Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيم جون فيلبي الرجل الذي هزّ سمعة الـ MI6

وصل إلى أعلى المراتب وأضرّ كثيراً بعملاء صاحبة الجلالة

كيم فيلبي ينفي تورطه في التجسس لمصلحة السوفيات في مؤتمر صحافي العام 1955 في لندن وقبل هروبه الى روسيا (غيتي)

قبل ذهابه في مهمّة خدمةً للأمبراطورية البريطانية، غير المحددة مدتها ونتائجها. وصل جون فيلبي من السعودية في أبريل (نيسان) 1955 بعدما أمضى أكثر من ثلاثين عاماً فيها، إلى بيروت، التي لم يكن يعلم أنّها ستجمعه من جديد مع ابنه هارولد الذي تركه صغيراً مع والدته دورا جونستون، وصار من أشهر عملاء الاستخبارات السوفياتية الـ"كي جي بي"، باسم كيم فيلبي من دون علم الوالد الضليع في الجاسوسية أيضاً.

ولد جون فيلبي في سيرلانكا حيث كان والده في خدمة المملكة في العام 1885، ودفن في بيروت في العام 1960. كما ولد ابنه كيم في العام 1912 في الهند مكان عمل والده بعد تخرّجه من جامعة كامبريدج وزواجه في العام 1910. اختار الابن السير في طريق الجاسوسية، لكنّه افترق في الخيارات عن والده الذي لم يَخُن بلاده الأمّ بريطانيا، صحيح أنّه تخلّى عن العمل لمصلحتها واختار عملاً مستقلاً، لكنّه في النتيجة لم يعمل لجهاز استخبارات آخر. وعلى الرغم من انتقاده سياسة بلاده لم يكن ذلك إلّا من ضمن قناعاته. لكنّه بعدما اختار الديانة الإسلامية، متزوجاً سعودية ورُزِق منها أولاداً فضل البقاء بعيداً من بلاده وأوصى أن يدفن في بيروت وهذا ما حصل.

الشيوعي

على عكس والده سار كيم منذ البداية في طريق خيانة بلاده، مع رفضه تسميته خائناً لأنّه لم يقسم على الولاء إلّا لدولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي، مؤمناً بقوّة أنّ الشيوعيّة هي طريق خلاص الشعوب والانتصار على النازيّة، ولم يغيّر قناعاته حتى بعدما عايش ما فعله ستالين، ولذلك اختار أيضاً أن يموت في موسكو ويُدفن فيها. جون الأب لم يحظَ بدفن رسمي في مدافن الباشورة في بيروت، وكان في وداعه ابنه كيم وأولاده من زواجه الثاني، وعدد قليل من الأشخاص. على عكس ابنه الذي ووري في مقبرة كونتسيفو في موسكو، في 15 مايو (أيار) 1988، بدفن رسمي وبوداع يليق برجل خدم الاتحاد السوفياتي بكل إخلاص على مدى 35 عاماً، من دون أن يعلم أنّ النظام الذي عاش ومات وضحّى من أجله، سيسقط بعد عامين، وسينتهي مفكّكاً، ولن يتبقى من كل ما فعله لأجله هناك، إلّا ذكرى واسم مدوّن على شاهدة القبر الذي دفن فيه. هكذا كانت نهاية كيم والحلم الذي آمن به وخدمه بكل إخلاص متخلياً عن هويّته ووطنه من أجله.

"خماسية كامبردج"

من جامعة كامبريدج بدأت رحلة جون فيلبي نحو العمل في خدمة الأمبراطورية البريطانية. ومن هناك أيضاً بدأت رحلة ابنه كيم. الفارق أن رحلة الأخير كانت بعد انتصار الثورة الشيوعية في روسيا، ومع تشكل ما صار يعرف بالاتحاد السوفياتي وتأثّره بهذا التيّار الجديد.، علماً أنه لم يكن الوحيد في ذلك الأمر. إذن، من مقاعد الجامعة سيبدأ مشوار التجسّس لمصلحة الـ"كي جي بي" مع ما بات يعرف لاحقاً باسم "خماسية كامبردج"، وقد ضمّت كلّاً من: كيم فيلبي واسمه المشفّر ستانلي، وغاي بورغيس المسمى هيكز، وأنطوني بلانت الملقب بتوني أو جونسون، وجون كارينكروس بسيلزت ودونالد ماكلين بهومر. كان كيم الأشهر والأقدر على التخفّي والبقاء على خطّ الأمانة على الرغم من المخاطر التي اعترضته والتحقيقات التي خضع لها خادعاً الاستخبارات البريطانية، ومنهم والده، الذي كان اسمه من دون دراية جواز تسهيل مرور ابنه إلى عالم الاستخبارات الإنجليزية ليعمل لصالح السوفيات.

الشيوعية في أوساط الأسر الأرستقراطية

قبل بداية الحرب العالمية الثانية بدأت الاستخبارات السوفياتية في العمل على تجنيد عملاء في دول الغرب، ضمن إستراتيجية تصدير الثورة الشيوعية، التي كانت تدغدغ أحلام بعض الذين انجذبوا إليها، خصوصاً في بعض الجامعات وأوساط المثقّفين الباحثين عن أفكار جديدة في خضم التوترات الأوروبية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومع صعود موجة النازية مع أدولف هتلر في ألمانيا. كان البعض يعتقد أن الشيوعية هي الطريق نحو مواجهة الرأسمالية والنازية. من هنا بدأت رحلة كيم فيلبي ورفاقه المعروفين الذين كانوا أبناء أسر أرستقراطية بريطانية وأبناء مسؤولين في الدولة، وغيرهم من المجموعات. ذلك في العام 1934 تقريباً، وعمر كيم 22 سنة.

انتمى كيم في الجامعة إلى ما كان يُعرف بـ"الجمعية الاشتراكية"، مقتنعاً بالولاء للشيوعية قبل أن يُجند رسميّاً. لذلك لا يمكن الحديث عن تجنيد، بقدر ما كانت عملية تنظيم ورسم طريق لاختراق أجهزة الاستخبارات البريطانية وتطويره نحو حلف شمال الأطلسي والاستخبارات الأميركية. ولم يكن كيم ليسمى عميلاً، بل رجل الاستخبارات في الـ"كي جي بي"، لأنّه واحد منهم. وإن حمل الجنسية البريطانية، التي كانت طريقه نحو إنجازات لمصلحة السوفيات ونجاحه في مهمته.

النمسا البداية

عمل كيم بداية في لجنة مساعدة الفارّين من الفاشية النازية في النمسا. هناك تعرّف إلى النمساوية ذات الجذور اليهودية ليتسي فريدمن التي كانت تعمل معه في إطار النشاطات الشيوعية المنظمة. على الرغم من أصوله الأرستقراطية لم يتردّد في الزواج منها والمغادرة معاً إلى المملكة المتحدة معتبراً أنّه خلّصها من احتمال ضمّها إلى معسكرات الاعتقال النازية التي كانت تلاحق اليهود. هذا الزواج الذي لم تتقبله والدته، لم يُكتب له الاستمرار إلّا أشهراً قليلة. خلال هذه المرحلة انخرط كيم في العمل الفعلي ضمن الاستخبارات السوفياتية، من النمسا وخلال متابعته، أدركت أديت تيودور خبيرة في مجال التجنيد لصالح السوفياتية، أهمّية ما يمكن أن يقوم به فبدأت التواصل معه هناك، بالأفكار والاقتناعات والعمل لخدمتهم. كان زوجها طبيباً بريطانياً ما سهّل مهمّتها، وبعد عودته إلى بلده لحقته أديت ودعته إلى نزهة في حديقة ريجنت بارك العامّة في لندن. سارا مسافة طويلة واستقلّا أكثر من سيارة أجرة وحافلة ركاب للتأكد من عدم تعقبهما، وقادته إلى حيث يجلس رجل يخفي وجهه بصحيفة. لم تقترب أديت من الرجل لكنها قالت لكيم إنّه سيكون نافعاً له ومثيراً لاهتمامه، ويستطيع العمل معه، إذا كان يريد مساعدة البلاد الشيوعية، لذا توجّه نحو الرجل بينما غادرت هي. انتهى دورها هناك حيث بدأت قصة العمالة، وغابت عنه إلى الأبد. الرجل لم يكن إلا أرنولد ديتش رجل الاستخبارات السرّية السوفياتية، يحمل شهاداتَي دكتوراه في الطب والفلسفة، ولم يكن يحتاج إلى قوة لإقناع كيم الذي أتى إلى الموعد مقتنعاً. كانت تلك بداية تنظيم عمله وربطه بالقنوات السرّية التي سيتعاطى معها على سبيل تلقّي الإرشادات والتعليمات ونقل المعلومات.

الدخول السهل إلى MI6

المهمّة الأولى، أن يحصل كيم على وظيفة رسمية، ولم يكن الأمر صعباً. يقال إن والده سهّل له العمل مراسلاً صحافياً حربياً في إسبانيا، بعد بدء الحرب الأهلية، فاستغل الأمر غطاء لمصلحة الـ"كي جي بي". يذكر أيضاً، أنّه صار قريباً من الجنرال فرانكو الذي منحه وساماً حربياً لإصابته بشظايا انفجار، ومن غير الواضح أمر تمنّعه عن تنفيذ مهمّة تتعلّق بتسهيل اغتيال الجنرال.

عندما بدأت الحرب العالمية الثانية كان رفاقه من جماعة "خماسية كامبردج" قد بدأوا العمل في وظائف رسمية. غاي برجيس وأنطوني بلانت في الاستخبارات. ماكلين ابن وزير التربية، في وزارة الخارجية. حينها اتصلت به امرأة تعرف إليها في إسبانيا، وأبلغته بوظيفة في الاستخبارات البريطانية. وبالفعل اتصل به ضابط، للقاء شخصياً والانضمام إليهم. لم يُبحث في ماضيه ولم يُحقق في نشاطاته وميوله، إذ لم يجدوا في ملفّه أيّ اتهام بقضيّة جرمية. خلال أعوام قليلة ساعدته مؤهلاته في الترقي وتولي مسؤوليات، بحيث أتيح له الوصول إلى أقسام الاستخبارات والحصول على ملفات سرية مستغلّاً علاقاته الخاصة.

قسم مكافحة الشيوعية

في العام 1943 أصبح نائباً لرئيس قسم في MI6 لكنّه كان يقوم بعمل الرئيس الفعلي، مع ثقة القيادة به ما أتاح له الحصول على معلومات ووثائق سرية تتعلّق بأقسام أخرى في الجهاز، يحملها إلى منزله، بتسهيل من سكرتيرة كانت تساعده أصبحت في ما بعد زوجته. كانت مهمته في قسم مكافحة الشيوعية متابعة عملاء الاستخبارات البريطانية في العالم. لذا تمكّن من تزويد الـ"كي جي بي" بأسماء صحيحة وسرية، مكّنها من الوصول إلى عدد كبير منهم، اعتقلت بعضهم وصفّت آخرين، وحوّلت من استوعبتهم إلى العمل لمصلحتها، مع إخفاقها في التعرف إلى من لهم أرقام أو أسماء مشفّرة. شكل هذا الأمر ضربة كبرى للاستخبارات الإنجليزية، لم تكن الأخيرة، إذ بقي كيم مصدر معلومات السوفيات مجهولاً. ولم يقف الأمر عند هذا الحّد حين انتقل للعمل في قسم الاستخبارات في السفارة البريطانية في الولايات المتحدة الأميركية، منسقاً مع الـ"سي أي إي"، ما أتاح له معرفة العملاء الروس الذين يعملون لمصلحة بريطانيا وأميركا.

الشك

توفرت لكيم معلومات عن احتمال اكتشاف أمر غاي بورجيس ودونالد ماكلين، فسهل لهما الفرار إلى الاتحاد السوفياتي في العام 1951. تلك العملية أول حبة تسقط من عنقود "خماسية كامبردج"، وأدت إلى التحقيق معه من دون جدوى.

لم تكن مسألة فرار بورجيس وماكلين وحدها التي أثارت الشكوك حوله. ففي الفترة نفسها كان عميل تركي يدعى أحمدوف آغا يعمل لصالح الـ" سي أي إي" وكان على بيّنة من مهمّات اضطلع بها كيم لمصلحة الـ"كي جي بي" خلال عمله لصالح الـ MI6 في تركيا، فنقلها إلى رؤسائه، وعلى الرغم ذلك استطاع كيم بعد التحقيق معه من نفي الاتهامات، إلا أنّه قدم استقالته ربّما لمنع التوسّع في ملاحقته.

محطة بيروت

بقيت قضية التأكّد من عمالته وخيانته عالقة. في العام 1955 منحه وزير الخارجية البريطاني هارولد ماكملان ما يشبه البراءة عندما أعلن أنه لم يخن بريطانيا. ما سهّل العودة إلى جهاز الاستخبارات من موقع آخر. كُلِّف بمهمّة تحت غطاء عمل صحافي كمراسل للأوبزرفر، في بيروت منتصف الخمسينيات، وكانت فرصة ليلتقي والده جون في موعد لم يخطط له مسبقاً، ومناسبة لهما لتعويض بعض ما فات من ابتعاد سنوات طويلة. لكنّ حاجز الغربة كان كبيراً بينهما فكل منهما في مكان آخر، خصوصاً بعدما صارت للوالد حياة وزوجة وديانة وعائلة أخرى. ثمة معلومات غير موثوقة عن أن الاستخبارات البريطانية كلفت كيم بالتجسس على أبيه بعد عودته من السعودية إلى بيروت، والتي سبقت عودة الابن.

كان ثمّة اعتقاد بأنّ إبعاده إلى بيروت كفيل بأن يغطيه ليستمرّ في عمله لمصلحة الـ"كي جي بي"، لكن العكس حصل. فالرجل لم يخرج من دائرة الشكّ، بخاصة مقالاته للأوبزرفر، خصوصاً في ما يتعلّق بالصراع العربي الإسرائيلي، إذ لم يخفِ ميوله وانتقاداته للسياسة البريطانية. هذا الأمر جعل صديقة قديمة له تتنبّه وتتذكّر قصّة قديمة بينه وبينها عندما عرض عليها مرّة في أواخر الثلاثينات أن تنضمّ إلى التنظيم الشيوعي الدولي. عام 1962 نقلت هذه الصديقة ما لديها من معلومات حول عمالة فيلبي للسوفيات إلى ضابط استخبارات بريطاني صديق يدعى فكتور روتشيلد التقته خلال حفل استقبال في معهد وايزمن. في الفترة نفسها كان أحد ضباط الاستخبارات في الـ" كي جي بي" أناتولي غولنستين قد انشقّ والتجأ إلى الولايات المتحدة الأميركية، واتّهم بدوره كيم بأنه عميل. عدا معلومات عن محاولة كيم تجنيد أحد السياسيين اللبنانيين على صلة بـ CIA للعمل في هذ الجهاز مستغرباً مثل هذا العرض منه، لذلك أبلغ الـ CIA، ما حملها على الشك في ما يفعله في بيروت.

في يناير (كانون الثاني) 1963 كُلّف الضابط في الاستخبارات البريطانية نيكولاس أليوت بالانتقال إلى بيروت، والتحقيق مع كيم. لكن ثمة ما هو غير واضح في هذه المسألة، فلماذا لم يستدعَ إلى بلاده للتحقيق معه؟ ويذكر إن أليوت تمكن من مواجهته بما لديه من معلومات وهدّده بسحب جواز سفره البريطاني، ما جعل كيم يراوغ باعتراف غير مكتمل بأنه عميل للـ"كي جي بي"، مع وعد بتسليمه أسماء عملاء السوفيات داخل انجلترا. وبينما كان أليوت ينتظره على عشاء، دبّر مع الـ"كي جي بي"، تهريبه إلى موسكو على متن سفينة تجارية راسية في مرفأ بيروت.

تقاعد رتيب

هكذا، ستكون لكيم نهاية مرحلة وبداية جديدة، كضابط متقاعد ارتضى بما قدمه له السوفيات. حياة عادية مدة 25 عاماً لا تعكس الرفاهية التي كان يعيشها سابقاً، حتى وفاته. وقد استغلها ليكتب سيرة حياته الحافلة في كتاب "حربي الصامتة" عام 1967.

في العام 1941 ارتبط كيم بعلاقة مع إيلين فورس وتزوجا رسمياً عام 1946 بعد طلاقه من زوجته الأولى ليتسي فريدمان. ورزقا خمسة أولاد هم، جوزفين وجون وتومي وميرندا وهاري جورج. وتوفيت عام 1957.

زيجات متعددة

بعد انتقاله إلى بيروت وبعد وفاة زوجته الثانية، تزوّج كيم عام 1959 من إليانور بروير بعد طلاقها من زوجها الذي كان صديقه ومراسلاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، ولما فرّ إلى موسكو زارته لكنها لم تنتقل إلى العيش معه ولم يلتحق به أولاده.

عام 1965 حصل الطلاق بينه وبين إليانور، وفي غياب عائلته، ارتبط بعلاقة غرامية مع ميليندا زوجة صديقه القديم دونالد ماكلين الذي هجرته لتعيش فترة وجيزة مع فيلبي في موسكو ثم عادت إلى زوجها عام 1968.

في عام 1971، تزوّج فيلبي من روفينا بوخوفا، امرأة روسية بولندية تصغره بعشرين سنة، عاشت معه حتى وفاته عام 1988.

قال مايلز كوبلاند رجل الاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط، وكان يعرفه شخصياً بحكم طبيعة عمله، عندما رفعت السرّية عن نشاطات كيم في العام 1967: "إن فيلبي جعل عمل الـ" سي أي إي" والاستخبارات الغربية عديم الجدوى".

وكما كان فيلبي اسماً كبيراً في العمل لمصلحة الـ "كي جي بي"، كان كوبلاند عنواناً كبيراً في الـ"سي أي إي"، في مرحلة الصراع بين الشرق والغرب وفي الحرب الباردة في "لعبة الأمم". فمن هو مايلز كوبلاند؟ الجواب في الحلقة المقبلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات