Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عشاق كرة القدم... عقلاء أم مجانين؟

قد يبدو تشجيعها والانتماء لفرقها وعشق أبطالها مجرد هواية واهتمام رياضي فحسب 

تتميز العواطف الصادرة عن الجماهير بأنها مضخمة جداً ومبسطة جداً في آن واحد (موقع آن سبلاش)

عند سور مستشفى للمجانين، في ميدان ببوينس آيرس، كان بعض الفتيان الشقر يتقاذفون كرة بأقدامهم، سأل طفل والده: من هؤلاء؟ فأجابه أبوه: أنهم مجانين... إنجليز مجانين. يروي الصحافي خوان خوسيه دي سويثا رييللي هذه الحادثة من طفولته، ففي الأزمنة الأولى، كانت كرة القدم تبدو لعبة مجانين في منطقة ريو دي لا بلاتا (الأرجنتين والأورغواي)، كما اعتبرت في فترات لاحقة شعوذة يلجأ إليها الجموع التي وصفت بالغوغاء المصابة بمس كرة القدم.

 

الانتماء المجرد
 
تحدثت إلينا إحدى السيدات عن زوجها الذي يعمل مقاولاً ستة أيام في الأسبوع ومشجعاً مخلصاً لكرة القدم في اليوم السابع، إذ يواظب في اليوم المخصص لنقل مباريات الدوري المحلي على متابعة نتائج مبارياته وحضور مباراة الديربي التي تقام في مدينته، ويقف على باب الملعب في كل مباراة أسبوعية ويشتري عدداً كبيراً من تذاكر الدخول ويوزعها على الناس في الشوارع وحتى على الداخلين إلى الملعب تشجيعاً منه للناس على حضور المباريات ومتابعة هذه الرياضة المحببة لديه.
وتروي الزوجة أنه كان وبغض النظر عن المتنافسين يشجع دائماً الفريق الأضعف رغبة منه في أن يصبح أقوى لتشتد حدة المنافسة وجمالية هذه اللعبة.
هذا نوع آخر من المشجعين الذين يشجعون اللعب الجميل بعيداً من الانحياز لفريق معين تبعاً لهويته المناطقية أو لما وجد عليه آباؤه وأهل منطقته، فولاؤه هو لهوايته المفضلة وفكرة كرة القدم المجردة من أي شخوص أو أدوات أو تفاصيل مادية.
وفي هذا السياق قال يوماً الكاتب والصحافي البريطاني برايان غلانفيل، "قد يحب الناس الفريق الفائز، لكنهم أحياناً يقعون في هوى الفريق المهزوم".

 

عزاء لجميع المآسي
 
انتشر حب وتمجيد الأبطال على اختلاف مجالاتهم على مر العصور، وأخذ هذا الحب يسبغ عليهم ألقاباً عدة وصفات خارقة، فالناس يقعون في حب الأبطال دائماً، وفي حين يبدو تشجيع كرة القدم والانتماء لفرقها وعشق أبطالها مجرد هواية واهتمام رياضي فحسب، إلا أنها في العمق كما يقول الرئيس الأسبق للفيفا جواو هافيلانج" هي "عزاء لجميع المآسي"، وكأنها سفر عبر الزمن وانغماس مع عالم آخر مواز، إذ يمكن للحظات الاندماج مع الساحرة المستديرة إخراجك من وطأة الزمن ومتطلبات اللحظة، حتى للرازحين تحت الضغوط الخارجية والتهديدات وويلات الحروب، تماماً كما وصفها محمود درويش في نص مستلهم من لحظات عاشها في أحد الملاجئ بعد فك بطارية إحدى السيارات لتشغيل التلفاز ومتابعة المباراة، "ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج، وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة".

 

هل في الجنة مباريات كرة قدم؟

 

تشهد مباريات كرة القدم وكواليسها الكثير من القصص والحكايا الغريبة التي تروى عن عشاق هذه الكرة ومشجعي فرقها، لكن "للناس فيما يعشقون مذاهب" وكرة القدم لا تختلف كثيراً عن غيرها من الهوايات التي يذهب بها أصحابها بعيداً وتدفع بهم وراء العقل والمنطق، بخاصة عندما يتشابه حبهم لها مع حبهم لأحبائهم من البشر، بحيث يتجسد هذا العشق بنماذج تصل إلى درجة إسقاط أشكال الحب البشرية وتفاصيلها على كرة القدم.
فكما يحصل مع الإنسان عندما يعثر على حب حقيقي يملأ حياته ويغطي تفاصيلها ويشبع حواسه في الحياة الدنيا، ويجعله يذهب بأفكاره إلى ما وراء العالم المادي ليتمنى أن يرافقه محبوبه في حياة ما بعد الموت أيضاً، الأمر نفسه ينطبق على محبي كرة القدم إذ يدور في بال المتعلقين بها أسئلة قد تصل أحياناً إلى حدود غير منطقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

وفي هذا الصدد، يروي الإعلامي أيمن جادة في مقال بعنوان "المجنونة التي يحبها العقلاء"، قصة صديق عاشق لكرة القدم، طرح عليه سؤال كان يشغله بشكل كبير إلى درجة تؤرقه فعلاً، وكان السؤال "هل ستكون في الجنة مباريات كرة قدم وإستادات وبطولات يحضرها الناس؟"، متابعاً "أليست هذه إحدى أروع متع الدنيا فهل سنحرم منها في الآخرة؟".
سؤال كهذا قد يعد نوعاً من الهوس أو التعلق المرضي، وشكلاً من أشكال المبالغة لدى الناجين من لوثة كرة القدم، لكنه بالنسبة لبعض عشاقها تساؤل يبرره الحب أو لنقل التعلق.

 

ولاء لا تزعزعه النتائج 

 

ويتحدث جادة في قصة أخرى عن عائلة التقى بها على متن الطائرة اليونانية المتجهة من لندن إلى أثينا عام 2007 ليلة نهائي دوري الأبطال الذي جمع بين ليفربول وميلان الإيطالي، العائلة التي تضم أباً وأماً وابناً وابنة في مطلع العشرينات من العمر ويرتدون جميعاً قمصان ليفربول، كانت قد تكبدت عناء السفر إلى أثينا على رغم فشلهم في الحصول على تذاكر لحضور المباريات أو حصولهم على غرف شاغرة في أي من الفنادق، لكن كان أملهم في أنهم سيحاولون تأمين كل شيء لدى وصولهم.
 
 
ولكن الغريب ردهم الأخير عندما سألهم عما سيفعلونه هناك، أجابوا "ليس مهماً حتى لو نمنا في الشارع أو في حديقة عامة فنحن ذاهبون إلى هناك لأن ليفربول يحتاج إلينا وإن لم نتمكن من دخول الملعب فسننتظره خارج الملعب لنواسيه إن خسر ونحتفل معه إن فاز، إنه الولاء الحقيقي الذي لا تزعزعه النتائج".
وفي الحقيقة هذه حال عدد لا بأس به من المشجعين القادمين إلى قطر لحضور مونديال 2022، الذين قرروا الدخول إلى البلاد على رغم عدم امتلاكهم تذاكر حضور المباريات، آملين في الحصول على تذاكر بعد وصولهم، ومع ذلك لا يمانعون في مشاهدة المباريات على الشاشات العملاقة التي ستنتشر في الشوارع، في حال فشلهم في الحصول على التذاكر.
فالعاشق الحقيقي لهذه الكرة يرغب في أن يربط صوره وأحداثه وذكريات حياته مع هذا الحدث، لكن في النهاية حتى القليل هو مرضي بالنسبة له، حتى لو اقتصر الأمر على أخذ بعض الصور في المنطقة الحاضنة للحدث أو شراء تذاكر المباراة المستعملة كتذكار لقدومه إلى هناك.

 

المجنونة التي يحبها العقلاء
 
لا يقتصر حب الساحرة المستديرة على فئة معينة، فقد وقع في حبها القادة والعلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء قبل العامة، فجمهور كرة القدم لا تشكله فئة واحدة من المجتمع، بل يجتمع على حبها أفراد كثر على اختلاف مهنهم ومشاغلهم، وقد كان يروى عن الكاتب والروائي الأورغواياني إدواردو غاليانو المعروف بولعه بكرة القدم وهو من أكبر نقادها الاجتماعيين في الوقت ذاته، أنه كان يعلق على بابه لافتة مكتوب عليها "مغلق من أجل كرة القدم".
ويكرر هذا الفعل كل أربع سنوات مفسراً حبه لها بعبارة "لقد أحببتها لجمالها، إنها أشبه برقص الباليه مع الكرة"، وقد كانت له غاية خاصة في نقدها والكتابة عنها، تتلخص في إزالة الحاجز الوهمي الذي بناه الخوف بين محبي الكتب (النخب المثقفة) ومحبي الكرة، بحيث يتبادل كل منهما حبه الخاص ليجتمعا على حب الاثنين معاً. 
وهذ الأمر جسده على أرض الواقع الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو الذي أخبرنا عما علمته إياه ممارسة كرة القدم قائلاً، "تعلمت أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة، وخصوصاً في المدن الكبيرة"، كما تعلم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة على امتداد كتبه.

 

الجمهور النفسي
 
وعن رأي علم النفس في ولع وتعلق الجماهير وتكتلهم للسير والتفكير والشعور باتجاه معين، يتحدث الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون عما يسمى "الجمهور النفسي" ويعرفه بأنه كائن موقت يتألف من عناصر متنافرة التحمت لفترة، لتتحول إلى تكتل من البشر يمتلك خصائص جديدة مختلفة جداً عن خصائص كل فرد منهم على حده، بحيث تنطمس الشخصية الواعية للفرد وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه.
والظاهرة التي تبعث على الدهشة أنه أياً كانت نوعية الأفراد المشكلين للجمهور النفسي، وأياً كان نمط حياتهم أو طبيعة اهتماماتهم وأمزجتهم ودرجات ذكائهم فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية، وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بكيفية مختلفة تماماً عن الكيفية التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولاً، وعندها تصبح هذه الجماعة "جمهوراً نفسياً" تشكل كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير، وأولى مظاهر هذا القانون هي ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه مشاعرهم وأفكارهم في اتجاه واحد حال بدء تشكل هذا الجمهور نفسياً.
وبحسب لوبون فإن الجمهور النفسي الذي يتكوّن من عظام الناس كما أدنيائهم، إنما يشتغل وفق نمط جمعي لا شعوري، يفقد فيه البشر فردانيتهم الذاتية وتذوب كفاءاتهم العقلية في الروح الجماعية، لتتميز العواطف التي تصدر عن الجماهير سواء إيجابية أم سلبية، بطابع مزدوج: فهي مضخمة جداً ومبسطة جداً في آن واحد.
والمفارقة أن هذا لا يتطلب الحضور المتزامن للعديد من الأفراد في نقطة واحدة، بل يمكن لآلاف الأفراد المنفصلين عن بعضهم أن يكتسبوا صفة الجمهور النفسي في لحظة ما تحت تأثير بعض الانفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قومي عظيم، وإذا جمعتهم صدفة ما كانت كافية لكي يتخذ سلوكهم فوراً الهيئة الخاصة بأعمال الجماهير.
اقرأ المزيد

المزيد من رياضة