Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المحافظون" جلبوا الدمار لبريطانيا فهل ينقذها "العمال"؟

تبدو سياساتهم ضخمة إلى أن تدقق في تفاصيلها التي تظهر مصممة بعناية كي لا تثير إزعاج أي جهة

ليز تراس و كير ستارمر أثناء الحداد بالملكة إليزابيث الثانية 13 سبتمبر 2022 (غيتي)

لم يشهد التاريخ منظمة تتحرق شوقاً إلى وضع يديها على كأس مسمومة وتجرعها بقدر حزب العمال بزعامة كير ستارمر، فبعد هزيمة قادته الحاليين للتيار اليساري داخل الحزب، وفيما تعم الفوضى التامة صفوف "المحافظين"، بات "العمال" جاهزين للاهتمام بالقضايا السهلة، إصلاح حال الاقتصاد البريطاني.  لذلك ساد شعور التباهي بالنصر خلال مؤتمر حزب العمال الذي جرى الأسبوع الماضي، وهو أمر مفاجئ نظراً إلى المجزرة التامة التي تحل بالاقتصاد الوطني، وفي تغيير لوتيرة حزب العمال المعتادة، سجل المؤتمر إعلانات عدة عن سياسات جديدة، حتى إن بعضها بدا جيداً.

لكن لا يسعني إلا أن أكون مشككاً في قدرة هذه المجموعة الجديدة من السياسات التي طرحها "العمال"، هي بلا أي شك أفضل من عدم طرح أي سياسات، ما خلا التصريح بأننا "لسنا جيريمي كوربين"، على النهوض بالمهمة المطلوبة تماماً. صحيح أن "المحافظين" مسؤولون عن حركة نهب وسرقة كارثية بحق الاقتصاد البريطاني تزداد حدتها يوماً بعد يوم وأوصلت الاقتصاد إلى حافة الانهيار بشكل لا يمكن للطبقة الوسطى والمصارف أن تتجاهله، لكن مجرد وقوفك قرب شخص قصير القامة لا يجعل منك طويل القامة.

إحدى المشكلات البنيوية الطويلة الأمد التي علينا التعامل معها، وقد تكون المشكلة الرئيسة التي تتفرع منها كل مشاكلنا في النهاية، هي أن السياسات المقبولة تكون دائماً متأخرة عن مشكلات العالم الحقيقي التي تسعى إلى حلها سواء في مجال تغير المناخ أو الاقتصاد، ويبدو أننا نعمل دائماً على حل المشكلات التي ظهرت منذ 10 سنوات أو 20 سنة، ففي الوقت الذي لا يقتصر فيه الأمر على تردي كل شيء، بل يتعداه إلى ترد بوتيرة متسارعة، لن يكون هذا كافياً أبداً وسيبقى الأمر سعياً دائماً إلى مواكبة الوضع.

يختلف سؤال "هل سيكون العمال أفضل (في بعض القضايا) من المحافظين؟" بشكل جوهري عن سؤال "هل سيتمكن العمال من طرح سياسات ترتقي إلى مستوى الأزمات المتداخلة، ليس فقط بشكلها الحالي في عام 2022، بل كما سيصبح شكلها عندما يتولى السلطة في عام 2024 أو 2025؟".

فيما تبدو كل هذه الخطابات والشعارات رائعة لو تخيلتم أن أحدهم أدلى بها عام 2010، تظهر بعض إشارات التحذير إلى أن حزب العمال لا يعلم ما الذي يقحم نفسه فيه، على رغم قول ستارمر إن "الإنقاذ سيكون أصعب هذه المرة من أي وقت آخر".

في خطابه قال ستارمر عندما تطرق إلى موضوع الصحة والرعاية الاجتماعية، "أهم ما علينا فعله هو الانتقال إلى سياسة الوقاية أولاً"، لكن بالنسبة إلى الاقتصاد والبيئة وجزء كبير من البنية التحتية، لم تعد الوقاية خياراً متاحاً بعد الآن.

تجاهل "المحافظون" لسنوات علامات الإنذار بوجود عفن في قبو هذا المنزل وانتفاخ في الجص وجرذان داخل الجدران، أما الآن وبعد أن انهار المرحاض ووقع داخل المطبخ، يبدو أن الجميع يتلفتون فجأة حولهم ويقولون "يا إلهي، يبدو أن الوضع مزر، أليس كذلك؟".

لكن بقدر ما يمكن انتقاد ليز تراس وكواسي كوارتينغ على كارثة الموازنة التي طرحاها، فإن الأمر يتعلق أكثر بمحاولتهما [جعل الأمور السيئة أسوأ] نزع الأنابيب من أرضية مرحاض مهترئة أساساً، أكثر منه أنهما قد ورثا منزلاً بحال ممتازة وحطماه بين ليلة وضحاها، فسبب دفعهما إياه إلى الهاوية هو أنه كان أساساً يتأرجح على الحافة.

وكما يمكن أن يقول لكم أي مختص بالبناء، سيكلفكم هذا كثيراً، فالمشكلة الكبيرة التي يسببها عدم اتخاذ إجراءات وقائية والسماح للأمور بالتداعي إلى درجة الخراب التام هي أن إعادة الأمور لنصابها غالباً ما تكون باهظة الثمن وبشكل مؤلم، لكن يبدو أن حزب العمال مقتنع بأنه قادر على إصلاح كل الأمور من دون أن يخيف الأشخاص المستعدين للتعامل مع عناوين من قبيل "الضرائب والإنفاق" و"استعمال البلاد أقصى حدود الاقتراض". 

مرة تلو الأخرى قطع ستارمر وريفز (وزيرة الخزانة في حكومة الظل) وعوداً ضخمة في شأن ما ينويان تقديمه، لكن ستارمر ظل يقول في الوقت نفسه إن حزب العمال "قد وضع إطار عمل يتعلق بالمال السليم، ونحن عازمون على تقليص نسبة الدين في اقتصادنا".

حسناً، لا بأس، أي الخيارين هو المطروح إذاً؟

يمكنك أن تقول لي إنك ستصلح المشكلات البنيوية ويمكنك أن تخبرني بأنك ستقتصد، ولكن إن أخبرتني أنك ستسير في الاتجاهين معاً فلن أصدقك بكل بساطة.

كانت هذه إحدى أكبر المشكلات في خطط جون ماكدونال خلال توليه منصب وزارة المال في حكومة الظل، وهي مؤشر إلى فقدان ثقة كبير في اليسار عامة، وفيما يسعدهم انتقاد مقاربة التقشف التي انتهجها المحافظون، يبدو أنهم يتقبلون الافتراضات العامة التي تستند إليها، ويظهر أن الأزمة مهما بلغت حدتها لا تكفي لتحريرهم من ذلك.   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في إحدى خطاباتها المحيرة بشكل خاص، ولو أنه قد يساعد في توضيح الأمور، قالت وزيرة الخزانة في حكومة الظل رايتشل ريفز "ستعود ضريبة الـ 45 في المئة على الدخل المرتفع وهذا ما سنفعله بالمال: ستضاعف حكومة العمال المقبلة عدد الممرضات المحليات اللواتي يتأهلن للعمل كل عام، وتدرب أكثر من 5 آلاف ممرض متمرس في مجال الصحة العامة، وتستحدث أكثر من 10 آلاف موقع جديد للممرضين والقابلات القانونيات كل عام".

لكن من الناحية الحسابية لو ألغيت تخفيضاً ضريبياً أعلنه أحدهم الأسبوع الماضي، فأنت لا تحصل فعلياً على أي مال إضافي، بل تحافظ على المبلغ نفسه. إن اعتبار العمال هذا المال مالاً جديداً إنما هو أمر مريب على أقل تقدير، وعلى سبيل التوضيح لا أمانع شخصياً أن ينفقوا المال من دون أن ينخرطوا بمهمة عقيمة في محاولة احتساب كل بنس مقدماً.

أنا أميل شخصياً إلى "حل المشكلة" أكثر من "الحرص على الجيب"، كما قال جون مينارد-كيز "اهتم بالبطالة وسوف تهتم الموازنة بنفسها".

لقد سيطر علينا هوس الدين والعجز المالي أكثر من عقد من الزمن منذ الانهيار المالي العالمي، وكانت نتائج ذلك كارثية، وفي نهاية المطاف يجب أن يتحلى أحدهم بالصدق ويقول "انظروا، سيكلفنا هذا الموضوع مبالغ باهظة، لكن فليكن لأننا كلما انتظرنا أكثر تزداد الكلفة أكثر، وليس أمامنا أي خيار أرخص هنا".

لكن حزب العمال لا يتصرف بهذه الطريقة، لذلك يُطرح السؤال التالي: عندما يصلون إلى الحكم في ظل ارتفاع معدلات الفائدة وكلف الاقتراض وسوق سندات يسهل ترويعها كما رأينا هذا الأسبوع، فكم وعداً من هذه الوعود سيطويه النسيان؟

تركزت وعود العمال البيئية الكبيرة على إنشاء صندوق ثروة وطني للاستثمار في الطاقة النظيفة، وفيما يعيد الاسم إلى الذهن فكرة صناديق الثروة السيادية، لا يمكن تطبيق هذا المفهوم في المملكة المتحدة، فالمملكة المتحدة لا تمتلك فوائض مالية تستخدمها دول مثل النروج لتمويل هذه الصناديق، بل سيكون الصندوق في المقابل أصغر بكثير وقائماً على 8 مليارات جنيه من الحكومة المركزية. وعلى سبيل المقارنة تبلغ أصول صندوق النرويج الذي أسسته البلاد من عوائدها النفطية ترليون جنيه استرليني تقريباً، وسوف يستخدم جزء من المبلغ لتمويل شركة الطاقة البريطانية الكبرى الجديدة ذات الملكية العامة، أملاً في أن يكبر عملها في النهاية بفضل عوائد الاستثمار في الطاقة المتجددة. 

 أوضح حزب العمال أن صندوق الثروة الوطني وشركة الطاقة البريطانية الكبرى ليسا "تأميماً"، لكن إن صح كلام ريفز حين قالت إن "الشعب البريطاني سيمتلك نسبة من هذه الثروة وسوف يعود لدافع الضرائب مردود جراء هذا الاستثمار"، فليس من الواضح لماذا لا يستفيد أكثر من الحصول على كل الثروة، لكن إن كان الهدف من الصندوق تولي مشاريع تنطوي على أخطار أعلى ترفضها شركات التمويل الخاصة حالياً، فهنا يصبح شبيهاً بشكل مريب بالمشاريع التي تهدف إلى توزيع الأخطار على العامة وحصر الأرباح بيد جهات خاصة.

تبدو سياسات العمال ضخمة إلى أن تدقق في تفاصيلها التي تبدو كلها مصممة بعناية لكيلا تثير ازعاج أية جهة، فالمهمة المستحيلة التي يحاولون إنجازها هي الحفاظ على ثقة الأشخاص الذين يعملون حالياً على إدارة الأمور بشكلها الحالي ويستفيدون منها، فيما يعدون كل الأخرين بأن الأمور ستتغير.

يمكن الشك في أهمية هذه السياسات في النهاية، إن كان "العمال" خائفاً من إزعاج كثير من الجهات المهمة، وفي الوقت الحالي يبدو أنه من غير المرجح ألا يفوزوا بالانتخابات المقبلة، لذلك ليس أمام مشجعي الفريق الأحمر الكثير ليتذمروا في شأنه، أما بالنسبة إلى باقي الأشخاص مثلنا فنحن الذين تعتمد معيشتنا على مواضيع ملموسة أكثر بقليل من مسألة أي مدير يشرف على تدهورنا البطيء والطاحن، فيساورنا شعور مخيف بأنه يطلب منا التمسك بما يقدم لنا مهما كان، وعدم طرح كثير من الأسئلة الصعبة.

© The Independent

المزيد من آراء