Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طوفان التضخم يحرم العائلات المصرية من عادة "خزين الشتاء"

تقاليد غذائية في طريقها إلى الاندثار بسبب ارتفاع الأسعار وبعضهم يجدها وسيلة للتقليل من إهدار الطعام والتخلص من آفة الاكتناز

في أوقات الغلاء والتضخم تتردد ربات البيوت قبل شراء أية سلعة بهدف التخزين (مواقع التواصل)

كانت فترة نهاية فصل الصيف تمثل بالنسبة إلى عائلات مصرية كثيرة موسماً يشبه موسم الحصاد بالنسبة إلى المزارعين، إذ تنخفض أسعار كثير من الفواكه والخضراوات، لتتمكن ربات البيوت من شراء كميات كبيرة تكون عوناً لهن في الشتاء وأيضاً طوال شهر رمضان، باعتبار أن مصر بلد زراعي، فتلك العادة ترسخت على مدار عقود طويلة وتوارثتها الأجيال، وعلى الأغلب فإن مختلف الطبقات يلجؤون إليها من باب الاستمتاع بمذاق أصلي لفاكهة ما في غير أوانها.

فقديماً كانت طريقة التخزين بالتجفيف والتحميص مثلاً، لكن في ما بعد أصبح المجمد الكهربائي والثلاجات "البرادات" وسيلة أساسية تساعد في استقرار تلك العادة الغذائية الاجتماعية التي لم تقف أمامها الظروف عائقاً في أية حقبة، لكن في هذا المأزق الاقتصادي العالمي تغيرت مفاهيم وتقاليد وعادات تناقلتها الأجيال، ليس سهلاً أبداً أن تضطر العائلات بين يوم وليلة إلى التخلي عن نمط أساسي في بنية غذائها كانت تعتمد عليه لإنقاذها في مواقف بعينها ليرفع عنها بعض العناء، لكن بما أن رحلة التسوق في المتجر باتت شاقة للغاية وتتطلب كثيراً من المواءمات لم يعد من الممكن الاحتفاظ بالموروثات الغذائية بحذافيرها إلا في أضيق الحدود.

تبدو خصوصية تلك الأزمة التي ترتكز على تصاعد معدل التضخم الاقتصادي وهبوط حاد في سعر العملة المحلية، إذ تجاوزت قيمة الدولار الواحد 24 جنيهاً مصرياً بعد تحرير سعر الصرف أخيراً، في أنها جاءت بنمط استهلاكي غير معتاد بالمرة بالنسبة إلى الأسر المصرية، وهو نمط يحمل وجهاً سلبياً يتمثل في "قلة الحيلة" وآخر إيجابياً، فقد كان الشائع هو أنه عندما تتردد فقط مجرد أنباء عن قرب ارتفاع أسعار السلع والمنتجات، تحدث حال من الذعر والقلق ويسارع الأفراد إلى شراء مستلزمات غذائية فوق طاقتهم وتكديسها خوفاً من ارتفاع أسعارها، وأيضاً شراء منتجات أخرى قد لا يحتاجون إليها من الأساس سواء أجهزة كهربائية أو ملابس أو حتى سيارات لمن تساعدهم قدراتهم المادية في ذلك.

لكن هذه المرة كان الموقف عكسياً تماماً فقد انسحب المتسوقون من المتاجر لأن الأسعار لم تعد في المتناول فكيف سيحاولون تخزين السلع والبضائع إذا كان الإيفاء بالحاجات الأساسية بات أمراً مشكوكاً به في ظل عدم استقرار السوق، فهذا حدث نادر بالنسبة إلى العائلات المصرية، وعلى رغم أن بعضهم يعتبره دليلاً على الركود، لكنه أيضاً يسهم في عدم شح السلع لأن تكديسها في المنازل كان عادة متجذرة.

تقليص "الخزين"

الآن لم يعد هناك مجال لمثل هذا السلوك بالنسبة إلى الشريحة الأكبر من المجتمع على الأقل، لكن أيضاً شهد هذا الموسم تراجعاً ملموساً في تقليد آخر كان مفيداً وموفراً إلى حد ما وهو "التخزين"، إذ كانت المانغو تأتي على رأس الفواكه التي تمتلئ بها ثلاجات المصريين خلال فصل الصيف ثم تستمر معهم مجمدة بأشكال عدة وبكميات تكفي لأشهر، وتكون على رأس "خزين الشتاء وخزين رمضان"، بخاصة أن سعرها كان ينخفض بشدة في نهاية الموسم بسبب وفرة الإنتاج، فيصبح السعر زهيداً.

لكن، ذلك "الزهيد" لم يأت هذا الصيف أبداً، بالتالي تخلت ربات البيوت من غير رضا عن تلك العادة أو على الأقل لم تعد بالزخم نفسه، فهذا العام على رغم أن المحصول في الإجمال جاء أكثر من السنة الماضية، لكن أسعار ثمرة المانغو لم تنخفض بالشكل المتوقع ولم يقل سعر كيلو غرام من الأنواع ذات الشعبية عن دولار أميركي واحد، وهو يزيد بكثير لأنواع أخرى، وهذا المبلغ بالنسبة إلى أسرة ترغب في شراء كمية كبيرة لا يعد سعراً ملائماً ولا معتاداً أيضاً مقارنة مع السنوات الماضية، إذ كان سعر كيلو غرام يصل إلى أقل من نصف دولار.

تقول رشا عادل، وهي أم عاملة ولديها طفلان، إن أبناءها يعشقون تلك الثمرة، لكنها لم تتمكن من توفيرها بكميات كافية هذه السنة، لأنها بشكل عام باتت تقتصد في شراء الفواكه بداية من شتاء 2021، وهي الفترة التي بدأت فيها موجة الأسعار في الارتفاع التدريجي، مشيرة إلى أنها كل عام كانت تحرص على شراء كم كبير من الفواكه في موسمها لتحتفظ بها لأشهر في ما بعد، لكنها لم تعد تتمكن من الحفاظ على هذا التقليد، متابعة "حاولت لكنني وجدت نفسي أشتري كميات قليلة للغاية مقارنة مع أوقات سابقة، وأغلبها تم استهلاكها ولم تنتظر، ببساطة لأن هناك أولويات، فإذا كنا سنفكر أن نشتري شيئاً لنخزنه ونستعمله في ما بعد فمن الأفضل أولاً أن نكفي حاجات المنزل من سلع غذائية أساسية في ظل ارتفاع أسعار الدواجن واللحوم والأسماك والبيض ومنتجات الألبان، وهي أطعمة لا غنى عنها في المنزل".

الأمن الغذائي المنزلي

تنتج مصر سنوياً نحو مليون ونصف مليون طن من المانغو، وتحتل المرتبة الثامنة على مستوى العالم في ما يتعلق بكمية الإنتاج، كما تعتبر تلك الفاكهة هي الأكثر شعبية بين عموم المواطنين، لكن نظراً إلى أنها ليست طعاماً أساسياً فإن الأسر لا تختارها ضمن الأولويات في ظل تلك الظروف، ويتكرر ذلك مع فواكه أخرى كان معتاداً أن تتحول إلى مخزون طويل الأمد من المربيات مثل "المشمش والخوخ والتين والفراولة"، باعتبارها تسهم في "الأمن الغذائي المنزلي"، وتمثل بديلاً صحياً وأوفر مالاً من ماركات المربيات التي تباع جاهزة في الأسواق، حتى إن سعر كيلو غرام من فاكهة مثل البرتقال التي كانت تعد من أرخص الفواكه في مصر في فصل الشتاء نظراً إلى انتشار مزارعها بات يتجاوز دولاراً واحداً في متاجر متعددة، فلم يعد الأمر يسيراً أبداً.

تقول السيدة جليلة عبدالله وهي جدة غير عاملة، "لم أتخل كلياً عن عادة التخزين، لكن هناك أيضاً بعض التقاليد التي ألغيت تماماً، فمثلاً لم أتمكن من تحضير أنواع مختلفة من المخللات لشهر رمضان، فثمرة مثل الليمون كانت تعد الأرخص لم ينخفض سعرها أبداً طوال الصيف، إذ كان يمكن الحصول على ستة كيلو غرامات في مقابل ما يعادل دولاراً واحداً فقط، لكن الأسعار تضاعفت ثلاث وأربع مرات، والأمر نفسه بالنسبة إلى الطماطم التي كنا نحتفي بها كصلصة منزلية بكميات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتابع السيدة جليلة، "بالنسبة إلى جيلي فالمنتجات الزراعية هي الأقل سعراً في مصر نظراً إلى توافراها، بالتالي هي الأكثر مناسبة للتخزين ولتوفير الوقت والمجهود بخاصة أثناء الصيام، إذ نحتفظ بالأطعمة نصف مجهزة، لكن أخيراً تغير الوضع بسبب ارتفاع الأسعار، وأيضاً قلة توافر بعض المنتجات مثل الأرز، بالتالي فالأولويات تبدلت، وأصبحنا نشتري الحاجات الأساسية كل يومين أو ثلاثة فلم يعد هناك فرق، كما أن السيولة المالية بالكاد تكفي".

تزامن مع تلك التغيرات، انقلاب حقيقي في توجهات الطهاة المعروفين عبر السوشيال ميديا، بخاصة هؤلاء الذين صنعوا جماهيريتهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وليس عبر المحطات الفضائية التقليدية، إذ يقدمون فيديوهات سريعة وبسيطة ومغرية بالتجريب تلقى رواجاً بوصفات متنوعة من مختلف مطابخ العالم، وأخيراً أصبحت عناوين مثل "وجبة متكاملة من دون لحوم، وكيفية صنع خمسة أصناف من دجاجة واحدة، طريقة موفرة لطهي أكل المطاعم في المنزل، والحمام الكذاب والبانيه الكذاب والكنافة الكذابة"، وهي كلها تخاطب ربة المنزل التي أرهقتها الموازنة، وتعدها بتقديم وجبات فخمة لعائلتها بأقل القليل، كما أنها تتضمن مكونات بديلة كثيرة لأكلات شهيرة مكلفة للغاية، ولم تعد في متناول كثير من الأسر الآن، أو على الأقل لم تعد متاحة بعدد المرات نفسه.

تشير ر. ع، واحدة من الطاهيات اللاتي عرفن طريق الشهرة عبر فيديوهات قصيرة في "إنستغرام" وغيره من وسائل التواصل، إلى أنها أصبحت تتلقى رسائل كثيرة من المتابعات يطلبن منها أن تعطي لهن بدائل لبعض المكونات غالية الثمن التي تستخدم في مجموعة من وصفات الطبخ مثل الكريمة اللبنانية أو اللبن المكثف وحتى التوابل التي بات عدد منها باهظ الثمن، مؤكدة أنها على قدر الإمكان تحاول تلبية حاجاتهم، بخاصة أن عملها يقوم على مساعدة متابعيها، لافتة إلى أن هذه النوعية من الاستفسارات كانت تصل إليها على الدوام لكنها زادت في الفترة الأخيرة بشكل ملاحظ، إذ أصبحت تركز بصورة أكبر على تقديم وصفات صحية ومفيدة، لكنها لا تعتمد على مكونات مرتفعة الثمن.

الاستهلاك بلا هدف

من يتابع أيضاً المجموعات النسائية الخاصة عبر "فيسبوك"، سيجد أن هناك تزايداً لا يمكن تجاهله في المشاركات التي يطلب أصحابها نصائح في ما يتعلق بكيفية تدبير موازنة المنزل التي تتضاءل يوماً بعد آخر أمام طوفان الأسعار، وكذلك ترشيحات لبدائل منتجات أقل سعراً سواء في ما يتعلق بمساحيق التنظيف أو العناية الشخصية، وحتى أثاث المنزل والمعلبات أيضاً التي باتت تستخدم في أضيق الحدود.

لكن رغم كل تلك السلبيات فهناك مهارات جديدة تكتسب، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر فائدة حينما تستقر الأوضاع، وهي تتعلق بالمحاولات الجادة والاضطرارية للكف عن الإهدار، والبحث عن طرق للاستفادة من بقايا الطعام وكذلك محاولات التخلص من عادة اكتناز المنتجات بحاجة ومن دون حاجة ثم التخلص منها بعد انتهاء صلاحيتها، والانسياق وراء الاستهلاك بلا ضرورة، وهي أمور تبدو واضحة تماماً في توجهات كثيرين يدخلون في نقاشات جدية عبر وسائط متعددة حول الوضع الراهن، بخاصة أنه بحسب تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن كمية الطعام المهدر في الوطن العربي العام الماضي تقدر بـ40 مليون طن، نصيب مصر منها تسعة ملايين طن.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير