Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عاصفة "جراحات التجميل"... فن تحويل البشر إلى "أفاتارات"

28000 عملية في بريطانيا وحدها كل عام بـ16.5 مليار دولار واستطلاعات: من أجل "السيلفي"

أجرى الممثل الصيني ناي وين أكثر من 60 عملية تجميلية على وجهه بما في ذلك علاجات الليزر غير الغازية (أ ف ب)

للملامح البشرية صفات خاصة لا ترتبط دائماً بالجمال أو القبح، بل هي جزء من التشكيل البشري الذي يميز البشر عن غيرهم من الكائنات الأخرى، لكن المبالغة في عمليات تغيير الملامح التي يطلق عليها اسم الإجراءات التجميلية، الجراحية منها أو السطحية، بدأت تحدث تغيرات جذرية في أشكال البشر تدخلهم عالماً أشبه ما يكون بعالم الكائنات الافتراضية والتكوينات الرقمية المنشأة بواسطة البرمجيات ثلاثية الأبعاد.

وفي حين كان ينظر في السابق إلى الجراحة التجميلية على أنها الملاذ الأخير للأشخاص غير الراضين عن مظهرهم تجرى الآن أكثر من 28000 عملية في المملكة المتحدة وحدها كل عام، وفقاً للجمعية الأميركية لجراحي التجميل، وأنفق ما يصل إلى 16.5 مليار دولار على الجراحة التجميلية عام 2019 وهو رقم قياسي.

استمرت هذه الصناعة في النمو عاماً بعد عام خلال السنوات القليلة الماضية إلى أن وصلت اليوم إلى حد زيارة العيادات التجميلية وإجراء تغييرات دورية يطلق على بعضها اسم إجراءات روتينية، مثل حقن أبر الحشو والبوتوكس والنحت باستخدام تقنيات خاصة وغير ذلك، فما الأسباب الحقيقية وراء هذا الإقبال غير المسبوق؟ وإلى أي حد تستطيع هذه الجراحات أن تصل بالبشر إلى حال من الرضا عن شكلهم الخارجي؟ وهل تدفع فلاتر التطبيقات المرئية بعض الأشخاص إلى اتباع الإجراءات الجراحية؟.

معايير الجمال الرقمي

كشف بحث مصغر حول ثقافة الجمال الرقمي عن أن المنصات المرئية مثل "إنستغرام" التي تعتمد على توصية خوارزميات الذكاء الاصطناعي تضيق معايير الجمال بوتيرة سريعة، لكنها في الوقت ذاته تساعد المستخدمين على تحقيق تلك المعايير في العالم الرقمي فقط من خلال فلاتر خاصة يطلق عليها اليوم اسم "وجه الإنستغرام" (Instagram face) الذي أصبح قالباً جمالياً معترفاً به ومن صفاته أنه يبدو غامضاً عرقياً ويتميز ببشرة خالية من المسام وعيون كبيرة وشفتين ممتلئتين وأنف صغير أنيق ورموش كرتونية طويلة وعظام ممتلئة وبارزة ومنحنيات محددة بشكل مثالي.

مع الوقت أدى الاعتياد على هذا الوجه المفلتر إلى عدم تقبل الشخص لصوره الرقمية من دون فلتر بسبب النتائج غير المرضية والمتغيرة أيضاً، إذ إن الكاميرات الأمامية للأجهزة الذكية تعطي نتائج مختلفة عن تلك الملتقطة بالكاميرات الخلفية، بل إن هناك اختلافات ملحوظة في النتائج تبعاً لطرز الأجهزة وكذلك المسافة التي نلتقط منها صور "سيلفي" لها تأثير كبير، إذ وجدت دراسة أجريت عام 2018 أن الصورة الملتقطة من مسافة 30 سم بدلاً من 1.5 متر تزيد من حجم الأنف بنحو 30 في المئة.

لكن المشكلة تكمن في أنه على رغم أن التعديلات الرقمية ربما تكون سريعة ومرضية مثل إزالة الذقن المزدوجة بخطوة واحدة، فإن الصورة الناتجة قد لا تحمل قدراً كبيراً من التشابه مع مظهر صاحبها في الحياة الواقعية ومن الممكن أن يؤدي هذا الانفصال عن الواقع إلى ترك الشخص يتخبط في الشعور بعدم الثقة، بالتالي يقوده إلى عيش وضع غير مستقر.

بين الفلاتر والواقع

تظهر أدلة بشكل مستمر على أن الاستخدام المفرط لهذه الفلاتر له آثار ضارة على الصحة النفسية، بخاصة بالنسبة إلى الفتيات الصغيرات، إذ على رغم أحقية الجميع في أن يبدوا بصورة أفضل من أنفسهم، فإن ما تنتجه فلاتر هذه التطبيقات من صور معدلة بشكل مبالغ فيه يمكن أن يكون ضاراً، بخاصة على الأشخاص الذين يعانون الوسواس القهري أو مخاوف واضحة في شأن مظهرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وطالب مؤلف كتاب "هل يشكل تشوه سناب شات مشكلة حقيقية؟" كامليشون رامفول بالتحقيق بشكل موسع ودقيق في التأثير الذي تحدثه التطبيقات والفلاتر في المجموعات الأكثر تأثراً بالنقد بخصوص مظهرها، ودعا إلى مزيد من البحث في شأن إذا ما كان المراهقون يعلمون أن هذه الفلاتر لا تعكس التغييرات التي يحتاجون إليها وهل تجعلهم هذه الفلاتر يشعرون بالخجل والانزعاج من مظهرهم الحالي.

هنا يظهر مصطلح selfitis"" الذي يطلق على رغبة المرء الوسواسية في التقاط صور "سيلفي" لنفسه ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لتعويض ضعف تقدير الذات وسد الفجوة في علاقاته الحميمة، إذ حددت دراسة أجريت عام 2017 مجموعة من الدوافع التي تكمن وراء هذا السلوك منها السعي إلى مكانة اجتماعية والرغبة في التخلص من الأفكار الكئيبة وبالطبع التقاط لحظات لا تنسى. لكن هل تدفع هذه الفلاتر الناس فعلاً إلى اتباع إجراءات جراحية لتغيير مظهرهم على أرض الواقع؟

عصر الصور المفلترة

في استطلاع أجرته الأكاديمية الأميركية للجراحة التجميلية والترميمية للوجه عام 2017 صرح 55 في المئة من الجراحين بأن دافع المرضى الأساسي من اللجوء إلى عمليات التجميل كان الظهور بشكل أفضل في صور "السيلفي"، فبينما انتشرت في الأعوام السابقة فكرة إحضار صور أحد المشاهير إلى عيادات التجميل من أجل الحصول على أنفه أو ذقنه مثلاً، تطور الموضوع إلى استبدال هذه الصور بصور شخصية معدلة باستخدام الفلاتر.

وأفاد جراحو التجميل بأن مثل هذه القصص تنتشر بشكل متزايد في الآونة الأخيرة وغالباً ما يتفاجأ هؤلاء الأشخاص عندما يعلمون أن نتائج الصور الفوتوغرافية المعدلة لا يمكن استنساخها في الحياة الواقعية، فهم يقدمون صوراً لا تشوبها شائبة وخالية من علامات محددة للوجه البشري العادي، إذ إن أول شيء تقوم به هذه الفلاتر هو منحنا بشرة جميلة صافية تماماً، فتزيل خطوط الضحك الممتدة من الأنف إلى الفم، وفي الحقيقة فإن هذا التفصيل المعدل لا يرتبط بالوجه البشري، إذ لا أحد ليست لديه هذه الخطوط التي توجد حتى عند الأطفال، لكن العملاء لا يزالون يطالبون بإزالتها، كما يطلبون شفاهاً أكبر وفكاً مشدوداً، وبعضهم يرغبون حتى في عيون أكبر حجماً وهذا غير ممكن بحسب أطباء التجميل.

والأكيد أن هناك خطراً كبيراً في محاولة الاعتماد على صور بعيدة جداً من الواقع من جهة، ومن قواعد التناسق من جهة أخرى، حتى إن "إنستغرام" نفسه حظر في الفترة الممتدة بين أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وأغسطس (آب) 2020 الفلاتر التي تشجع على الجراحة التجميلية وسط تقارير تفيد بأنها يمكن أن تؤثر سلباً في الطريقة التي يشعر بها المستخدمون تجاه مظهرهم، كما تصاعدت التحذيرات من أن التكنولوجيا ربما تشجع الناس على إجراء مزيد من التغييرات غير الضرورية على مظهرهم، أو حتى إنها يمكن أن تجعلهم يفقدون منظورهم الصحيح لما يبدون عليه حقاً، وبحسب أطباء التجميل يؤدي السعي إلى إجراءات تجميلية غير ضرورية وغير واقعية إلى حدوث بعض الاضطرابات النفسية مثل "تشوه سناب شات" (Snapchat Dysmorphia) و"اضطراب التشوه الجسمي" (BDD).

اضطراب الصورة الذاتية

يعرف "تشوه سناب شات" بأنه اضطراب في الصورة الذاتية أو الذهنية للجسد وقصور في رؤية الفرد لسماته الجسدية بشكل موضوعي ويتجلى عادة على شكل قناعة عند الفرد بأن هناك شيئاً غير مقبول في مظهره بالنسبة إلى الآخرين، فيعاني المريض من الحاجة إلى تعديل الصور الرقمية بشكل مبالغ به وربما يدفع الاضطراب الأشخاص إلى الاتجاه صوب إجراءات تجميلية من أجل التطابق مع صورهم المعدلة التي يعرضونها عبر الإنترنت، وصاغ هذا المصطلح الطبيب البريطاني المعروف بالطب التجميلي والإجراءات غير الجراحية تيجيون إيشو بعد أن أدرك أن أعداداً متزايدة من المرضى يجلبون معهم صورهم الشخصية المعدلة بشكل كبير إلى مواعيد الاستشارة بدلاً من صور المشاهير، كما جرت العادة في ما مضى.

وأشار تقرير نشر عام 2019 في دورية الجمعية الطبية الأميركية (JAMA) إلى أن الصور المفلترة تطمس الخط الفاصل بين الواقع والخيال ويمكن أن تؤدي إلى ما يسمى "اضطراب التشوه الجسمي" (BDD)، وهو عبارة عن خلل نفسي يصبح فيه الشخص مهووساً بعيوب متخيلة في مظهره الجسدي، وبخلاف تشوه "سناب شات" تم تضمين (BDD) في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM)  إصدار 2013 ويعتقد بأن هذا الاضطراب يؤثر في 2.4 في المئة من الناس وهو شائع عند الرجال والنساء مع العلم أن معدل الإصابة يرتفع بوتيرة سريعة جداً.

أخيراً يمكن القول إن هذا الاتجاه يسلط الضوء على سلطة منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط على الطريقة التي نرى بها العالم ولكن حتى على الطريقة التي نرى بها أنفسنا، إذ ما زال المستخدمون يبحثون من خلال منصات وسائل التواصل على أدوات متنوعة لإعادة تشكيل ملامح وجوههم وما زالت تطبيقات تحرير الصور الشائعة وميزاتها التجميلية تحظى بشعبية كبيرة، حتى إنها تأتي مدمجة مع أنظمة معظم الأجهزة الحديثة.

وفي وقت يبدو الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي مرتبكون، يقضون ساعات في التفكير بعيوبهم الجسدية البسيطة أو المتصورة، سواء كانت عيوباً في البشرة أو وزناً زائداً أو ابتسامة ملتوية لدرجة أنهم يرغبون في التحول إلى نسخ مطابقة تماماً لصور "السيلفي" المفلترة، تتصاعد الدعوات إلى الخروج من لعبة المعايير الرقمية هذه والتركيز على السعي إلى أن نكون أفضل نسخة من أنفسنا نحن من دون مقارنتها بالآخرين أو محاولة تعديلها لتشبه نماذج جمالية مسبقة الصنع.

اقرأ المزيد

المزيد من صحة