Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرجل الذي أنقذ الاتحاد السوفياتي من نهاية أكثر بؤسا

بدأ بتفكيك المنظومة المتهالكة وإعادة البناء السياسي حتى انفجر المجتمع وانفرط من تلقاء ذاته

حالف الحظ الاتحاد السوفياتي والبشرية جمعاء بوصول شخص من طينة مختلفة إلى مراكز الحكم العليا (أ ف ب)

لا أبالغ إن قلت إن الاتحاد السوفياتي كان سيبقى على الأرجح حياً يرزق حتى يومنا هذا لولا ميخائيل غورباتشوف وما الذي يمنعه من ذلك، الجواب لا شيء إلا شخص آخر مثل غورباتشوف.

اعتدنا أن نرى تغييرات جذرية على أنظمة الحكم بضغط شعبي، هذا لا يصح بتاتاً على حالة الاتحاد السوفياتي الذي تغير واندثر سريعاً بفعل قرارات اتخذها، ولا مبالغة في هذا، شخص واحد وصل إلى سدة الحكم بعد عقود من حكم أشخاص بيروقراطيين (حزبيين) أصغرهم في عقده السابع.

أحياناً أفكر كيف أو ماذا تحمل هذا الرجل الذي انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي في الخمسينيات خلال مسيرته الحزبية. كيف صمد بين هذه الهياكل البشرية في المكتب السياسي للحزب، كيف كتم اعتراضه طوال أعوام (وهل كانت لديه اعتراضات فعلياً) حتى وصل إلى مراكز الحكم العليا التي لم تكن قريبة منه قبل بداية الثمانينيات حين ساعده رجل "كي جي بي" القوي يوري أندروبوف في الانضمام إلى المكتب السياسي (هيئة الحكم الأعلى في الاتحاد السوفياتي).

حالف الحظ الاتحاد السوفياتي والبشرية جمعاء بوصول شخص من طينة مختلفة إلى مراكز الحكم العليا لأن التغيير الشعبي في الأنظمة الاستبدادية على شاكلة النظام السوفياتي شبه مستحيل أو دموي بالتأكيد، لكن بمجرد أن بدأ الرجل بتفكيك المنظومة المتهالكة من خلال سحب القوات من أفغانستان ووقف الرقابة وإعادة الجنسيات للمنفيين والمستبعدين والسماح بعودتهم واعتماد مبدأ الشفافية (غلاسنوست) وإعادة البناء السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي (بيريسترويكا) وغيرها كثير، حتى انفجر المجتمع السوفياتي بوجه المنظومة السابقة وانفرط من تلقاء ذاته.

ولا يقتصر الأمر في حالة غورباتشوف على مجرد قرارات اتخذها، بل هو يمثل حالة ككل، حالة إنسانية تميزت عن أقرانه في الحزب الشيوعي، فنحن لا يمكن أن نتصوره من دون حبيبته وشريكة حياته رايسا وكشخصية رسمية وعلنية لم يخفها غورباتشوف عن الجمهور (كما فعل معظم أسلافه) بل كانت واضحة تلك العاطفة المتبادلة بينهما وهذا الترابط الشديد في مسار حياتهما الخاصة والمهنية. غورباتشوف بدا لنا إنساناً بعكس أسلافه، بدا أن لديه مشاعر، ولا يخشى لقاء الناس في الشارع والتحدث إليهم، لا يخجل من الاعتراف بالخطأ، والأصعب على التصديق (في سياق الوضع الحالي) أنه لم يتمسك بمنصبه وانسحب حين كان هذا هو الخيار الأمثل.

لا أتصور روسيا اليوم قادرة على خلع البوتينية إلا بالطريقة ذاتها التي خلعت عنها الشيوعية قبل ثلاثة عقود. لا سبيل لذلك إلا من خلال تحولات في النخبة الحاكمة وثورة من فوق، لكن هل هناك شخصية قادرة وجريئة على القيام بمثل هذه الانعطافات؟ لن نعلم إلا بعد حدوث الأمر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولنكن صريحين، لم يكن غورباتشوف محركاً مباشراً لكل الأحداث التي جرت بين 1985 و1991، وليس هناك داع لكي يكون. فالأنظمة المتشددة غالباً ما تحتاج إلى قليل من الاهتزاز لكي ترقص يميناً ويساراً، وعليه كان يكفي رفضه التدخل ضد إرادة شعوب شرق أوروبا لتسقط الأنظمة الشيوعية هناك ومعها جدار برلين سيء الذكر. وكان يكفي وقف الرقابة وفتح ملفات أرشيفية لتوقظ أهوال الحقبة السابقة، خصوصاً الستالينية الشعب من سباته وتفتح أعينه على كوارث تاريخ بلاده ومآسيه لتدفع القسم الأبرز منه والأنشط إلى كره النظام والعمل على إسقاطه.

قرار عدم التدخل بالانتخابات العامة والسماح بالترشح لغير الحزبيين، أديا إلى أول انتخابات شبه حرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي وتشكل مجلس نواب الشعب الذي لعب دوراً هائلاً في الأعوام الأخيرة من الحياة السياسية للبلاد. إرخاء القبضة سمح للجمهوريات السوفياتية أخيراً بتنفس الصعداء وإعلان استقلالها بمن فيها روسيا.

الأوضاع كانت جاهزة، لكن هذا لا يعني أن الأحداث كانت لتجري بالوتيرة ذاتها بغض النظر عمن كان في سدة الحكم، لا بل كان يمكن للاتحاد السوفياتي أن يستمر عقدين إضافيين من الزمن على أقل تقدير، وحينها كان يمكن لنهاية الاتحاد السوفياتي أن تماثل انفراط الاتحاد اليوغوسلافي لكن على نطاق أكبر وأكثر دموية مع ما يلي ذلك من تبعات على أوروبا والعالم.

تزامنت وفاة غورباتشوف مع حرب أطلقها شخص واحد وهذا تذكير آخر لنا على قدرة شخص واحد في الأنظمة الاستبدادية على تغيير مجرى الأمور. كما أسهمت قرارات رئيس الاتحاد السوفياتي الأول والأخير في نهاية حقبة الحرب الباردة مع كل ما لحق بها. إني على قناعة أن قرار شن حرب على أوكرانيا كان فردياً تماماً ولم يكن ليحصل لولا وجود فلاديمير بوتين في سدة الحكم وهذا تذكير لنا بأخطار الأنظمة الاستبدادية على شعوبها والشعوب الأخرى وهو ما نعلمه جيداً في عالمنا العربي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل