Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف يسير توكاييف بكازاخستان فوق حبال القوى الدولية؟

أعلن حرصه على علاقات متوازنة مع كل الأطراف وعدم الانحياز لمواقف موسكو فسارع الاتحاد الأوروبي إلى إعلان تقديره لإصلاحاته الواسعة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلتقي بنظيره الكازاخستاني قاسم توكاييف في الكرملين الاثنين28  نوفمبر/ تشرين الثاني (أ.ف.ب)

منذ أعلن قاسم توكاييف رئيس كازاخستان عن "غضبته" ضد بعض سياسات روسيا تجاه بلاده، والأنظار تتعلق بما يمكن أن يمضي إليه من سياسات، ثمة من يربط بينها وبين ما اتخذه الرئيس السوفياتي الراحل ميخائيل غورباتشوف من سياسات وتوجهات تحت شعار "البيريسترويكا والغلاسنوست" في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وكان توكاييف أعلن انتقال بلاده إلى ما وصفه بالهيكل السياسي الجديد إلى جانب عدد من الإصلاحات الدستورية، والتغييرات الجذرية لاقتصاد كازاخستان.

وتمهيداً لهذه التغييرات التي وعد بها مواطنيه منذ تجاوزه لما شهدته بلاده من اضطرابات وقلاقل في مطلع يناير (كانون ثاني) من العام الحالي كادت تطيحه من منصبه، أعلن توكاييف عن انتخابات رئاسية مبكرة فاز بها بأغلبية ساحقة تزيد على 80 في المئة، في ظل غياب أية منافسة حقيقية إلى جانب ما أعلنه حول إجراء عدد من التغييرات السياسية والاقتصادية التي تعيد إلى الأذهان ما سبق وفعله غورباتشوف في إطار ما أعلن من سياسات "البيرسترويكا والغلاسنوست".

وعلى رغم أن توكاييف كان يحظى بشعبية واضحة من منطلق نشاطه كوزير خارجية مرموق، وتمتعه بسمعة طيبة في الأوساط السياسية العالمية، حملته إلى منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس فرع المنظمة في جنيف، إلا أنه فقد بعضاً من هذا التأييد الشعبي بسبب ارتباطه الوثيق بالرئيس السابق نور سلطان نزاربايف الذي كان وراء تعيينه رئيساً للوزراء، وما أعقب ذلك من ترشحه لمنصب رئيس كازاخستان، ويذكر المراقبون أن قاسم توكاييف كان عاد وانقلب على نزاربايف، ليفض ارتباطه به ويتخذ عديداً من الإجراءات والقرارات التي تؤكد "طلقته البائنة"، بما في ذلك إلغاء ما سبق ومنحه للرئيس السابق وأسرته من امتيازات مالية ومعنوية، ومنها استعادة العاصمة لاسمها السابق "أستانا" بدلاً عن "نورسلطان" الذي كان أول من بادر باقتراحه.

فك الارتباط مع الماضي

غير أن فك الارتباط مع الماضي، مسألة تظل محفوفة بكثير من المخاطر والصعوبات لأسباب تتباين، بقدر تباين جوهرها وامتداد خيوطها وتشابكها مع تعقيدات الأوضاع على المستويين المحلي والإقليمي والدولي، فما بين التحالفات القبلية الداخلية وارتباطها بعائلة الرئيس السابق، والالتزامات الإقليمية التي لطالما ربطت كازاخستان مع بلدان الفضاء السوفياتي السابق، وما أراده سلفه من تنويع علاقات بلاده وتوطيدها مع روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من الاحتكارات العالمية من جانب آخر، تأرجحت سياسات كازاخستان طيلة سنوات حكم سلفه نزاربايف التي استمرت لما يزيد على ثلاثين عاماً، وعلى رغم ذلك فإن هذا الواقع يظل تحديداً أكثر ما يعتز ويتمسك به توكاييف من إرث نزاربايف الذي نجح في الاحتفاظ من خلاله بمكانة بلاده وأهميتها بالنسبة لكل الأطراف الدولية الفاعلة في العالم، دون التفريط في استقلاليتها أو السماح باستخدام أراضيها ضد أي من هذه الأطراف، وإن اضطر إلى السماح بإقامة عدد من المختبرات البيولوجية الأميركية في أراضي بلاده بكل ما تحمله من أخطار للمنطقة والعالم.

ولعله من الغريب أن تجتمع كل الأطراف الدولية الشرقية منها والغربية على غض الطرف عن انفراد توكاييف بصدارة المشهد السياسي في كازاخستان، في ظل غياب المنافسة الحقيقية باعتراف الاتحاد الأوروبي، الذي على رغم ذلك سارع إلى إعلان تقديره لـ"الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الواسعة التي بدأها الرئيس توكاييف بعد أحداث يناير المأسوية"، وهو موقف لم يبتعد كثيراً مما أعلنته روسيا في برقية التهنئة التي بادر نظيره الروسي فلاديمير بوتين بإرسالها عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مؤكداً على "العلاقات القوية والمتنامية بين البلدين"، وذلك موقف ثمة من يحسبه لروسيا التي "كتمت" غضبها، وغضت الطرف عما سبق وأدلى به توكاييف من تصريحات تقف على طرفي نقيض من سياساتها ومواقفها تجاه العقوبات الأميركية، وما تقوم به من "عملية عسكرية خاصة"، في الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، إلى جانب ما قاله حول رفض بلاده الاعتراف بسيادة روسيا على أي من الأراضي التي ضمتها بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم ذلك، ثمة ما يشير إلى أن توكاييف يبدو قريباً من النجاح في الاحتفاظ لروسيا ببعض ما كانت تحظى به من مكانة ومواقع، لم ينل منها وإلى حد كبير، ما اتسم به خطابه السياسي في الفترة الأخيرة من حدة في التعامل مع ما تردد في بعض الأروقة الروسية من "تطاول" في حق بلاده واستقلاليتها ووحدة أراضيها، وذلك إيماناً من جانبه بنجاحه في تحقيق التوازن بين سياساته تجاه كل من روسيا والولايات المتحدة والصين، بما في ذلك ما كشف عنه من مواقف تجاه ضرورة الالتزام بالعقوبات الأميركية من جانب، والإبقاء على علاقات بلاده الاقتصادية مع كل من روسيا ودوائر الأعمال البريطانية ومجموعات النفوذ الغربية من جانب آخر. وكان توكاييف سارع في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية إلى تأكيد أن بلاده ستنتهج سياسة متعددة التوجهات، بما يعني احتفاظها بعلاقات طيبة مع الأطراف الدولية كافة.

وكانت الساعات الأخيرة الماضية شهدت انفراجة "مفاجأة" في علاقات البلدين، تمثلت في اختيار قاسم توكاييف لموسكو لتكون أولى محطات زياراته الخارجية بعد انتخابه كرئيس لكازاخستان. وقد شهدت هذه الزيارة تطورات إيجابية كثيرة تمثلت في إعلان الزعيمين بوتين وتوكاييف عن طفرة كبرى في التبادل التجاري بين البلدين، والإعلان عن فكرة الوحدة بين روسيا وكازاخستان وأوزبكستان، وهو ما قال توكاييف إنها جديرة بالتفكير فيها. وهي في حال تحققت، ستكون بداية لمرحلة عاصفة على طريق لم شمل كثير من رفاق الأمس وشركاء الماضي، لا سيما أنها ستعني ضمناً، انضمام بيلاروس التي ترتبط مع روسيا، باتفاقيات اتحادية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.

وفي هذا الصدد، يذكر المراقبون ما قامت به موسكو وبلدان معاهدة الأمن الجماعي من أجل "إنقاذ" توكاييف، بما كان اتخذه من قرارات جاء بعضها على النقيض من توجهات ومصالح النخبة المحلية من أساطين رجال الأعمال، ومن استظلوا بهم من ممثلي عائلة الرئيس السابق، وكذلك دوائر الأعمال البريطانية والأجنبية ومن تعاونوا معهم من رجال السياسة، وهو ما كان لا بد أن يسفر عن سخط هذه المجموعات ومخاوفها، وما دفعهم إلى حشد الجهود التي وقفت وراء ما شهدته كازاخستان في يناير (كانون الثاني) الماضي من اضطرابات، استهدفت ضمناً التخلص من توكاييف. ويذكر المراقبون أن توكاييف وعلى رغم ما بدا من قناعاته ورفضه لكثير من سياسات روسيا، وإن أعلن ما هو على النقيض من ذلك، اضطر إلى اللجوء إلى موسكو في يناير الماضي، لإنقاذه وبلاده من أخطار "الثورات الملونة"، وهو ما استجابت له روسيا تحت ستار قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة بلدان معاهدة الأمن الجماعي التي تضم عدداً من بلدان الفضاء السوفياتي السابق.

"ملاسنات"

وما إن جنحت الأوضاع نحو الاستقرار في كازاخستان، حتى عاد توكاييف ليطالب موسكو بسحب هذه القوات، بما أعقب ذلك من "ملاسنات" شهد المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبورغ في يونيو (حزيران) الماضي بعضاً من فصولها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ سرعان ما أعلن توكاييف صراحة عن عدم استعداد بلاده لانتهاك العقوبات الغربية والأميركية، نظراً إلى عجز بلاده عن مواجهة أي ضغوط اقتصادية خارجية، وذلك ما لقي ارتياح الأوساط الغربية، ومن يسمونهم بممثلي السياسات الأنغلو سكسونية التي لطالما استهدفت فصل جمهوريات آسيا الوسطى عن روسيا في المجالين الاقتصادي والسياسي، بكل تبعاته السلبية، وما يشكله من مخاطر زعزعة الاستقرار والاندماج في "حزام عدم الاستقرار" حول روسيا، والسقوط في شرك الصراعات الداخلية والخارجية. وتلك هي أحوال السياسة بكل متاعبها وتضاريسها التي عادت لتفرض ما يتسق مع متغيرات العصر. ومن هذا المنظور عاد هؤلاء المراقبون إلى تناول ما أعلن توكاييف عن عدد من الإصلاحات الدستورية التي أعقبت ما اتخذه من قرارات لإعادة ضبط حركة المجتمع وإنقاذه من سطوة وتسلط الأوليغارشية والنخب السياسية والثقافية التي تبنت التحول بعيداً من تراث الماضي السوفياتي، مواصلاً مسيرته على حد السيف في تعامله مع القوى القومية في الداخل، بعيداً من الإخلال بقناعاته تجاه ضرورة الحد من تطاول بعض ممثلي النزعات القومية، ضد الموروثات الروسية في كازاخستان، وذلك ما تحاول روسيا على الصعيد الرسمي أخذه في اعتبارها، وغض الطرف عند ما يشوبه من شوائب تعكر صفو العلاقات بين الشعبين، وإن سمحت لبعض ممثليها في الأوساط الإعلامية والبرلمانية بالتعبير عن رفضها وإدانته لها، وهو ما لا يغيب عن أذهان توكاييف ورفاقه ممن يستعدون لخوض تجربة جديدة تعيد إلى الأذهان ما سبق وقام به غورباتشوف تحت رعاية مباشرة، وبمباركة الأوساط الغربية التي استطاعت في نهاية المطاف تحقيق ما كانت تنشده من أهداف، وذلك ما يبدو أن الجانبين الروسي والكازاخستاني في سبيلهما إلى تداركه على ضوء ما خلص إليه الزعيمان بوتين وتوكاييف خلال مباحثاتهما الأخيرة في موسكو، من "أفكار"، استناداً إلى تاريخ مجيد كانت العلاقات الثنائية بين البلدين فيه الأكثر نشاطاً وحيوية في فضاء التكامل بين بلدان الفضاء السوفياتي السابق، كما أن هناك من المؤشرات ما يشير إلى أن الفترة القريبة المقبلة تظل حبلى بتطورات مرتقبة، يمكن أن تكشف عن بعض ملامح ما قد يتخذه توكاييف من إجراءات لاحقة اعتباراً من العام المقبل، ومنها الانتخابات البرلمانية المبكرة وما يتبعها من تشكيل الحكومة الجديدة، لكن الأكثر أهمية اليوم قد يكون فيما يمكن أن تسفر عنه الزيارة المرتقبة لتوكاييف إلى باريس التي سيلتقي خلالها نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما يمكن أن يخلصا إليه من اتفاق حول سبل وقف "الحرب" الروسية - الأوكرانية والخروج من الأزمة الراهنة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير