Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليبيا بين مسارات مغلقة ومأزق يترسخ

تبدو الأيام المقبلة مثيرة للقلق في ضوء مشهد دولي حافل بالتوتر واحتمالات التصعيد

الاتفاقات التي وقعتها حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها الدبيبة والحكومة التركية أثارت ردود فعل غاضبة وواسعة في كثير من الأوساط الليبية (رويترز)

تواصل الحالة الليبية مساراتها المغلقة العبثية وكان آخر فصولها الاتفاقات التي وقعتها حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة والحكومة التركية في شأن تعاقدات وترتيبات نفطية، وما أثارته من ردود فعل غاضبة وواسعة في كثير من الأوساط الليبية.

الفصل الجديد من المأزق الليبي هو امتداد لفصول سابقة وعنوانه تركيا التي أرسلت إلى طرابلس وفداً كبيراً برئاسة وزير خارجيتها مولود تشاوش أوغلو، ويتضمن وزراء الدفاع والطاقة والتجارة، وكذلك مستشار الرئيس التركي إبراهيم كاليا، وتم التوقيع على مذكرة تفاهم في مجالات التنقيب عن الغاز والنفط، وذلك تأسيساً على الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني لفايز السراج في الثاني من يوليو (تموز) 2020، والتي كانت جزءاً من التوترات والتدهور في مسار الأوضاع الليبية، وتكريس مزيد من الاستقطاب بين هذه الحكومة وخصومها، وبين كل من ينتمون لتيارات الإسلام السياسي، ومن يتحالفون معها، ومن يعارضون هذا رفضاً لهذه التيارات أو حفاظاً على استقلال بلادهم من تصرفات هذا التيار الذي لا يكترث بالسيادة الوطنية لبلاده.

مفارقات قانونية

وتكراراً للرفض الداخلي والخارجي نفسه، تصاعدت الانتقادات، وعلى رأسها معارضة مجلس النواب الليبي برئاسة المستشار عقيلة صالح الذي دأب على التصدي لهذا الاتجاه من المسيطرين على الحكومة في طرابلس، وكان يركز معارضته في البداية على غياب الصلاحية القانونية لحكومة الوفاق التي نشأت بمقتضى اتفاق الصخيرات، التي لا تتضمن عقد مثل هذه الاتفاقيات، فضلاً عن ضرورة تصديق البرلمان الليبي عليها، وهو ما لم يحدث، بل رفضها البرلمان بشكل صريح وحاسم. وفي الفصل الجديد الحالي لم يكتف البرلمان بهذه الحجج القانونية القوية، بل أضاف إليها أيضاً بعداً آخر، وهو عدم شرعية ولاية حكومة الدبيبة التي أسقطها المجلس وكلف السيد فتحي باشاغا بتولي الحكومة، وهو ما لم تمكنه منه الميليشيات المتطرفة المسيطرة على العاصمة والمتحالفة مع الدبيبة، وقد أعلن وكيل المجلس السيد علي الصول بياناً مطولاً في رفض أسس هذه المذكرة.

وقد امتد الرفض أيضاً إلى عدد من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، الذي يصر على البقاء في المشهد على الرغم مما يحيط به من مفارقات قانونية ودستورية أيضاً كونه نتاج الصخيرات وقد انتهت ولايته أيضاً، وأصدر 73 عضواً من المجلس بياناً رافضاً لمذكرة التفاهم سابقة الذكر، وبمناسبة الفارق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، أشير مرة أخرى إلى أن الرد هنا بأن صلاحية مجلس النواب قد انتهت أيضاً مردود عليه وفقاً للأعراف القانونية والدستورية في العالم من أن صلاحية المد لعدم انعقاد الانتخابات التشريعية في البلاد منوطة فقط بالمؤسسات النيابية المنتخبة وهو ما يسري على مجلس النواب الليبي.

ومن الطبيعي أن تتسع دائرة الرفض لهذه الاتفاقية في كثير من الأوساط الداخلية الليبية وعلى رأسها السيد فتحي باشاغا الذي كلفه مجلس النواب رئاسة الحكومة ولم يتمكن من ذلك كما سبق.

تحفظات ومعارضة خارجية

ومثلما أثارت الاتفاقية البحرية التي وقعها السراج مع تركيا كثيراً من الرفض الخارجي دولياً وإقليمياً، ما حال دون تصديق الأمم المتحدة عليها، أثارت مذكرة التفاهم الجديدة كثيراً من الرفض، ويأتي على رأسه رفض مصري- يوناني مشترك لما تضمنته الاتفاقية من اعتداء على سيادة قبرص، وتجاهل لقواعد قانون البحار، ومن ثم جاءت الاتصالات المتعددة بين وزيري خارجية البلدين بهذا الصدد. وواصلت أثينا تحركاتها المعارضة للمذكرة فجاءت تصريحات المتحدث باسم الخارجية الألمانية كريستوفر بورغر الذي عبر صراحة عن عدم استقامة هذا مع مبادئ القانون الدولي، وعلق بأن اليونان ليست ملزمة بها ومن ثم ليست لها صفة قانونية، وهو موقف ألماني قوي في هذا الصدد، ومن ناحية أخرى وفي استجابة ألمانية لما هو واضح من تدهور جديد، تجري برلين ترتيباتها لعقد جولة جديدة من محفل برلين الذي كانت جولته الثانية هي التي أنتجت حكومة الدبيبة.

ورداً على كل تعليقات الرفض الداخلية والخارجية جاءت تصريحات الدبيبة التي تكشف عن كثير من التحدي والإصرار بأنه ليس من حق أحد الاعتراض، ووصفت وزيرة خارجيته نجلاء المنقوش المذكرة بأنها تصب في مصلحة البلدين. أضاف وزير الاقتصاد في حكومة الدبيبة المنتهية صلاحيتها أن ما تم توقيعه ليس إلا مذكرة تفاهم وليست اتفاقية، ولتشجيع الاستثمار في مجال الطاقة في ظل الأزمة العالمية وأسوة بما تم مع شركات أميركية ومصرية وأوروبية. أما وزير الخارجية التركي فأكد، بدوره، عزمهم على زيادة التبادل التجاري بين الجانبين والوصول إلى أربعة مليارات دولار.

مأزق يترسخ

ما يحدث في ليبيا تطور طبيعي لسلسلة من التدخلات الخارجية المبنية على أطماع لم تراع حقوق ومصالح الشعب الليبي، وحتى إذا تجاوزنا عن السنوات الأولى بعد إطاحة معمر القذافي، فإن أخطر ما حدث هو اتفاقية الصخيرات التي أسست واقعاً مشوهاً يبدو عصياً الآن على الإصلاح، ولن نعود لتفاصيل ذلك التي ناقشناها هنا في عديد من المقالات، ولكن المعضلة الآن في أبعاد عدة، أولها قوى سياسية داخلية تتمسك بمغانم السلطة وتتفاوت في درجة استهتارها بمصالح بلادها، وفي السابق كانت حكومة الوفاق التي زادت من تعقيد الموقف وتركت إرثاً يستعصي على الإصلاح، وحالياً حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها الدبيبة، اللتان جاءتا بتدخلات دولية غير حكيمة، ولا يعفي هذا كل الأطراف السياسية الأخرى من المسؤولية، وثانيها ميليشيات مسلحة تسيطر على معظم البلاد، بخاصة في الغرب، ولم تبذل أي جهود دولية للتعامل معها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أنه لا يمكن إعفاء أطراف خارجية عديدة وبخاصة غربية من مسؤوليتها في تدهور الموقف الليبي وما وصلت إليه الأمور، ومسؤولية هذه الأطراف تبدأ منذ قيادة فرنسا لـ"الناتو" لإسقاط القذافي، ثم الأخطر بعد ذلك في الإصرار الغربي من خلال هيمنتها على تحركات المبعوثين الأمميين وكذلك بشكل مباشر في أكثر من منعطف دعماً لتيار الإسلام السياسي وإعطائه مساحة تفوق ما حصل عليه في الانتخابات النيابية التي جرت خلال هذه الفترة، بعديد من الحجج، منها أن مشاركتها في الحكم ستحولها إلى الاعتدال وهو ما ثبت عكسه تماماً، ومنها أن هذا نوع من الواقعية السياسية التي تستقيم مع سيطرة الميليشيات المسلحة على الأرض، وكل هذه الحجج الفارغة أوصلت المشهد الليبي إلى المأزق الراهن.

الصراعات الغربية

وإضافة إلى هذه الصراعات الغربية التي تتنازع ليبيا وبخاصة الفرنسية - الإيطالية، إلا أنه تبرز مسؤولية تركيا بشكل خاص كالدولة التي تعمق من المعضلة الليبية، بسبب حرصها على أن تستخدم هذه الورقة، أي ورقة قوى الإسلام السياسي المسيطرة على العاصمة والتي تتآكل مصداقيتها لتعظيم مصالحها الاقتصادية والموازنة ضد ما تعتبره ترتيبات إقليمية مضادة لها، بما أدى إلى تعاظم الاحتياج المتبادل بين الدبيبة وتركيا، بالنسبة للأخيرة لتعويض خسائرها الإقليمية، وبالنسبة للدبيبة للحاجة للداعم الإقليمي الرئيس. وهو مشهد في النهاية سيباعد بين تركيا وأوروبا في ما يتعلق بمصالح الطرفين في ليبيا، كما أن هذه التحركات التركية الأخيرة هي ذاتها التي ستصعد من جديد من أزمة تركيا الإقليمية سواء النزاع المستمر والمزمن مع اليونان أو الذي قد يصبح عصياً على الإصلاح مع مصر.

وفي النهاية، يصب كل هذا في مزيد من ابتعاد ليبيا عن فرص الخروج من هذا المأزق الراهن، بل تبدو الأيام المقبلة مثيرة للقلق في ضوء مشهد دولي حافل بالتوتر واحتمالات التصعيد، بل وتبدو جولة برلين الثالثة المقبلة صعبة قبل أن تبدأ في ظل تساؤلات حول مشاركة موسكو بوزنها الذي لا يمكن إنكاره في المسألة الليبية، وفي ظل عدم إمكانية تصور مخرج من الانسداد الراهن لا يتضمن مغادرة الدبيبة مثلما غادر السراج من قبل.

المزيد من تحلیل