في "تويتر"، لم يعد إيلون ماسك يغرد فقط بصفته أغنى رجل في العالم، أو التقنيّ المبتكر مالك الشركتين الرائدتين "تيسلا" و"سبايس إكس"، فمنذ استحواذه على "تويتر"، أصبح رجل الأعمال الأميركي مسؤولاً عن استقبال الشكاوى في المنصة الزرقاء، كي تكون قراراته لإصلاحها من الناس وإليهم.
وشهدت "تويتر" تغييرات عدة بعد أسابيع على إتمام ماسك صفقة الـ 44 مليار دولار، كان أبرزها رفع الحظر عن حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الأسبوع الماضي. وأنهى ماسك الحظر الذي امتد نحو عامين وأثار حفيظة المحافظين بعد أن نشر استطلاعاً لمتابعيه يسألهم عما إذا كانوا يفضّلون رفع الحظر عن حساب ترمب، فكانت النتيجة مؤيدة لعودة الرئيس الجمهوري الذي يتطلع للترشح من جديد للرئاسة عام 2024.
وبعد انتهاء التصويت، كتب ماسك "صوت الناس هو صوت الله"، ليعيد "تويتر" مباشرة حساب ترمب، الذي انتعش بعودة متابعيه البالغ عددهم 87 مليون، إلا أن الرئيس السابق رفض التغريد، مفضّلاً البقاء خارج القفص "التويتري"، والترويج لمنصته الاجتماعية "تروث سوشال".
لكن عودة المحظورين لم تقتصر على ترمب، إذ أعاد ماسك كانييه ويست، مغني الراب الأميركي، المتهم بانتهاك سياسات "تويتر" المتعلقة بخطاب الكراهية بعد تصريحات اعتبرت معادية للسامية، ودفعت عدداً من العلامات التجارية الشهيرة على رأسها "أديداس" إلى إنهاء تعاقدها معه، وسحب المنتجات المتعلقة به، وتسببت ضربة "أديداس" وحدها بخسارة ويست نحو 1.5 مليار دولار.
وبدأت قصة ويست مع الحظر التي لم يدم طويلاً في "إنستغرام" حيث اتهم مغني الراب ديدي بأنه "يخضع لسيطرة اليهود"، وهو ما اعتبرته المنصة خطاب كراهية، قبل أن يرد ويست على تعليق حسابه بالتغريد في "تويتر" قائلاً إنه سيذهب "إلى مستوى الموت الثالث على اليهود"، في إشارةٍ إلى حالة استعداد دفاعي خاصة بالقوات المسلحة الأميركية، ليجد نفسه محظوراً على المنصتين.
لكن ماسك الذي فصل مراقبي المحتوى في "تويتر" في أولى قراراته بعد الاستحواذ، قرر رفع الحظر عن ويست، في إشارة إلى معارضته لسياسات التطبيق السابقة في فلترة المحتوى، وأعاد عدداً من الحسابات منها حساب النائبة اليمينية مارغوري تايلور غرين، التي حُظرت في يناير (كانون الثاني) لانتهاكها سياسة "تويتر" لمكافحة المعلومات المضللة بشأن وباء كورونا.
وفيما أعاد ماسك حسابات ترمب وويست وغرين، إلا أنه رفض رفع الحظر عن أليكس جونز، وهو مقدم برامج يميني من مؤيدي نظريات المؤامرة، أوقف "تويتر" حسابه بعد ترويجه لسنوات بأن حادثة إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك التي راح ضحيتها 20 طفلاً وستة موظفين عام 2012 لم تحدث، وأن العائلات المفجوعة التي أطلت عبر الشاشات وُظفت كجزء من مؤامرة لسلب الأميركيين من حقهم الدستوري في حيازة السلاح.
وبرر ماسك رفضه لعودة جونز قائلاً، "لقد مات طفلي البكر بين ذراعي... شعرت بنبض قلبه الأخير. ليس لدي تعاطف مع أي أحد يستغل موت الأطفال لمصلحته، أو من أجل السياسة والشهرة". ونادراً ما يتحدث ماسك عن وفاة طفله الأول بمتلازمة موت الرضيع الفجائي في عام 2002، إلا أنه أشار أخيراً إلى فقد طفله للدفاع عن قراره بإبقاء جونز خارج "تويتر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من السياسة إلى اللاسياسة
وبين إعادة ترمب والإبقاء على حظر أليكس جونز، تُطرح تساؤلات حول مستقبل وتوجه وكيفية تنفيذ سياسات الإشراف على المحتوى في "تويتر"، التي قال ماسك في وقت سابق إنه لم يجر أي تغيير عليها، في حين توحي تحركاته الأخيرة بخلاف ذلك.
ويعكس القراران المختلفان الصعوبات التي تواجه ماسك للإيفاء بتعهده إصلاح سياسات الإشراف على المحتوى، التي اعتبرها متشددة ومقيّدة لحرية التعبير، وهي وجهة نظر لاقت صدى واسعاً عند المحافظين الذين يتذمرون من تضييق المنصة وكتمها لأصواتهم، على حد رأيهم.
وفي وقت سابق، قال ماسك إنه لن يتخذ قرارات مهمة بشأن المحتوى أو استعادة الحسابات المحظورة قبل إنشاء "مجلس إدارة المحتوى" مكون من شخصيات متنوعة الأطياف، لكن ما زاد الغموض حول معايير في رفع الحظر أو استمراره هو أن "تويتر" بدأ يعيد حسابات محظورة قبل أن يعلن عما إذا كان هذا المجلس قد تشكّل أم لا.
عدم وجود سياسة واضحة تجسد في قرارات "تويتر" الأخيرة، فبعدما أعيد ترمب إلى مملكته الزرقاء بعد تصويت الغالبية، عاد كانييه ويست فجأة وبلا سابق نقاش. وفي تناقض أكبر مع هذين القرارين، قرر ماسك إبقاء الحظر على مروّج نظريات المؤامرة جونز، مدلياً برأي شخصي يدعم قراره، من دون الإحالة إلى اشتراطات المنصة.
تنامي خطاب الكراهية
وفيما دعم المحافظون صفقة ماسك لشراء "تويتر"، التي روّج لها بعد إتمامها قائلاً إن "تم تحرير الطائر"، حذّر خصومهم من الليبراليين من أن نهج ماسك سوف يحفّز الخطاب المتطرف، ويجعل الأقليات العرقية والدينية أكثر عرضة لخطاب الكراهية.
ورصدت وسائل إعلام ليبرالية زيادة في استخدام كلمات مهينة للسود على "تويتر"، وزيادة في التغريدات المعادية للسامية منذ الاستحواذ على "تويتر".
وفيما تأخذ المواقف المؤيدة والرافضة لنهج ماسك في "تحرير الطائر" منحىً حزبياً في الولايات المتحدة، بالنظر إلى اصطفاف الجمهوريين مع التغييرات التي يجريها ماسك ورفض الديمقراطيين لها، فإن استراتيجية ماسك تواجه عقبات من نوع آخر في دول أخرى مثل ألمانيا، حيث يواجه "تويتر" عواقب قانونية في حال تأخر عن الاستجابة لبلاغات خطاب الكراهية، بموجب قانون ألماني يجبر الشبكات الاجتماعية على دفع غرامات تصل لأكثر من 50 مليون دولار إذا أخفقت في الامتثال لبلاغات الكراهية والمحتوى المسيء.
وتستعد شركة قانونية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات في ألمانيا تدعى JunIT Rechtsanwälte، لجلسة استماع يوم الخميس 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، لانتزاع أمر قضائي ضد "تويتر"، على خلفية عدم الامتثال للقانون الألماني، والفشل في الاستجابة لبلاغات خطاب الكراهية والمحتوى المخالف.
ونقلت "رويترز" الأسبوع الماضي عن متحدث باسم الحكومة الألمانية قوله إنها تراقب تطورات تويتر "بقلق متزايد".
ويرى مراقبون أن "تويتر" بات أكثر عرضة لهذه المخالفات القانونية بعد عاصفة التسريح التي شهدتها الشركة، ناهيك عن استقالات قيادات مهمة كرئيس قسم الثقة والسلامة، الأمر الذي يزيد الغموض حول قدرة التطبيق على متابعة المحتوى، والتقيد بالقوانين المحلية لكل بلد.
ويذكر موقع "تيك كرنش" أن مكاتب "تويتر" الدولية تم تقليصها، ففي إسبانيا دفع تسريح الشركة لعشرات الموظفين وزير العمل إلى تحذير الشركة ودعوتها إلى الامتثال للقوانين المحلية، بعد شكاوى النقابات. كما سرّحت "تويتر" عدداً من موظفي مكتبها في ألمانيا، وذكرت نقابة محلية بأن عدداً من المهندسين تلقوا بريداً إلكترونيا يخيّرهم بين الالتزام أو الاستقالة.
وأشار الموقع المتخصص في الأخبار التقنية، إلى أنه لم يتبق في "تويتر" عدا مئات الموظفين من أصل 7500 موظف قبل استحواذ المالك الجديد.
أسلوب ماسك القيادي
من جانب آخر، تسبب أسلوب ماسك الإداري في تنفير الشركات المعلنة التي باتت أكثر حذراً في التعامل مع "تويتر" بعد الاستحواذ، وهو ما دفع ماسك إلى مخاطبة المعلنين مباشرة عبر المنصة وطمأنتهم، في محاولة للحفاظ على تدفق الإعلانات التي تشكل 90 في المئة من إيرادات "تويتر".
ويحذر البعض من أن تجربة ماسك في بناء شركات عملاقة ورائدة مثل "تيسلا" و "سبايس إكس" ليست كافية للنجاح في قيادة "تويتر"، التي لا تقدم منتجاً ثابتاً كالسيارات أو الصواريخ، وإنما منتجاً حيوياً من الناس وإليهم.
ويطالب منتقدو ماسك بأن تأخذ "تويتر" بوصفها شبكة اجتماعية المخاوف بشأن سمعة العلامة التجارية في الاعتبار، فبخلاف الشركات التقليدية، فإن التركيز لزيادة الأرباح لا يجب أن يكون منصباً على تحسين المنتج، بل على ماسك تغيير أسلوبه الإداري، والإنصات إلى شرائح متنوعة، والتعرف إلى حاجات المستخدمين والمعلنين.
ويرى خبراء بأن نهج ماسك في اتخاذ القرارات بسرعة وتلقائية قد يكون مفيداً لشركات مثل "تيسلا" إلا أن هذا النهج المتسرع الذي يقفز على الخطوات التقليدية لإدخال تغييرات جذرية في المنصة قد يهدد أمن وسلامة "تويتر" التي تتعامل مع بيانات الملايين من الأشخاص. وأقرّ ماسك نفسه بأن "الكثير من الأشياء الغبية" سيشهدها "تويتر" في الأشهر المقبلة بينما يمر بعملية تحديث شاملة.
المخاوف الأمنية هاجس لـ"تويتر" حتى قبل استحواذ ماسك، إذ حذر رئيس الأمن السابق في الشركة، بيتر زاتكو، من ضعف معايير أمن المعلومات، وخشي أن يتعرض الموقع لاختراق من مستوى Equifax، في إشارة إلى هجوم عام 2017 على شركة تقارير ائتمانية كشف عن بيانات 147 مليون شخص في الولايات المتحدة.
عوائق أمام ماسك
ويواجه ماسك صعوبة في الوفاء بوعده بتوثيق حسابات كل المستخدمين، فبعد إطلاق اشتراك "تويتر بلو" الذي يسمح بتوثيق الحساب بمقابل مالي، واجهت الشركة فوضى في المنصة بعد انتحال حسابات أسماء شخصيات شهيرة وشركات كبرى، كان أبرزها شركة "إيلي ليلي" للأدوية التي خسر سهمها نحو 5 في المئة من قيمته، بعد انتحال حساب موثّق لهوية الشركة، وإعلانه بيع الشركة للأنسولين مجاناً.
ودفعت حوادث الانتحال "تويتر" إلى تعليق خاصية التوثيق المدفوع لحين إيجاد طريقة لمنع الانتحال، وأشار ماسك إلى احتمال منح حسابات الأفراد والشركات علامات بلونين مختلفين.
لكن في الوقت نفسه، يدعو آخرون إلى التريث قبل الحكم على خطط ماسك لـ"تويتر" الذي لم يمض أسابيع في قيادة الشركة. وقال لوك لينتز، رئيس تنفيذي لشركة تسويق أميركية، إن ماسك وعلى رغم أنه لم يدر منصة اجتماعية من قبل، فإنه أدار ثلاث شركات ناجحة جداً في ثلاث صناعات مختلفة.
أما الملياردير المثير للجدل فرد بنفسه على المشككين في قدرته على تغيير "تويتر" للأفضل، بالإشارة إلى الشكوك التي واجهها عندما سعى لصنع الصواريخ والسيارات الكهربائية فهاجمه الناس وظنوا أفكاره غير ممكنة أو مجدية. وقال ماسك إن وسائل الإعلام التي قالت إن "رجل الإنترنت سوف يفشل في (قطاعي) الصواريخ والسيارات"، تقول الآن، "رجل الصواريخ والسيارات، سيفشل في الإنترنت" في إشارة إلى خططه لإصلاح "تويتر".
تطبيق خارق
ويبدو أن خطة ماسك لإصلاح "تويتر" بدأت تتشكل ملامحها، إذ ذكر موقع "إنسايدر" بأن ماسك ينظر في فرص تحويل "تويتر" إلى تطبيق خارق يقدم خدمات لا تقتصر على التدوين القصير، بل تشمل نظاماً للمدفوعات، على غرار تطبيق "وي تشات" الصيني، إذ يرى ماسك بأنه كلما زادت فائدة التطبيق ورفاهيته، زاد استخدامه. وقال ماسك الشهر الماضي بأن شراء "تويتر"، سيسرع خططه لإنشاء تطبيق "إكس" أو "تطبيق كل شيء" مشابه لـ "وي تشات" مع ميزات مثل المراسلة والاتصال المرئي وألعاب الفيديو ومشاركة الصور وخدمات التوصيل والخدمات المصرفية.
ويأمل ماسك في تحويل خططه الطموحة إلى واقع حتى يتجاوز "تويتر" معضلته المالية، إذ حذر في وقت سابق من إن الشركة قد تنهار، قائلاً إنه كم من دون زيادة في إيرادات الاشتراك قد لا تنجو الشركة من الركود المقبل. وعانت "تويتر" انخفاضاً حاداً في عائدات الإعلانات في أعقاب عملية الاستحواذ وهو ما يشكل تهديداً للمنصة المهددة بالإفلاس التي تمثل الإعلانات 90 في المئة من عائداتها السنوية البالغة 5.1 مليار دولار.