تعزز الدولار الأميركي بشكل كبير على مدار العام، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في محاولة لكبح جماح التضخم المرتفع وارتفع مؤشر "دي أكس واي" DXY الذي يقيس العملة الأميركية مقابل سلة من العملات الأخرى بأكثر من 17 في المئة هذا العام، لكن الدولار تراجع بعض الشيء منذ أكتوبر (تشرين الأول)، وتراجع مرة أخرى هذا الشهر، فماذا تعني فورة الدولار لتجار الخليج؟ وماذا يعني تراجع الدولار عن قوته للمصدرين والمستوردين؟ خصوصاً أن التجارة العالمية لا تزال مقومة بالدولار الأميركي.
التفسير الأكثر شيوعاً هو فروق أسعار الفائدة، إذ تجذب المعدلات المرتفعة في الولايات المتحدة الأموال من الخارج مع عوائدها المرتفعة، ولكن إذا أبطأ الاحتياطي الفيدرالي وتيرة رفع أسعار الفائدة أو أوقفها موقتاً، فإن ذلك يزيل فجأة الرياح الخلفية الرئيسة للدولار، ويبدو أن هذا هو ما تستشفه الأسواق.
وكانت دول مجلس التعاون الخليجي قد استفادت من الارتفاع الحاد في أسعار النفط وتحويل عجز الميزانية في بعض الدول الخليجية إلى فوائض، كما تعزز إنتاج للنفط وأدى إلى زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي ومع ذلك، فإن التوقعات لعام 2023 أكثر صعوبة بالنظر إلى قوة الدولار الأميركي، فقد تؤدي الزيادات الصارمة في أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى الأضرار بالقدرة التنافسية الخارجية لدول الخليج لأن عملاتها مرتبطة بالدولار الأميركي.
التجارة الخليجية
وعن أثر ارتفاع الدولار الأميركي على التجارة الخليجية وماذا يعني تراجع عملات رئيسة في العالم أمام الدولار بالنسبة إلى المصدرين والمستوردين؟ استطلعت "اندبندنت عربية" آراء عدد من الاقتصاديين والتجار.
وقال عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار" وضاح الطه إن "قوة الدولار وارتفاعه ناتجة عن ارتفاع سعر الفائدة الذي أقره الفيدرالي الأميركي بسبب ارتفاع التضخم ومحاولة لجم هذا الارتفاع والعودة به لمستوى اثنين في المئة، وهو المستوى المستهدف". وأقر الطه بصعوبة هذا الموضوع قائلاً إن "العلاج كان أصعب من خلال رفع معدل الفائدة لأربع مرات متتالية لمستوى 0.75 نقطة أساس أو ثلاثة أرباع النقطة المئوية، الأمر الذي أدى إلى تراجع في النمو مع العلم أن سوق العمل بقيت جيدة إلى حد ما، إذ تعتبر سوقاً جيدة ونشطة". واستدرك، "لكن بشكل عام، هناك تراجع في أداء النمو الاقتصادي للبلاد، وكان هذا الأمر واضحاً من خلال تقارير صندوق النقد الدولي عبر مراجعته للنمو العالمي لعامي 2022 و2023". ورأى الطه أن قوة الدولار مفيدة للواردات أمام عملات أخرى، فعلى سبيل المثال أي استيراد من دول الاتحاد الأوروبي سيكون أرخص من ذي قبل بالنسبة إلى التجار بسبب سعر الصرف لليورو وضعف العملات الأوروبية الأخرى مقابل الدولار القوي والعملات الأخرى المتربطة بالدولار مثل الدرهم الإماراتي والريال السعودي والعملات الخليجية الأخرى باستثناء الكويت (سلة من العملات). وتابع أن "من المفترض أن السلع المستوردة من دول عملاتها تهبط أمام الدولار الأميركي وعملات مرتبطة به أن تنعكس على أسعار البيع للمستهلك، أي بانخفاضها، وهو ما لم يحدث"، مضيفاً أن "مع عدم التحقق من ذلك وإذا ما طاولت فترة الانتظار يفترض أن يكون هناك تدخل من وزارات الاقتصاد في الدول الخليجية لضمان رؤية تراجع في هذه الأسعار".
دراسة أوسع
وتابع عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار" أن "بعض الوكلاء في الإمارات على سبيل المثال وكلاء السيارات يبررون الأسعار المرتفعة بارتباطهم بعقود طويلة وبأسعار صرف معينة، وهذا الموضوع يحتاج إلى مراجعة وتأكيد"، مشدداً على "ضرورة أن يكون هناك انخفاض في السلع مقابل ارتفاع سعر الدرهم الإماراتي مقابل عملات الدول التي يتم الاستيراد منها"، منوهاً بأن ذلك التراجع في عملات رئيسة في العالم يمثل أفضلية، خصوصاً مع عدم ظهور تداعيات ارتفاع سعر الفائدة بشكل صحيح وصريح على بعض السلع. وقال "إن وزارة الاقتصاد في الإمارات تراجع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية المتعلقة بالاستهلاك اليومي (الغذائية)، وقامت بتثبيت مجموعة من الأسعار". ورأى أن الموضوع بشكل عام يحتاج لدراسة أوسع للاستفادة من انخفاض العملات الأخرى في العالم مقابل قوة العملات الخليجية والدولار الأميركي، مشيراً إلى تأثر الصادرات سلباً بفعل قوة الدولار، إذ يكون تصدير السلع مكلفاً على التجار باستثناء (النفط)، وهو أمر مهم، مؤكداً أن "من المفترض أن ينعكس ارتفاع الدولار الأميركي على أسعار النفط ويخفضها، وهذا لم يحدث، إذ ارتفعت الأسعار مع محدودية المعروض منه، وزيادة الطلب عند مستويات أكثر من جيدة منذ بداية العام".
أرباح الدول المصدرة للنفط
وحول تداول العملات، أشار الطه إلى أن "من المفترض أن تكون هناك قراءة مستقبلية في تداول العملات وشرائها حتى تكون الاستفادة أكبر"، قائلاً إنه "بالإمكان أن يكون التداول على صورتين طويلة أو قصيرة، أيضاً هناك مضاربات، وهذا الموضوع فني للغاية يعتمد على المعرفة والمقدرة على المتابعة على امتداد 24 ساعة في اليوم لأن سوق العملات مفتوحة وتداولاتها تقدر بالتريليونات في اليوم الواحد".
وبسؤاله حول أن تحفز قوة الدولار دول مجلس التعاون الخليجي على إصدار عملة موحدة، قال الطه، "يجب أن تتوج جهود دول مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه حتى الآن بولادة عملة خليجية موحدة"، معتقداً أنه لا توجد مشكلة في تحقيق ذلك من الناحية الاقتصادية، مستدركاً، "لكن هناك حاجة إلى لاتفاق على أساسات هذا الموضوع وإدارته، وأن تقرر دول الخليج أين سيكون مقر المصرف المركزي الخليجي الذي سيصدر العملة الخليجية الموحدة، وهو المحور الأساس الذي يجب أن يتم التوصل لاتفاق في شأنه لإصدار عملة خليجية موحدة".
تذبذب العملات
من جانبه، قال المدير العام ورئيس مجلس إدارة "عيسى الغرير للاستثمار"، عيسى الغرير، "فورة الدولار تعني أن كلفة الاستيراد ستكون أرخص، ويستفيد التجار في المنطقة من تراجع عملات رئيسة في العالم مقابل الدولار القوي"، مشيراً إلى أن "التذبذب الحاصل في عملات العالم يصعب على التاجر إمكانية رفع أو خفض سعر المنتج"، مضيفاً، "جهاز حماية المستهلك في الإمارات لا يتيح للتاجر رفع سعر سلعة معينة (كانت منخفضة) لمصلحة الزبائن".
ورداً على سؤال يتعلق بالمصلحة والفائدة من عدم رفع الأسعار للحد من أي ارتفاع في التضخم، قال الغرير إن "السوق مفتوحة في الإمارات، ولو كان هناك احتكار لكان حديثنا مختلفاً، لكننا سوق مفتوحة، وكل المنتجات باختلاف أنواعها متاحة في السوق واستيرادها ليس حكراً على تاجر واحد فهي متاحة لجميع التجار، بالتالي نأمل أن تتاح للتاجر إمكانية رفع كلفة السلعة التي تعتمد على عوامل كثيرة مرتبطة بما يحدث في العالم اليوم".
ضعف اليورو
من جهته، أشار المدير التنفيذي لـ"الأنصاري للصرافة"، محمد علي الأنصاري إلى أنه بحكم ارتباط الدرهم الإماراتي والعملات الخليجية الأخرى بشكل عام بالدولار الأميركي باستثناء الكويت (سلة عملات)، فإن قوة الدولار لها انعكاسات إيجابية، وأخرى سلبية، موضحاً أن "البضائع الأوروبية تصبح كلفتها أقل باعتبار أن العملات الأوروبية تراجعت مقابل الدولار، لكننا لم نر هذه الميزة، فكلفة الإنتاج في العالم ارتفعت مع تفشي الجائحة العالمية قبل ثلاث سنوات"، مضيفاً، "على سبيل المثال، السيارات الأوروبية لم تتراجع أسعارها، وربما ارتفعت بسبب قيود الإنتاج الصناعي ومشكلات سلاسل الإمداد في العالم، ولذلك لم نشعر بأن قوة الدولار جعلت البضائع المستوردة من بعض دول العالم التي تراجعت عملاتها أمام الدولار أرخص". وأشار الأنصاري إلى أن "قوة الدولار كانت لصالح الدول الخليجية التي تبيع نفطها بالدولار الأميركي، مما وفر موارد قوية للحكومات الخليجية المنتجة للنفط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن تراجع قيمة الدولار عن ذروته منذ بداية العام وتداعيات هذا التراجع قال الأنصاري، "في حال استمر تراجع الدولار سيختلف الأمر". واستدرك، "المسألة مرتبطة بالعرض والطلب إلى جانب تأثير عوامل أخرى بما فيها السياسية"، ورداً على سؤال حول نمو الطلب على شراء الدولار من قبل التجار أو السياح، أكد أن "الطلب على الدولار في مصرفنا لا يزال طبيعياً واعتيادياً".
وحول توقعاته أن يدخل الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود، قال الأنصاري، "من المفترض أن نرى في الربع الأول من عام 2023 تراجعاً تدريجاً في سعر الفائدة الأميركية من أجل تنشيط الدورة الاقتصادية، والحركة التجارية مجدداً التي ستنعكس إيجاباً على اقتصادات العالم وخصوصاً البلدان التي ترتبط عملاتها بالدولار الأميركي بما فيها البلدان الخليجية"، مضيفاً، "لا يمكن للركود الحالي في العالم أن يستمر".
العملات الخليجية قوية
في المقابل، رأى المحلل الاقتصادي فاروق قاسم أن "قوة الدولار لم تضر بتجار المنطقة، وخصوصاً المنطقة الخليجية التي ترتبط عملاتها بالدولار الأميركي باستثناء الكويت (ترتبط بسلة عملات)"، مفسراً ذلك بأن رفع الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة يدفع البنوك المركزية في المنطقة لرفع الفائدة للحفاظ على قوة عملاتها المحلية بالتالي لم تتأثر تجارة المنطقة بقوة الدولار، منوهاً إلى استفادة تجار المنطقة التي ترتبط عملات بلدانهم بالدولار من تراجع عملات أخرى رئيسة في العالم مثل اليورو والجنيه الاسترليني مقابل الدولار الأميركي والتي تجعل كلفة الاستيراد أرخص بالنسبة لهم. وتابع فاروق أن "قوة الدولار أثرت على تجار مناطق أخرى في العالم بسبب تراجع عملات أخرى رئيسة في العالم بمواجهة الدولار"، مشيراً إلى أن "التنبؤات بزحف الركود للاقتصاد العالمي في حال تحقق سيكون له أثر على كل قطاعات العالم بما فيها التجارة وسلاسل الإمداد، مما قد يؤثر على التجار في العالم".
تراجع العملات الأفريقية
من جهته، اعتبر رئيس نادي الأعمال الأفريقي في لندن ليو أديني، أن "دول الخليج حافظت على قوة عملاتها مع رفع البنوك المركزية في الخليج سعر الفائدة بالتوازي مع رفع الفيدرالي الأميركي الفائدة"، قائلاً إن "قوة العملات المحلية الخليجية خدمت التجار في تجارتهم مع أفريقيا، وخصوصاً مع تراجع العملات الأفريقية مقابل الدولار الأميركي". أضاف، "ليست أفريقيا وحدها هي التي تشعر بالألم، فقد انخفض الجنيه البريطاني إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ عام 1985 والين الياباني في أضعف مستوياته منذ عام 1998".
في غضون ذلك، "انخفض اليورو إلى ما دون التكافؤ مع الدولار للمرة الأولى منذ عام 2002 في أواخر أغسطس (آب) الماضي في الوقت الذي يؤثر انخفاض قيمة اليورو بشكل مباشر على 14 دولة أفريقية تستخدم الفرنك المرتبط بالعملة الأوروبية الموحدة بسعر ثابت".
ووفقاً لـ"أفريكان بيزنيس"، كانت العملة الأفريقية الأكثر تضرراً في القارة هي السيدي الغاني (عملة غانا الرسمية) الذي فقد 40 في المئة من قيمته مقابل الدولار حتى الآن في عام 2022، وبحسب بيانات الأسعار الإرشادية التي قدمتها "رفينيتيف"، يعكس مأزق غانا كيف تضررت ثقة المستثمرين جراء الأزمة المالية في البلاد التي جعلت أكرا تسعى إلى حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي في الوقت الذي خفضت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" التقييم الافتراضي لمصدر العملات الأجنبية طويل الأجل لغانا إلى CCC في أغسطس الماضي، ما يشير إلى أن التخلف عن السداد هو احتمال حقيقي.
الراند الجنوب أفريقي هو عملة رئيسة أخرى تتعرض لضغوط وسط تذبذب ثقة المستثمرين، إذ ظل الراند في اتجاه هبوطي مقابل الدولار الأميركي لسنوات عدة، وانخفضت قيمته بنسبة تسعة في المئة حتى الآن هذا العام، وربما كانت هناك استثناءات في هبوط العملات الأفريقية تمثلت في نيجيريا كمنتجة ومصدرة رئيسة للنفط استفادت من ارتفاعات أسعار النفط، إذ حافظت النيرة النيجيرية على قيمتها، وكذلك الكواشا الزامبي الذي حقق عاماً جيداً مقابل الدولار، إذ كسب ستة في المئة حتى الآن عام 2022.
التضخم
وبحسب صندوق النقد الدولي، بلغ الدولار أعلى مستوى له منذ عام 2000، بارتفاع قدره 22 في المئة مقابل الين، و13 في المئة مقابل اليورو، وستة في المئة مقابل عملات الأسواق الصاعدة منذ بداية 2022، وتنطوي هذه الزيادة الحادة في قوة الدولار خلال أشهر قليلة على انعكاسات اقتصادية كلية كبيرة بالنسبة لكل البلدان تقريباً نظراً إلى هيمنة الدولار في مجالي التجارة الدولية والتمويل. ويعد الارتفاع السريع في أسعار الفائدة الدولارية وتحقيق الولايات المتحدة معدلات تبادل تجاري أفضل مقياس لأسعار صادرات أي بلد مقابل وارداته بسبب أزمة الطاقة.
وتراجع نصيب الولايات المتحدة من الصادرات السلعية العالمية من 12 في المئة إلى ثمانية في المئة منذ عام 2000، فيما ظل نصيب الدولار من الصادرات العالمية ثابتاً حول نسبة 40 في المئة. وبالنسبة لكثير من البلدان التي تكافح لتخفيض التضخم، أدى تراجع عملاتها مقابل الدولار إلى زيادة ما تواجهه من صعوبة في تحقيق هذا الهدف، وتشير التقديرات إلى أن كل ارتفاع في سعر الدولار بنسبة 10 في المئة ينتقل تأثيره إلى التضخم على هيئة ارتفاع بنسبة واحد في المئة في المتوسط، وتكون هذه الضغوط بالغة الحدة في الأسواق الصاعدة لاعتمادها الأكبر على الواردات ونصيبها الأكبر من الواردات التي تسدد فواتيرها بالدولار مقارنة بالوضع في الاقتصادات المتقدمة.