Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ميسي بالعربي"... رمزية "البشت" بين الثقافة والاستغلال السياسي

ارتداء زي يعبر عن عادات البلد المضيف طريقة محببة للإعلان عن الثقافة المحلية وتصبح لقطاتها أيقونية في الغالب

كانت لحظة تقليد أمير قطر "البشت" لقائد منتخب "التانغو" مفاجئة لمتابعي المونديال وكبرت الانقسامات حولها مثل كرة الثلج (أ.ف.ب)

لعقود طويلة ستبقى صورة ليونيل ميسي وهو يرفع كأس العالم محتفياً بفوز بلاده باللقب في البطولة التي أقيمت على أرض قطر عام 2022 عالقة بالأذهان، مثلها مثل صور الرياضيين الاستثنائيين على شاكلته، وبينهم رونالدو ومارادونا وبيليه، هؤلاء الذين يحظون بشعبية وتعاطف غير عاديين يتخطيان حدود قوانين الكرة.

فميسي صاحب الـ34 سنة رفع الكأس الحلم الذي لم يكن يمثل نجاحاً أرجنتينياً فقط، بل إن أناساً من شتى أقطاب المعمورة بكوا معه وله، وعلى رغم أن المونديال واقعياً انتهى على الأرض لكن تداعياته ستستمر، ولعل "موقعة البشت" التي سيطرت على مشهد الختام ستظل ماثلة أمام الأعين طويلاً، مرة لأن تلك الصورة مع صور أخرى حققت عدد علامات إعجاب تجاوز الخمسين مليوناً خلال 24 ساعة فقط حينما نشرها ميسي عبر حسابه الرسمي على "إنستغرام"، وأخرى لأن بعضهم اعتبرها تصرفاً أنيقاً وذكياً يدل على الكرم والحفاوة، في حين وجدها فريق ثالث طريقة مثالية للدعاية لثقافة البلد المضيف الذي أنفق أكثر من 200 مليار دولار على الحدث، ورآها طرف رابع حرباً وتخريباً وفساداً وإفساداً لبطولة رياضية عالمية من المفترض ألا تصطبغ بأي توجه، بل وذهبوا إلى أن التصرف يهدف إلى تجاهل قميص المنتخب الفائز لحساب إظهار ما سموه "عباءة" تشبه ما يرتديه علاء الدين في قصص التراث العربي.

سخط عارم امتد من الصحف الإنجليزية إلى السويدية والألمانية وغيرها، فبينما لم يعبر ميسي نفسه عن غضبه وتعامل مع الأمر بطريقة طبيعية للغاية وجدنا تأويلات من تلك المنصات تشير إلى أن اللاعب الشهير كان ممتعضاً لهذا التصرف.

صمت يطلق التأويلات

كانت لحظة قيام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بإلباس "البشت" لقائد منتخب "التانغو" مفاجئة ولا شك لمتابعي فقرة التتويج في المونديال الذي فازت فيه الأرجنتين على فرنسا بضربات الترجيح، حيث لم يعلن عنها من قبل أبداً ولم تسرب بشأنها أية ملاحظات، بالتالي فإن الانقسامات حولها لا تزال تكبر مثل كرة الثلج، بخاصة ممن شكلت لهم تلك المفاجأة "صدمة" قوية، فهناك فئة تسخر وتتحدث عن "مؤامرة"، وأخرى ترحب وتمتدح، لكن الحقيقة الثابتة أن "البشت" الأسود الشفاف المطعم بخيوط بلون الذهب في أطرافه هو في الثقافة العربية دليل على التكريم والتشريف والاحتفاء، فقد جرت العادة أن يرتديه الملوك والأمراء، كما أنه يظهر في الاحتفالات الكبرى والمناسبات المهمة، بخلاف أنه ملمح تاريخي عريق يعبر عن الأصالة، ويرجع بعض المؤرخين ظهوره إلى القرن الخامس قبل الميلاد.

تلك المعلومة التي لم تكن وليدة اللحظة أو تبتكر خصوصاً للمونديال، لم يتم الإشارة إليها من قريب أو بعيد من قبل غالبية المهاجمين لا سيما في تعليقاتهم المبدئية، والأمر هنا لا ينطبق فقط على تدوينات الهواة والمتخصصين، بل شملت بعض وسائل الإعلام الكبرى الاحترافية ذات الصفة العالمية، وبينها "الغارديان" و"التلغراف" البريطانيتين و"إكسبريسين" السويدية وموقع "تاغس شاو" الألماني، حيث لم تتوقف الاتهامات التي بدأت من الرغبة في سرقة اللحظة التاريخية من اللاعب وصولاً إلى "محاولة إلهاء العالم عن ما سمى انتهاكات قطر في ملف حقوق العمال والإنسان على السواء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تمر اللحظة ببساطة أبداً، لكن اللافت أيضاً أنه حتى كتابة هذه السطور لم يصدر توضيح في شأنها من الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، بخاصة أن بعض المحللين يرون أن من المستبعد تماماً أن يكون تصرف مثل هذا "عفوياً" أو وليد اللحظة، ففي حين يتعلق الأمر بتنظيم حدث بتلك الضخامة وهذا الحجم من الإنفاق فإن من الطبيعي الاتفاق على جميع التفاصيل مهما كانت صغيرة، وعليه فإن لحظة "البشت" كانت معلومة للمسؤولين على الأرجح، وتم إبلاغها لممثلي الفريقين اللذين تنافسا في النهائي، وهو أمر يرجحه المحلل أحمد عطا الذي قال إنه "على الأقل فإن مسؤولي (الفيفا) كانوا على علم بما حدث، وهذا التصرف لم يكن مباغتاً لهم".

يثني عطا على ذكاء ميسي وعدم تعليقه على الواقعة لأنه "ليس من مصلحته كلاعب أن يشعل جدلاً من هذا النوع، إذ اكتفى بنشر صوره مرتدياً (البشت) عبر منصاته الرسمية، في إشارة لعدم رفضه هذا التصرف".

كذلك يمتدح المحلل الرياضي الطريقة التي تم بها الأمر من قبل الدولة القطرية، مؤكداً أن "هناك لقطات نادرة للغاية في كأس العالم لا تزال خالدة في قلوب وعقول محبي الكرة، وستكون لقطة (البشت) من بينها ولا شك".

قبعات وأردية وأغصان زيتون

في المقابل يعتبر بعض المتابعين أن الواقعة لم تكن أبداً بريئة ولا تهدف إلى تأكيد الرموز المحلية والثقافية للبلد وإنما كان غرضها سياسياً بالدرجة الأولى لغض الطرف عن ملف الانتقاد الذي طاول الدولة المضيفة، لكن المؤكد أن ميسي لم يكن مجبراً وهو يرتدي الزي القطري بل تحرك بأريحية لبعض الوقت ورقص به محيياً زملاءه في الفريق ثم خلعه ليكمل الاحتفال بقميص منتخب بلاده وسط أجواء مبهجة للغاية، وإن تم تجاهلها عمداً أو من دون قصد، بخاصة أن هناك وقائع أخرى شبيهة لم يتم استدعاؤها كذلك من قبل تيار الغاضبين، وبينها ارتداء ميسي نفسه للقلنسوة اليهودية أو "كيباه" أثناء زيارته عام 2013 إلى مدينة بيت لحم مع فريقه آنذاك "برشلونة"، وهي الزيارة التي شملت كذلك لقاء اللاعبين مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فضلاً عن أنشطة رياضية شارك بها أطفال فلسطينيون.

فالرموز المحلية تجتمع دوماً مع الأحداث الرياضية، حتى تمائم البطولات الرياضية الأفريقية جرت العادة أن تعبر في تصميمها تماماً عن تاريخ وموروثات القارة، كما أن مشهد اصطفاف المشاركين في "أولمبياد أثينا" في صيف 2004 وهم يرتدون ميداليات الفوز ويمسكون بأياديهم أغصان الزيتون التي تعتبر من صميم التقاليد اليونانية القديمة لا يزال عالقاً بالأذهان، حيث استخدموا الأغصان كرمز أساس في الترويج لاستضافة أثينا للدورة الرياضية الشهيرة آنذاك، كذلك كانت الأغصان حاضرة بشكل قوي في الفعاليات المهمة حيث تشكل معلماً مهماً لثقافة البلاد، وهي رمز للسلام والهدوء والتكريم أيضاً منذ قرون عدة.

ارتداء زي يعبر عن عادات البلد المضيف طالما كان طريقة محببة للإعلان عن الثقافة المحلية وتصبح لقطاتها أيقونية في الغالب، فلا أحد ينسى مشهد الملك تشارلز وهو يرتدي "الشماغ" و"الدقلة" ويرقص "العرضة النجدية" قبل تسع سنوات في الصالة الرياضية بمجمع الأمير فيصل بن فهد الأوليمبي في زيارته حينها إلى السعودية.

وبنظرة إلى الوراء قليلاً سندرك أن ما حدث مع ميسي يعتبر امتداداً لوقائع كثيرة مشابهة وإن تغيرت التفاصيل، فالنجم البرازيلي بيليه الذي استراح من رحلته المرضية قليلاً ووجه رسالة حب هنأ فيها ميسي بالفوز، ارتدى القبعة المكسيكية التقليدية "صمبريرة" عام 1970 محتفياً بتتويج بلاده بلقب كأس العالم الذي أقيم في المكسيك حينها، وهي قبعة ضخمة الحواف بها رباط يحكم على الذقن وتعبر عن الثقافة المحلية للبلد، ووقتها تناولت وسائل الإعلام الدولية تلك اللقطة باعتبارها تبادلاً رائعاً للثقافات وتقارباً محموداً بين الشعوب، وبعدها بـ16 عاماً ظهر بها مارادونا أيضاً في البلد نفسه الذي استضاف كأس العالم للمرة الثانية في تاريخه، فهل كان العالم أكثر تسامحاً حينها، ونوايا المسؤولين أكثر براءة، أم أن الأمر هذه المرة يحمل بعداً سياسياً لا يمكن تجاهله؟

ثقافة أم استغلال سياسي؟

أستاذ الإعلام الرقمي فادي رمزي يفند هذا الجدل مشيراً إلى أن "السوشيال ميديا" وكذلك وسائل الإعلام التقليدية تبنت أكثر من نظرية، بينها الانتقاد الصارخ الذي سيطر على منصات الإعلام الغربي، مقابل التوجه شبه السائد لدى المدونين ووسائل الإعلام العربية الذي يرى أن ارتداء "البشت" طقس احتفالي، حيث يعتبر في هذا الموقف تكريماً بأشكال ثلاثة، أحدها للدولة الفائزة، والثاني لميسي باعتباره قائد المنتخب، وكذلك احتفال رسمي بختام حدث كبير.

يرى رمزي أن الانتقادات كانت أيضاً في بعضها تحمل شيئاً من المنطق، لافتاً إلى أن الهجوم الكبير الذي تعرضت له الدولة المضيفة التي حرصت على وضع بصمتها الواضحة على سير البطولة منذ البداية كان يجب أن يكون هناك رد فعل إزاءه، لا سيما بعد الاتهامات التي كيلت لها، وبعضها متعلق بوضع العمالة التي أسهمت في البنية الضخمة للبطولة، ومن الطبيعي أن تكون للقطة "البشت" دلالات ومغزى في محاولة لفتح صفحة جديدة وتناسي ما فات، وهي مؤشر بالطبع ورسالة احتفالية بالحدث المهم الذي أقيم للمرة الأولى في المنطقة العربية.

للجماهير رأي آخر

من جهته، يشير الناقد والمحلل الرياضي أحمد عطا إلى أن "الغالبية العظمى من المنتقدين هم جهات إعلامية كانت تترصد البطولة منذ البداية، بالتالي فالموضوعية قد تكون غائبة في تعليقاتهم، وبمتابعة الإعلام اللاتيني والآسيوي على سبيل المثال سنرى أن الأمر كان مرحباً به ومر بشكل طبيعي، والجمهور الحقيقي لكرة القدم كذلك استقبل اللقطة بحفاوة، بل إن بعض الأرجنتينيين ظهروا وهم يتهافتون لشراء (البشت) تيمناً بأن لاعبهم المفضل كان يرتديه في أهم لحظة كروية في تاريخه".

وشدد عطا على أن "محاولات الدول عموماً لاستغلال الأحداث الرياضية على أراضيها بهدف نشر ثقافتها وعاداتها أمر متكرر ويحدث دوماً ويمر في الغالب بلا تأويلات مبالغ فيها، بعكس هذه المرة".

أثيرت على هامش الحدث تساؤلات كثيرة، من بينها: هل من العيب أن تروج الدولة لثقافتها من خلال حدث رياضي يقع على أرضها؟ علماً أن الفترة التي تستضيف فيها الدول مثل تلك البطولات تكون لديها الفرصة لاستعراض ثقافتها من مأكولات وملابس وعادات، وهي أمور حتى كبرى الماركات العالمية تنتبه إليها وتصدر منتجات محدودة تحمل شعارات مميزة تذكّر بتلك البلدان تكريماً لها واهتماماً بالبطولة، مع الاستفادة بالطبع من الدعاية لاسمها كعلامة تجارية.

ومثلما لاحظ المتابعون فقد كان لافتاً أن المشجعين غير العرب يقبلون على ارتداء الزي الخليجي مثل "الغترة" و"العقال" و"الجلباب" طوال أيام البطولة، وظهروا به في مدرجات المباراة النهائية وكانوا سعداء للغاية، ولم يشكك أحد في نواياهم أو يأخذها على محمل آخر أو يعتبر الأمر مشيناً، كما أن ظهور ميسي بـ"البشت" كان متوافقاً تماماً مع النهج الذي سارت به أحداث البطولة، فالملاعب الكبرى التي تقام فيها المباريات لديها أسماء عربية تماماً "الثمامة" و"البيت"، كما أن أيقونة البطولة كانت على شكل الزي العربي، ومن غير الطبيعي إهداء ميسي رمزاً يعبر عن الثقافة الهندية أو الأسكتلندية أو الصينية.

فهل اتخذ الأمر كل تلك الأبعاد انطلاقاً من حساسية مبالغ فيها تجاه البطولة منذ بدايتها عبر دعوات صريحة لمقاطعة الدولة المضيفة شهد عليها كثير من أفراد الجاليات العربية في أوروبا ولا سيما ألمانيا؟ ولماذا استنكرت أوساط غربية فكرة الدعاية الثقافية للبلد العربي المضيف وكأنها أمر مشين يبدو وكأنه إهانة متعمدة للفريق البطل؟ وهنا يؤكد المحلل الرياضي أحمد عطا أن اللقطة حملت تكريماً واضحاً، حيث قام الأمير بنفسه بإلباس ميسي الزي باهظ الثمن وكأنه يقلده به، فالطريقة التي ظهر بها الأمر بدت واضحة الدلالة للغاية، وهي تهدف للترحيب والتقدير ولا شيء آخر".

المزيد من تحقيقات ومطولات