Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما الذي حدث حقا بين البلشفي تروتسكي والسوريالي بريتون في المكسيك؟

مؤرخ بلجيكي يروي حكاية الشقاق بينهما تاركاً النقاط الأساسية معلقة

تروتسكي و"المجموعة" (غيتي)

كانا يعرفان بعضهما البعض جيداً حتى من قبل لقائهما الأول في باريس، وبالطبع بالتالي، قبل لقائهما في المكسيك الذي هو موضوعنا هنا، والذي استبق اغتيال السياسي بينهما في ذلك المنفى المكسيكي البعيد عن وطنه وعن ساعة مجده. وهذا السياسي الذي نشير إليه هنا ليس في الواقع سوى ليف تروتسكي أحد الزعيمين الكبيرين لثورة 1917 البلشفية في روسيا ومؤسس الجيش الأحمر فيها، أما الثاني فكان أندريه بريتون الشاعر الفرنسي الذي كان زعيماً بدوره، ولكن في مجال آخر تماماً: فلئن كانت الثورة التي تزعمها تروتسكي إلى جانب لينين، سياسية وعسكرية، فإن بريتون كان يتزعم ثورة كبيرة أخرى هي فكرية وإبداعية: الثورة السوريالية التي كانت لا تقل أممية عن الثورة البلشفية، إذ انتشر تأثيرها في أنحاء كثيرة من العالم، ناهيك عن أن بريتون وصحبه طبعاها بميسم سياسي لا شك فيه. وكان هذا الطابع هو ما قرب بين بريتون وتروتسكي في باريس حين وصلها هذا الأخير فاراً من مطاردة ستالين له فاستقبله بريتون مرحباً مناصراً. ومن هنا فإن بريتون حين قصد المكسيك لاحقاً للقاء تروتسكي بعد انتقال هذا إلى ذلك البلد المتسامح في أميركا اللاتينية إذ أعلمته السلطات الفرنسية أن وجوده فوق أراضيها غير مرحب به، كان يتابع تأييده للزعيم السوفياتي المنفي، ومن هنا قصده إلى منفاه الجديد على رأس وفد معتبر.

زعامة "لا يستحقها"!

لكن ما كان في باريس لن يكون في المكسيك، خصوصاً وأن تروتسكي كان قد بدأ يسأم المنافي ويعيش على حافة الخطر ولم يعد، كما يبدو، مهتماً حقاً بذلك التأييد السوريالي الذي لا يجديه نفعاً. بل كان قد بدأ يشعر بأن الشاعر الفرنسي إنما يحاول أن يستفيد منه جاعلاً لنفسه من خلاله مكانة زعامة "لا يستحقها"، كما سيقول تروتسكي لخلصائه، حين كانوا يسألونه عن سر ذلك الجفاء الذي بدأ يبديه تجاه ضيفه الفرنسي. أو ذلك على الأقل ما رواه في كتاب أصدره بعنوان "سبع سنوات بالقرب من تروتسكي" جان فان هيونورت، المناضل البلجيكي التروتسكي متحدثاً فيه عن مرافقته تروتسكي في فرنسا كما في المكسيك، واعتبره المؤرخون الأكثر صدقية بين ما كتب عن سنوات المنفى تلك، لا سيما عن زيارة بريتون إلى المكسيك، خصوصاً أن روايته أتت مختلفة عن روايات عديدة أخرى دونها السورياليون أنفسهم محاولين من خلالها التغاضي عن برم الزعيم السوفياتي السابق بممارسات الزعيم السوريالي الدائم وضيقه بمحاولات هذا الأخير "الحصول على كل شيء من دون أن يفعل شيئاً سوى الثرثرة التي لا طائل تحتها"، بل حتى محاولاته أن "يؤستذ" عليه ويعلمه الاستراتيجيات الثورية.

في البداية، وكما يروي هيونورت في كتابه، استقبل تروتسكي بريتون بترحاب بل شكل معه ومع عدد من المحيطين به المقربين منه، ومن بينهم الرسامان الزوجان دييغو ريفيرا وفريدا كالو وناتاليا زوجة تروتسكي وفون هيونورت نفسه وآخرون من الحلقة الضيقة المحيطة بالزعيم المنفي، مجموعة تلتقي بشكل متواصل وتتداول في الشؤون الفنية والسياسية وتعلق على أنباء تصلهم من "العالم الخارجي"، لا سيما من بلاد السوفيات حيث راحت تتلاحق محاكمات ستالين للرفاق السابقين، وأخبار انشقاقات كبار المثقفين العالميين من الذين وقفوا أولاً إلى جانب الثورة البلشفية، والآن ها هم يبدون خيبات أملهم بمقدار ما كان ستالين يمعن في غيه وبطشه. والحقيقة كما يروي فون هيونورت، أن تروتسكي وإن بدا مشغول البال بكل ذلك وبمحاكمات موسكو الستالينية، فإنه كان يفضل أن يركز في أحاديثه مع المبدعين المحيطين به حول الفن وقضاياه في وقت راح فيه بريتون يصر على حديث السياسة وغالباً ما كان يقول لتروتسكي "كان يجب عليك أن تفعل كذا..." أو "لو أنك فعلت كيت..." ثم يسأله عما إذا لم يكن من الأفضل الآن أن يبادر "إلى الاتصال بستالين لرأب الصدع". وفي مثل تلك الحالات كان تروتسكي يصمت ناظراً إلى محدثه باستياء واستصغار شأن فيما يواصل بريتون نصائحه وانتقاداته وكأنه قطب من أقطاب الثورة وسياسي داهية. والحقيقة أن ذلك كان أواسط ثلاثينيات القرن العشرين حين كان تروتسكي يرقب من ناحية، بقلق شديد، كيف يدمر ستالين كل ما كان "الرفاق" قد بنوه في حراك لم يعد ثمة من مجال للعودة عنه، ومن ناحية أخرى كل تلك الأنباء السرية التي تصله عن محاولات يحيكها الستالينيون المكسيكيون بأوامر تأتيهم مباشرة من موسكو، لاغتياله.

للصبر حدود

في نهاية الأمر كان لا بد لصبر تروتسكي أن ينفد رغم تهذيبه الأسطوري. وهو أمر لاحظه الجميع ما عدا بريتون الذي يبدو أنه استملح تدخلاته معتبراً نفسه لاعباً محورياً الآن في السياسات العالمية. وهنا، لمناسبة زيارة قامت بها المجموعة إلى كنيسة ريفية في المنطقة التي يقيم فيها تروتسكي في المكسيك، راح الحديث يدور من حول أملاك الكنيسة في هذا البلد وعلاقتها بالمأثور الشعبي. عندها لاحظ تروتسكي كيف أن بريتون راح يلم بعض الآثار الكنسية المرمية في زوايا الكنيسة هنا وهناك معتبراً الأمر نوعاً من "النضال ضد هذه الكنيسة" كما قال مبتسماً. ويقول فون هيونورت، إن ذلك التصرف أثار استياء تروتسكي حقاً، فتمتم أن ليس هذا هو الأسلوب الأفضل للنضال بل أفضل من هذا أن يشتغل بريتون على تقرير جدي يتحدث فيه عما تحتفظ به الكنيسة المكسيكية عموماً من إرث شعبي استولت عليه، فيضاف إلى بيان سياسي– فني كان تروتسكي قد طلب من بريتون أن يعده منذ الأيام الأولى لوصوله إلى المكسيك يتحدث عن الأحوال السياسية في العالم انطلاقاً من نظرة فنية ثقافية، فوافق بريتون على ذلك متحمساً. بيد أن زيارة الكنيسة بدلت كل شيء، بل زرعت نوعاً من نفور مطلق بين الرجلين.

مماطلة كاتب

ففي البداية راح بريتون يماطل في إنجاز التقرير المتفق عليه، والذي كان قد أبدى في البداية حماسة شديدة لإنجازه. ولكن بعد ذلك وإذ كان تروتسكي يلح عليه خلال كل لقاء بينهما على إنجازه لـ"أهميته في النضال المشترك ضد الستالينيين" زادت مماطلة بريتون وبدا واضحاً أن وراء ذلك واحداً من دافعين، فإما أنه لا يريدون أن يغضب رفاقاً ستالينيين يعتمد عليهم في تماسك تياره، وإما أنه عاجز بكل بساطة عن خوض هذه المهمة. أما الآن وقد أضاف تروتسكي إلى المهمة تلك الأبعاد المتعلقة باستيلاء الكنيسة على الموروث الشعبي، وفي وقت تعامل مع بريتون كأستاذ مدرسة ابتدائية ضبط تلميذه وهو يغش، من خلال نهبه داخل الكنيسة، بات يبدو واضحاً أن الزعيم السوريالي يريد أن يتملص من المهمة بأسرها. وهو أمر يؤكده فون هيونورت في واحدة من صفحات كتابه حيث يخبرنا حرفياً: "...وذات مرة وكنا معاً في حديقة منزل الزوجين ريفيرا – كالو، أخذني بريتون جانباً وسألني عما إذا لم يكن من الأفضل أن أعد أنا ذلك التقرير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"إنه دوستويفسكي!"

هنا يقول المناضل البلجيكي كيف أنه اعتذر بلباقة، لكنه يقول أيضاً كيف تبين له أن الأمور لم تعد تسير على خير ما يرام بين "الزعيمين"، وهو ما يؤكده من خلال حكاية رحلة مشتركة قاموا بها جميعاً في سيارتين إلى غواداليارا ركب تروتسكي خلالها في سيارة واحدة مع زوجته ناتاليا وبريتون ورفيقته جاكلين "فيما ركبنا أنا وريفيرا وفريدا وأوروزكو في السيارة الثانية". كانت الرحلة تستغرق 8 ساعات "لكننا بعد 4 ساعات رأينا السيارة الأولى تتوقف فتوقفنا ثم نزل بريتون وجاكلين منها فنزلت أنا، وحين تقاطعنا في الطريق بين السيارتين لم يحر أي منا بكلمة، فركبت أنا إلى جانب تروتسكي بينما أخذ بريتون وجاكلين مكانهما في السيارة الثانية الآن". ويضيف فون هيونورت أن أحداً في السيارة الأولى لم يعلق على ما حدث. لكن تروتسكي اكتفى بعبارة واحدة قالها مشمئزاً: إنه دوستويفسكي! وبدا واضحاً أن القطيعة بين زعيم الثورة البلشفية وزعيم الحركة السوريالية باتت أمراً واقعاً حتى ولو أن زيارة بريتون تواصلت أياماً أخرى وحتى وإن كان تروتسكي قد بقي صامتاً حول الموضوع كله حتى كان اغتياله على أيدي عملاء ستالين فكان بريتون في مقدمة الذين شجبوا ذلك الاغتيال.

المزيد من ثقافة