصة التسليف الرأسمالي.

وليس المؤتمر العام الأخير للحزب إلا القشة التي قصمت ظهر البعير فاستغل شي المناسبة لإذلال هو (جينتاو)، الرئيس الذي سبقه والقائد الصيني الأخير من صف القادة الذين اختارهم دينغ. واستبدل رئيس الوزراء، لي كيكيانغ، وملأ "المكتب السياسي" و"اللجنة الدائمة" (للحزب الشيوعي الصيني) ذات النفوذ الكبير في البلاد، بأتباعه والموالين له (الذين يتمتع معظمهم بخبرات في مجالات الأمن وليس في الأمور التكنوقراطية). وبدلاً من أن تأتي مناسبة المؤتمر العام لتظهر عظمة الصين، سلطت الضوء على عيوب ومشكلات البلد المتزايدة. وتوج المؤتمر شي أحدث "إمبراطور سيئ" على الصين.

على أن الضرر الذي ألحقه شي بصورة الصين كان قد بدأ بالظهور على أوجه كثيرة. فهبط اقتصاد الصين، جراء نزواته المتقلبة، وتحت ثقل سياسة "صفر كوفيد" (أكثر من 313 مليون نسمة خضعوا في الآونة الأخيرة لشطر من تدابير الإغلاق) التي اتبعها. فطوي منذ زمن متوسط نمو الناتج المحلي السنوي الصيني البالغ 10 في المئة. فبينما تتوقع الحكومة أن يبلغ المعدل 5.5 في المئة هذا العام، يرى محللون كثر أن المعدل المذكور قد لا يبلغ على الأرجح نصف الرقم المتوقع. وسجلت قيمة اليوان، في الآونة الأخيرة، أدنى مستوياتها منذ 14 عاماً، أما مبيعات التجزئة، وأرباح الشركات، والإنتاج الصناعي، والاستثمار العقاري، فهي تشهد كلها هبوطاً واضحاً. وحلقت البطالة في الأثناء بمعدلاتها المرتفعة، وبلغت خلال الصيف نسبة 20 المئة في أوساط الشبان. واضطر ما يقدر بـ4.4 مليون من المؤسسات الصغيرة إلى الإغلاق خلال العام الماضي، كما تشير المعطيات غير الرسمية (المعطيات والإحصاءات الرسمية غير متوافرة) إلى أن البلاد تعاني هجرة أدمغة، إذ يندفع مبتكرو التكنولوجيا، وغيرهم من أصحاب المليارات والمحترفين في مهنهم من أبناء الطبقة الاجتماعية الوسطى، إلى المغادرة والهجرة.

 

انتصر شي على معظم منافسيه وأخرجهم وأظهر شراسته وتطرفه البيروقراطي 

 

 

والأمور مرشحة للتفاقم على الأرجح. فمع الجمود والخلل اللذين يصيبان الصين يرجح استبعاد تمكنها من تجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم. وبدل هذا، وإزاء تقهقر حظوظ الابتكار والمبادرات الاستثمارية. ومع تردي الإنتاجية في البلاد، ستجد الصين نفسها عالقة في فخ "الدخل المتوسط". وقد تتوقف معدلات مستوى عيش المواطنين عن النمو أو ربما تتقلص. وستؤدي الميزانيات الضامرة، وعدم الكفاءة البيروقراطية، إلى تعقيد تعامل بكين مع الكثير من الأخطار الوجودية المخيمة والمحدقة بها أصلاً، ومنها: شيخوخة السكان المتسارعة، وعبء الديون الهائل، والنقص الحاد في المصادر الطبيعية (ومنها الطاقة والمياه النظيفة)، والقطاع العقاري المريض على نطاق واسع، وينهض مرضه علامة على إخفاق قد يهوي بالاقتصاد الصيني برمته (أكثر من ثلثي مدخرات العائلات الصينية مستثمرة في العقارات).

ومع تفاقم الأحوال وانحسار "الحلم الصيني"، يرجح استمرار الغضب الشعبي وتنامي فقاعته، كما شاهدنا خلال الشهر الماضي. ويستشرف بعض الباحثين في الشؤون الصينية ثورة شاملة، على رغم أن آلة القمع الصينية تبدو فعالة في مواجهة ذلك. والانشقاقات داخل الطبقة الحاكمة الصينية لا تزال قائمة، على ما حذر كاي جيا، الأستاذ السابق في "مدرسة الحزب المركزية" الشيوعية الصينية. فعلى رغم أن شي انتصر على معظم منافسيه وأخرجهم وأظهر شراسته وتطرفه البيروقراطي، فإن عمليات التطهير عاقبت وأذلت قرابة خمسة ملايين مسؤول رسمي. وهذا عدد كبير من الأعداء حتى في ميزان أعتى وأشرس الحكام الشموليين.

وفيما يحاول شي إحكام سيطرته، يواجه أيضاً مشكلات خارجية على كل الصعد– وهذه، مرة أخرى، مشكلات من صنع يديه. فهو مع تخليه عن معادلة دينغ التي ذهبت إلى أن على الصين "إخفاء قوتها وترصد فرصتها"، سعى، بدل ذلك، إلى المواجهة. وهذا عنى تسريع عمليات الاستيلاء على الأرض في المناطق الجنوبية والشرقية لبحر الصين، وتهديد تايوان، واستخدام القروض الربوية التي تقدمها مبادرة "الحزام والطريق" في السيطرة على أبنية تحتية أجنبية، وتشجيع مبعوثي وممثلي الصين (في الخارج) على الانخراط في دبلوماسية "الذئب المحارب"، وكما يحصل في الآونة الأخيرة، مساندة روسيا في حربها غير المشروعة التي لا تحظى بتأييد شعبي ضد أوكرانيا. وهذه العواقب كانت متوقعة: فقد تردى تقدير الصين، في أنحاء العالم، ليقارب معدلاً لم يكن في يوم من الأيام أدنى مما هو عليه اليوم، فيما تبادر الدول الواقعة عند أطراف الصين إلى زيادة إنفاقها على قواتها العسكرية، وتجتمع تحت مظلة واشنطن الأمنية، وتتبنى اتفاقيات أمنية جديدة مثل "المباحثات الأمنية الرباعية" (التي تربط بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة على الصعيد الأمني والاستراتيجي) والـ"أوكوس" (AUKUS، وهي معاهدة ثلاثية أمنية بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولن تكف مشكلات الصين في السنوات القادمة عن التراكم– وما يفاقم سوء الأمور أن هذه المشكلات تفاجئ شي على الأرجح، فالمسؤولون الرسميون في المراتب الدنيا عوقبوا في ظل نظامه الشمولي جراء إشاعتهم أخباراً سيئة عن أحوال الداخل الصيني. ويصدق ما كتبته شيرك، نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ومؤلفة كتاب "تجاوز الحدود: كيف انحرفت الصين عن مسار صعودها السلمي" (Overreach: How China Derailed Its Peaceful Rise) "لن يجرؤ الناس على إخباره [شي] عن الجوانب السلبية الحقيقية والكلف المتأتية من سياساته والمشكلات الناتجة عنها". فالتواصل الحيوي المباشر بين الحكومة الصينية والحكومات الأجنبية لم يعد الآن يسيراً كما كان في السابق، وهو الأمر الذي يزيد كثيراً من أخطار حدوث نزاع طارئ وغير محسوب. وهذا ما شرحه بالأمس القريب ماثيو بوتينغير، وهو كان أكبر مستشاري ترمب في الشؤون الصينية، حين قال "توصلنا إلى قناعة في ولاية ترمب مفادها أن الرسائل التي كنا نبعث بها عبر القنوات الدبلوماسية لم تكن تبلغ شي. وإدارة بايدن (اليوم) انتهت إلى هذه الخلاصة".

احذروا ما تصبون إليه

ويحمل هذا صقور الولايات المتحدة على الاحتفاء بمشكلات الصين وأثقالها، ولكن عليهم أن يرجئوا الاحتفال لأن الصين المتراجعة قد تكون أخطر بكثير من الصين المزدهرة. ونظراً إلى الترابط بين الصين والولايات المتحدة، فإن الصين في حال ضعف اقتصادي– خصوصاً إذا رزحت تحت تسونامي الإصابات المحتوم حال تخفيف تدابير مواجهة كوفيد– تجر إلى اقتصاد أميركي أضعف (فكروا فقط في المشكلات التي عانت منها شركة آبل على الصعيد الدولي عندما اندلعت الخلافات العمالية في مجمع "فوكسكون" بمدينة جينغزهو). وعلى رغم أن بعض الباحثين يفترض أن الصين تميل إلى الانكفاء على نفسها عندما تعاني المشكلات الداخلية، قد يؤدي التراجع، كما سبق وشهدنا، أن يخلف آثاره في بلدان أخرى، ويرمي بها في المجهول ويحفز عدوانها. فالعلامات التجارية، على سبيل المثال، رصدت الحوادث الألمانية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وانتبهت إلى قرار اليابان الهجوم على الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، وخلصت إلى القول إن "الخطورة تنجم عن استباق بلد كان صاعداً لحظة استوائه تحت الشمس وبلوغه الذروة وابتدائه التراجع قبل إنجاز مصالحه".

 

 

والأخطار تكون كبيرة على نحو خاص عندما يجازف قائد وطني بسمعته، فيقرنها بوعود كبرى يشعر بوجوب تحقيقها، تماماً مثلما فعل شي. فهو يريد تعزيز صدقيته– خصوصاً بعد الفشل العام، والتراجع المحرج عن سياسة "صفر كوفيد"– لكنه عاجز عن الاعتماد على النمو الاقتصادي في سبيل إرساء مشروعيته (كما فعل قادة صينيون سابقون)، لذا قد يلجأ إلى إطلاق السهم الآخر في جعبته الديكتاتورية، أي القومية. وإذا فعل ذلك حقاً، بدت الصين قوية الشبه إذ ذاك بكوريا الشمالية: بلداً يعاني أزمة مالية، ونظاماً قمعياً يستفز ويهدد أعداءه بغية انتزاع التنازلات وترسيخ مكانته وإلهاء شعبه.

أما الخطر الأعظم فهو طبعاً التحرك العسكري تجاه تايوان. والمقارنة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحربه الكارثية على أوكرانيا، مفزعة حقاً. وكما كتب بلانشيت: "بيئة ينفرد قائدها بكل السلطات، ويصم سمعه عن سماع الحقائق غير المريحة، وصفة لكارثة". وهذه البيئة ليست سوى النظام الذي صنعه شي بيديه.

حافظوا على تواضعكم

السياسة الأميركية– الصينية المسؤولة عن بروز كل هذه الأخطار قد تتطلب تغييرات غير قليلة في المقاربة الراهنة التي تعتمدها واشنطن. وعلى الولايات المتحدة أولاً القيام بكل ما يمكن فعله في سبيل أن يتمتع نموذجها بأقوى قدر ممكن من الجاذبية. فكلما ضعفت جاذبية الصين في نظر البلدان الأخرى، وجب على الولايات المتحدة العمل على بلورة صورتها وصقل نموذجها. ولعل خير طريقة في هذا السبيل هي معالجة اختلالات السياسة الأميركية، على رغم ضآلة احتمالات القيام بالأمر في الوقت الحاضر. والأقرب إلى التحقيق، والأول في سلم الأولويات، هو تلافي الرد على الاستفزازات الصينية على نحو يناقض القيم الأميركية. فحجب الإعلام الصيني، وتقييد تأشيرات سفر الصينيين، على قول الباحثة السياسية الأميركية، والمسؤولة السابقة في إدارة بايدن، جيسيكا تشين وايس، تبعد "الولايات المتحدة عن مبادئ الانفتاح وعدم التمييز التي طالما ميزتها إيجابياً عن الآخرين".

وعلى هذا، على السياسيين الأميركيين العودة عن استعداء الصين، ورفع شعارات مناوئة لها لأهداف سياسية أميركية داخلية. والتلميح إلى أن واشنطن تسعى في تغيير نظام بكين، على ما فعل مساعدو ترمب في مناسبات كثيرة، لن يؤدي إلا إلى زيادة إحساس الصين بالخطر. ويصح هذا القول في خطوات وإشارات بالغة الرمزية، ومثيرة جداً، مثل زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في شهر أغسطس (آب) الماضي.

فكلما تعاظمت تعبئة بكين القومية، غدا شي أكثر سعياً إلى الصدام– لذا على الولايات المتحدة أن تتلافى منحه مبررات وذرائع تفجير إضافية. ويعقد الأمر أن وخز التنين (واستثارته) تقليد أميركي قديم، لأن تأثيره قوي في الساحة الداخلية الأميركية. وتغيير هذه المقاربة ليس سهلاً، وكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ازداد الأمر صعوبة، ولكن تلافي الاستفزازات المجانية ليس قرينة على الضعف، ولا يعد مهادنة واسترضاء. وإظهار واشنطن قدرتها على استيعاب الصين المتخبطة وتعزيز هذه القدرة، ورسم خطوط حمراء واضحة، وحسم سياسة "الغموض الاستراتيجي" تجاه تايوان (وهذا ما دعا إليه المفكر السياسي ريتشارد هاس وغيره من الباحثين)، كلها أمور تجلو القضايا على نحو واضح. وعلى واشنطن، في الوقت عينه، تأكيد معارضتها أي خطوة تايوانية نحو إعلان الاستقلال. والحق أن على الولايات المتحدة الإعراب عن هذه الرسائل (المواقف) إعراباً هادئاً– في سياق محادثات مباشرة مع تايبيه وبكين– لتلافي تحد علني يضطر شي إلى الرد. ومن وسائل حمل شي على تغيير حساباته، على واشنطن أن تعزز وجودها العسكري في مناطق المواجهة المحتملة، مثل منطقة المحيط الهادئ الغربية، والمبادرة إلى ما من شأنه تقوية موقف تايوان (وهو مشروع طال انتظاره وانطلق أخيراً).

 

السخرية علناً من منافس مأزوم قد تكون مغرية، لكنها لن تخدم مصالح أحد

 

وإبلاغ الرسائل الهادئة يتطلب، طبعاً، سبلاً مناسبة، لذا على إدارة بايدن أن تجدد بناء قنوات اتصال متينة في ظل أزمة ناشبة، وأن تحيي التواصل الدبلوماسي مع الصين بطرق تحاشتها الولايات المتحدة على مدى السنوات الست الماضية– وذاك لا يأتي مكافأة للصين على أعمالها الضارة، بل يؤكد أن حكومتي البلدين (الولايات المتحدة والصين) قادرتان على المحادثة عند الحاجة.

وعلى الجانب الاقتصادي، تستحق إدارة بايدن بعض الثناء على خطوات خطتها في الآونة الأخيرة مثل سن "قانون الرقائق والعلوم" (CHIPS and Science Act)، وتأسيس مصلحة ضبط التصدير التي تحد من حصول الصين على أشباه الموصلات (semiconductors) والمواد المطلوبة لتصنيعها. وينبغي أن تقلص هذه الخطوات من اعتماد الولايات المتحدة على غيرها، اقتصادياً واستراتيجياً، وأن تبطئ التقدم العسكري الصيني من دون التسبب باستفزاز حاد للدولة الصينية، ولكن على واشنطن إعمال التفكير في طبيعة المقايضات المعتمدة في سياق عملية فك ارتباط متصلة. وعلى رغم أن خطوات كهذه تساعد على زيادة حصانة الاقتصاد الأميركي، فإنها قد تروج للحمائية (الاقتصادية)، وقد تخلق مشكلات أمام السياسة الخارجية الأميركية تقلص من نفوذها وتضعف تحفيز بكين على التعاون.

ومن الصعوبات التي تحول دون بلوغ نقطة التوازن المناسبة لمبدأ العلاقة الأخير (بين الولايات المتحدة والصين) وجوب تمتع واشنطن بالاعتدال والتواضع في أثناء رسم سياستها الجديدة إزاء الدولة الصينية، وذلك من ناحيتين مهمتين. أولاً، على الولايات المتحدة متى تبدأ الصين في التردي على نحو جلي، تلافي الانسياق وراء نزعة الانتصار التي سادت بالتزامن مع سقوط الاتحاد السوفياتي (على رغم الجهود التي بذلها الرئيس جورج أتش دبليو بوش لإبعاد كأس الإذلال عن الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف). فالسخرية علناً من منافس مأزوم قد تكون مغرية، لكنها لا تنفع أحداً. وعلى السياسيين الأميركيين، على رغم توقهم المفهوم لتسجيل إصابات لمصلحتهم في الساحة السياسية الداخلية، أن يتذكروا تعاظم دواعي شي السياسية إلى اختيار الصدام إذا تراجعت مكانة الصين. وقد تقوى محفزاته المادية على التعاون، ويقوى اهتمامه بحل المشكلات، في ضوء تقلص موارد بكين المالية. وتبقى واشنطن في حاجة إلى التعاون مع بكين في عدد من المسائل، مثل مواجهة أزمة المناخ، وتلافي الجائحات في المستقبل، وعليها، قدر الإمكان، أن تسهل على شي قبول أطر التعاون واحتمالاته. ويقتضي هذا تخفيف لهجة الانتقادات، ولجم المواقف الحادة التي لا ضرورة لها. وعلى ما تقترح شيرك، يعني ذلك إعطاء "شي سبباً كافياً يقنعه أنه إذا قرر انتهاج سياسة معتدلة، فالولايات المتحدة ستولي الأمر اهتماماً وتقر به، وترد بالمثل بأساليب تعود على الصين بنتائج طيبة".

وأما النمط الثاني من الاعتدال فيفترض أن نتذكر مدى صعوبة المعضلة التي تطرحها الصين إذا عادت الأمور إلى التردي، ومدى الضرر الذي يلحق بالولايات المتحدة في مثل هذه الحال. فكروا هنا في سجل الولايات المتحدة في التعامل مع كوريا الشمالية. فلا شك في أن الولايات المتحدة تجنبت السيناريو الأسوأ، في ظل كثير من الأخطار وبعض الصدامات المحدودة وكثير من التجارب الصاروخية، إضافة إلى امتناع أسرة كيم عن المبادرة إلى حرب نووية حقيقية ضد أحد منذ سنة 1950، ولكن واشنطن، في المقابل، فشلت في منع بيونغ يانغ من اضطهاد الشعب الكوري الشمالي، ومن تصدير المواد المخدرة الممنوعة والدولارات المزيفة والأسلحة، ومن تطوير ترسانة نووية كبيرة (وهو الأمر الأهم). وهذا الفشل ليس ثمرة عدم المحاولة. فالرؤساء الأميركيون، منذ إدارة كلينتون في الأقل، صرفوا وقتاً طويلاً وجهوداً مضنية على محاولة تجنب هذه النتائج، لكنهم فشلوا جميعاً، وذلك أمر يدل دلالة ذات وجوه على صعوبة التحديات. والآن، فكروا في أن عدد سكان الصين أكبر بـ54 مرة من عدد سكان كوريا الشمالية، وفي أن الناتج المحلي الصيني أكبر بنحو ألف مرة من الناتج المحلي الكوري الشمالي، لتقيسوا حجم المشكلة الراهنة المتعلقة بالصين. والتعامل مع التراجع الصيني عملية مديدة وصعبة، تتخللها مقايضات مؤلمة. وقد لا يكون حقاً طريقة تحصن الولايات المتحدة، وباقي العالم، تحصيناً كاملاً من هذا التراجع، وما ينتج عنه من آلام. وهذا ربما السبب الأرجح الذي يحتم على صناع السياسات البدء، منذ اليوم، في العناية الشديدة بها.

*جوناثان تيبرمان هو رئيس تحرير مجلة فورين بوليسي السابق من سنة 2017 إلى 2020. وهو شغل قبل هذا منصب المدير الإداري لمجلة "فورين أفيرز". له كتاب "الإصلاح: كيف تستخدم البلدان الأزمات لاجتراح حلول لأسوأ مشكلات العالم" The Fix: How Countries Use Crises to Solve the World's Worst Problems

  مترجم من فورين أفيرز، 19 ديسمبر (كانون الأول) 2022    

اقرأ المزيد

المزيد من آراء