من بين مئات المعارض الفنية التي تزخر بها باريس ويزدحم الهواة على أبوابها بلا انقطاع، هناك معرض محدد يلامس أفئدة الباريسيين مقام اليوم وحتى بدايات مارس (آذار) المقبل يتعلق بالفنانة المكسيكية الراحلة قبل ثلثي قرن فريدا كالو. وعلى الرغم من أن المعرض غير مخصص لتلك اللوحات الشهيرة التي صنعت الجزء الأكبر من شهرة تلك الفنانة المناضلة الكبيرة التي باتت منسوخاتها معلقة في كل بيت تحكي قصصها المتعددة، الفنية والحياتية والسياسية، بل لعدد من فنون أخرى تتعلق بها وبمكسيكيتها وأيديولوجيتها، فإن محبيها يتدفقون على قصر "غاليريا" حيث مقر متحف الموضة لإعادة اكتشاف زوجة دييغو ريفييرا وعشيقة تروتسكي وصديقة أندريه بريتون الذي جعل منها سوريالية من دون أن تدري، والوفية بإخلاص لزعامة ستالين.
ومن البديهي القول، إن المعرض لا يخيب توقعات زواره، بل يقدم لهم جديداً يتعلق بأزياء الرسامة الغريبة وحتى ببيتها "المنزل الأزرق" الذي يكاد يعتبر من أشهر بيوت الفنانين في القرن العشرين، كما يعرض لها بعض أشهر لوحاتها، ما يعيد إلى الواجهة واحدة من أشهر رسامات القرن العشرين، ويزيل في طريقه سوء التفاهم الذي جعل فريدا تعتبر سوريالية منذ معرضها الباريسي الأول الذي أقامه أندريه بريتون لأعمال مبكرة لها في عام 1939.
يومها بفضل رعاية بريتون لها تدفق الهواة إلى زيارة ذلك المعرض وهم يعتقدون فريدا من "رعايا" سيد السوريالية من دون منازع. ولقد قالت هي على الفور إنها قبل أن تحاط بتلك الرعاية لم تكن تعرف عن السوريالية شيئاً ولم تكن تعرف بالتالي أنها هي نفسها سوريالية، لتستطرد قائلة "لكني لم أكن ولست سوريالية في أي لحظة من حياتي".
بريتون يرتب مملكته
وراحت هي حينها تروي الحكاية، فقبل ذلك بسنوات قليلة كان أندريه بريتون وعدد من رفاقه بمن فيهم زوجته، قد قاموا بتلك الرحلة الشهيرة إلى المكسيك ليقيموا بضعة أيام هناك في ضيافة ليون تروتسكي أحد زعماء الثورة البلشفية ومؤسس الجيش الأحمر أيام لينين والمتخاصم لاحقاً مع ستالين الذي نفاه خارج الاتحاد السوفياتي قبل أن يدفع رجال استخباراته مدعومين بالأحزاب الشيوعية في عدد من البلدان الغربية إلى مطاردته والتسبب في طرده من أي بلد يجد فيه منفى مريحاً له ولأسرته والمخلصين له، وصولاً إلى المكسيك على أثر طرده من فرنسا.
وفي ذلك المنفى البعيد كانت فريدا مع زوجها ريفيرا من المحيطين بتروتسكي على الرغم من ولائهما المطلق لستالين، ولم يخل الأمر من علاقة أقامتها فريدا مع الزعيم الروسي المنشق، الذي سينتهي الأمر بستالين إلى التمكن من اغتياله عام 1940، ولكن قبل ذلك كان مثقفون كبار من أميركا وأوروبا يقومون بالحج إلى مقر تروتسكي وكان من بينهم عام 1936 بريتون الذي كان متعاطفاً هو وحركته السوريالية مع البطل المنفي.
إخراج سوريالي
هناك من بين المحيطين بتروتسكي كانت فريدا تشغل موقعاً متميزاً وتسهب في حديث الثورة والفن إلى درجة راقت لبريتون الذي حاول على الفور أخذها تحت جناحه، ومن هنا كانت دعوته إياها لزيارته في باريس وتنظيمه ذلك المعرض الباريسي الأول لأعمالها في العاصمة الفرنسية، وتوجهها بالتالي إلى تلك المدينة التي ها هي تعود إليها بأعمالها طبعاً بعد ثلثي قرن، ولكن من دون أن تكون "سوريالية" هذه المرة، هي التي تمكنت على أي حال، ولمناسبة معرض أخير أقيم لأعمالها في مكسيكو سيتي قبل أشهر من رحيلها عام 1954، تمكنت من جعل ظهورها في افتتاح المعرض على حمالة وبثياب غريبة الأطوار بالكاد تخفي جسدها المتألم الذي كان يبدو ميتاً على أي حال، سوريالياً بكل ما في الكلمة من معنى، وصولاً إلى قطع ساقها الملتهبة بعد أشهر من ذلك الافتتاح وقبل أشهر قليلة من موتها في صيف 1954، وكلها مرارة بالنظر إلى أنها كانت تتوقع أن يكون في رحيلها خلو للمكان يمكن زوجها الحبيب والخائن دائماً رفيق عمرها دييغو ريفيرا من أن يتزوج غيرها أخيراً وربما بواحدة من عشيقاته العديدات، لكن المسكين لم يعش بعدها أكثر من سنتين ونيف دهمته خلالهما الأمراض وما لبث أن رحل بدوره.
لست سوريالية
أجل، بأندريه بريتون أو من دونه لا شك أن حكاية حياة فريدا كانت حكاية سوريالية وبأكثر مما كان يمكن لها أن تتوقع، لا سيما في وسط زيارتها الشهيرة إلى باريس بدعوة من بريتون الذي كان قد شارك تروتسكي وكالو وريفيرا توقيع البيان الشهير الداعي إلى "فن ثوري مستقل" حين كان في المكسيك، وها هو الآن في باريس يسعى من خلال عرض أعمال فريدا كالو في "غايري رينو وكول" إلى إعلان المزج النهائي بين الثورة والسوريالية، حتى وإن كان سيفاجأ بإنكار فريدا انتماءها إلى ذلك الحراك وشعارها يقول "الثورة أجل، أحبها وأفهمها، أما السوريالية فلا علاقة لي بها"، وذلك مع أنها أمضت جل وقتها في باريس حينها في رفقة بريتون نفسه ورفاقه وفي مقدمتهم إيف تانغي وبابلو بيكاسو وصديقته في ذلك الحين دورا ماآر التي سرعان ما باتت من أقرب رفيقاتها إلى نفسها، إضافة إلى بول إيلوار وماكس إرنست وغيرهم من وجوه الحركة الفنية الباريسية من سورياليين وغيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن علاقتها الأقوى إنما كانت مع الكاتب ميشال بيتيغان الذي رافقها معظم فترة إقامتها وأخذها في زيارات عديدة في ربوع فرنسا، لا سيما في جولة لم تبرح ذاكرتها أبداً بين قصور ضفاف نهر اللوار. والحقيقة أن رفقتها لبيتيغان تسببت لها من ناحية بطلاق مع ريفيرا لم يدم سوى عام عادا بعده زوجين من جديد، ومن ناحية ثانية بنزاع مع بريتون الذي لم يكن محباً لبيتيغان فوقع الانشقاق بينه وفريدا، وكان انشقاقاً دفع الرسامة الثورية إلى إعلان أنه لا علاقة لها بالسوريالية "التي هبطت بل أهبطت علي من حيث لا أدري!".
واللافت في الأمر أن كل ذلك حدث قبل افتتاح "المعرض الفني للمكسيك" الذي شاركت فيه فريدا إلى جانب سلفادور دالي وجورجيو دي شيريكو وغيرهما لتعلن بعده أنها لم تجد نفسها في المعرض على الرغم من أنه عرضت فيه مع أولئك "العمالقة" كما وصفتهم 15 لوحة من أهم أعمالها، ومن بينها لوحتها التي ستحقق شهرة واسعة لاحقاً "ولادتي"، وحتى وإن كان قد أطربها ثناء الكبار من طينة تانغي وكاندينسكي عليها بمن فيهم بيكاسو الذي وجه من فوره رسالة إلى ريفيرا قال له فيها حرفياً "لا ديران ولا أنت ولا أنا يمكننا رسم وجه له قوة الوجوه التي ترسمها فريدا كالو".
اللوفر يتوج نجاحاً مدهشاً
والحال أن متحف اللوفر عمد على أثر النجاح الكبير الذي حققته فريدا في ذلك المعرض، إلى اقتناء لوحتها "الإطار" وهي عبارة عن بورتريه ذاتي معلق اليوم في "مركز بومبيدو". وكانت تلك هي المرة الأولى التي يشتري فيها متحف هو عبارة عن مؤسسة رسمية لها كل تلك السمعة والمكانة العالميتين عملاً فنياً لمبدع مكسيكي من القرن العشرين. وفي إمكاننا طبعاً أن نتخيل مقدار الفرح الذي ملأ أسارير الرسامة زهواً معوضاً عليها الكآبة التي استبدت بها خلال الأسابيع الأخيرة من إقامتها الباريسية، وتحديداً من جراء نزاعها مع بريتون، ولكن أيضاً طلاقها مع دييغو الذي حطمها بقدر ما حطمه، لا سيما حين راح الثناء ينهال عليها وهي بعيدة عنه.
ولكن، وهذا أدهى ما في الأمر بالنسبة إليها من جراء ذلك النبأ الذي هبط عليها من حيث لم تكن تتوقع: النبأ المتحدث عن الهزيمة التي حلت برفاقها الجمهوريين الإسبان وهي غير قادرة على أن تفعل شيئاً من أجلهم. وهكذا عادت إلى وطنها المكسيكي والدموع تنهمر من عينيها، بعضها يعبر عن فرحها بالنجاح الباريسي الضخم الذي حققته، والآخر يعبر عن حزنها على الإسبان.