Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الشمس المخادعة" يطلق يد ميخالكوف في تخليه السينمائي عن النظام القديم

تبدو ثلاثيته في خلاصتها الأخيرة وكأنها دفاع عن الديكتاتورية بوصفها درب الخلاص الوحيد في لحظات التأزم

نيكيتا ميخالكوف في دور كوتوف (موقع الفيلم)

لعل المشكلة الرئيسة في التعامل مع السينمائي الروسي نيكيتا ميخالكوف – كونتشالوفسكي بالنسبة إلى زملائه من السينمائيين الروس الآخرين، تكمن في موهبته الكبيرة وفي قدرته الخارقة على ابتكار المواضيع وإدارتها كما على التعامل مع الممثلين الذين دائماً ما يحدث أن يختارهم بعناية ليقوموا بأدوار يصعب على غيره كتابتها عادة.

ولكن لماذا يعتبر هذا الأمر "مشكلة"؟ ليس بداعي الغيرة أو الحسد بل لأن هذا الفنان الكبير يحاول دائماً أن يكون في بلاده "رجل كل العصور". ففي الزمن البريجنيفي كان بريجنيفياً، وأيام غورباتشيف تحول إلى "غلاسنوستياً" يدعو إلى التغيير والمكاشفة في ركاب ذاك الذي كان آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، ثم كان يلتسينياً خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها يلتسين روسيا وقد تخلت عن السفيتة والشيوعية، ثم لما جاء عهد بوتين بات بوتينياً، ولكن دائماً من دون أن يقلل ذلك من مهاراته الفنية. فهو في نهاية الأمر فنان منذ طفولته، ومبدع منذ تربيته على يد أب كان شاعراً ستالينياً كبيراً، وإلى جانب أخ هو أندريه كونتشالوفسكي لن يقل عنه لاحقاً أهمية في فن السينما كمخرج مبدع هو الآخر، لكنه سيتميز عنه بانشقاقه عن الحكم السوفياتي وفراره إلى الغرب حيث صار "هوليوودياً" بامتياز، وهو ما لامه عليه نيكيتا مرة لانشقاقه ومرة لهوليووديته.

تشيخوف... تشيخوف

والحقيقة أن نيكيتا لم يكتف بأن يساير كل نظام يحكم بلاده بتفان وإخلاص في سينماه، بل زاد على ذلك بتبوئه مناصب رسمية في هذا المجال، بالتالي ها هو ذات يوم رئيس اتحاد السينمائيين الروس الذي يعتبر بالتالي من مستشاري بوتين المقربين، وهو الوضع الذي أتاح أخيراً لغرمائه الانتقاص من شأنه. ومهما يكن فإن هذا كله يجعل معظم السينمائيين الروس ينظرون إليه بازدراء وخوف، ثم حين يعرض فيلم جديد له يهرعون لمشاهدته والثناء عليه كما يفعل كثر في العالم. فما العمل ونيكيتا ميخالكوف سينمائي كبير، بل يعتبر في العالم السينمائي مكملاً لعمل تشيخوف في العالم المسرحي، حتى وإن لم يقتبس من مسرح تشيخوف سوى فيلمين فقط هما "خمس مقطوعات غير مكتملة لبيانو آلي" و"العيون السود" المأخوذتين طبعاً عن عملين لا يشغلان مكانة في الصف الأول بين نتاجات صاحب "الخال فانيا" و"طائر النورس" والشقيقات الثلاث" وغيرها من كتابات مسرحية افتتحت حداثة القرن العشرين الاجتماعية، ولكن من يمكنه أن يأبه لهذا وميخاكوف جعل معظم سينماه يتألق تحت مظلة الأفكار والشخصيات التشيخوفية متحدثاً عن ذلك بكل فخر؟.

ثلاثية تمددت

ولعل في مقدورنا للتمثيل على هذا أن نتوجه باهتمامنا هنا، على الأقل إلى الفيلم الأول من الثلاثية التي تحمل عنوان "الشمس المخادعة"، وهو الجزء الذي لم يعلن أنه سيكون بداية ثلاثية حين ظهر عام 1994، أي بعد فترة يسيرة من انفراط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية بأسرها، تلك المنظومة التي طالما دافع عنها نيكيتا ميخالكوف، ثم سرعان ما ألحق بـ"الشمس المخادعة" - الفيلم الذي لم يحمل عنواناً ثانوياً، ما يفترض أنه لم يكن فعلاً مخططاً له أن يكون بداية ثلاثية - جزءين ظهرا في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 تحت عنوانين هما "الشمس المخادعة – الخروج"، و"الشمس المخادعة – القلعة".

لكننا هنا سنكتفي بتناول الفيلم الأول معترفين بأنه تحفة سينمائية وبكونه أتى منطقياً في وقته، مهملين الجزءين التاليين لأنهما لا يضيفان إلى العمل الأصلي جديداً، وتماشياً مع النقد الروسي الذي اعتبرهما مجرد عملين أيديولوجيين أراد المخرج أن يقول فيهما ما لم يكن يجرؤ بعد على قوله قبل ذلك بعشر سنوات، أو ما لم تكن السلطات بحاجة لأن تقوله على أية حال.

كرامة عقيد وزوجته

تعود أحداث "الشمس المخادعة" إذاً إلى عام 1936 عشية محاكمات موسكو الستالينية الكبرى، وهي تقع خلال يوم وبعض يوم، على طريقة مسرحيات تشيخوف على أية حال، في داشا بالقرب من موسكو. وفي ذلك الكوخ الذي يعتبر عادة كوخ ترفيه تملكه العائلات الموسرة من أهل النظام، ويستمتع بوقته الضابط السوفياتي الكبير المرموق سيرغي بتروفيتش كوتوف (يقوم بالدور نيكيتا نفسه)، الذي لا يكف عن إبداء فرحه باستمتاعه بـ"هذا اليوم الصيفي الجميل" مع زوجته الشابة ماروسيا وابنتهما الصغيرة ناديا (التي تقوم بدورها ابنة نيكيتا في الحياة الحقيقية).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكوتوف عقيد سابق في الجيش الأحمر، ويعتبر بطل الشعب والشيوعي الذي لا يشق له غبار. إنه متقاعد الآن، لكن مكانته في رحاب السلطة الستالينية لا تزال على حالها. وهكذا، مثلاً، عندما يغامر جنود بالدخول بدباباتهم إلى الحقول المجاورة متسببين في إزعاجه وإزعاج جيرانه، لم يكن عليه إلا أن يتصل بضابط صديق ليجعلهم يرجعون إلى الوراء ويتجنبون الاصطدام بالفلاحين.

إن كوتوف يتواصل اليوم مع معارف له كما مع أساتذته السابقين وفنانين من أصول بورجوازية يعانون النظام الستاليني القائم ولم يعد لديهم الأمل نفسه في مستقبل الاشتراكية. ومع ذلك، فإن عقيدنا يتماشى جيداً مع كيريك، المولع جداً بالشرب والغرابة، ومع فسيفولد، المثقف المحبط، بل حتى مع موخوفا، الخادم. وفجأة يصل زائر غير متوقع هو ميتيا، الذي كان قد غاب عن البصر منذ عشر سنوات.

في السابق، كان والد ماروسيا قد تبنى ميتيا وأنشأه كابنه وعلمه الموسيقى. وكبر ميتيا ليغرم بابنة متبنيه، لكن رحيله المتسرع إلى فرنسا وضع حداً لحكاية الحب. بعد محاولتها الانتحار تزوجت ماروسيا من سيرغي، الذي سرعان ما تعلمت أن تقدره وتتعايش معه.

القبض على كوتوف

واليوم مع مرور الساعات على وصول ميتيا، ها هو شيء من القلق يساور العقيد على الرغم من أن الظواهر تفيد بأن كل شيء على ما يرام. ومع ذلك، عند حافة النهر حيث يستحم الجميع بل حتى يلعبون بود مع دمية منتفخة تمثل ستالين باللون الأحمر، ها هو سيرغي يخشى أن تقع زوجته تحت سحر ميتيا مرة أخرى. أما بالنسبة لهذا الأخير فها هو يلمح إلى أن سيرغي كان هو من نفاه إلى الخارج للاستئثار بماروسيا لنفسه، لكن الواقع أن أنشطة ميتيا المناهضة للثورة كانت هي التي أجبرته على السفر، لكنه اليوم انضم إلى النظام، وعاد إلى البلاد كعضو في الشرطة السياسية الستالينية. وها أن مهمته الأولى هي إلقاء القبض على منافسه السابق، المشتبه في أنه يتسم في ممارساته بكثير من المثالية.

 

وهنا إذ يبدو العقيد مقتنعاً بأنه لا يمكن المساس به وبقدرته على الاعتماد على أصدقائه في المناصب المرتفعة، يوافق على نقله إلى موسكو لتسوية سوء التفاهم هذا في أسرع وقت ممكن، لكن في الطريق، ها هو عنف الشرطة التي تقوده بعيداً وقتل ميتيا لسائق شاحنة فضولي للغاية يفهماه أن حقبة جديدة قد بدأت، بالتالي ستنتهي الحكاية هنا بأن يتم إطلاق النار على العقيد كوتوف وسجن زوجته. أما ميتيا، الذي سيكون عاجزاً عن تحمل عار ما أسهم فيه فسوف ينتحر.

خاتمة منطقية وامتدادات مقلقة

تلكم هي الحكاية وهذه هي خاتمتها هنا في هذا الفيلم المتكامل الذي تساءل كثر على الرغم من إعجابهم ببعده الفني السينمائي: لماذا أجل ميخالكوف تحقيقه إلى ما بعد زوال النظام السوفياتي الذي لم يكن من شأنه أن يعترض عليه على أية حال؟ لكن الأسئلة الأكثر تعقيداً ستكون لاحقاً، حين يخرج فيلمه البديع ثلاثية وقد بات بوتينياً شرساً وينظر إليه على الرغم من ذلك بكونه واحداً من كبار الأحياء بين الجيل الأخير من السينمائيين السوفيات. فلماذا تراه عاد إلى الحكاية نفسها وبشكل دفعه إلى الانطلاق من تبديلات جذرية للنهاية التي كانت لـ"الشمس المخادعة"؟ لماذا أعاد كوتوف إلى الحياة وجعل "انتحار ميتيا" لا يسفر عن موت هذا الأخير، ثم جمع العائلة خلال الحرب الوطنية الكبرى (وهو الاسم الروسي الرسمي للحرب العالمية الثانية) لتفتدي الوطن، ولكن – وربما يكمن هنا بيت القصيد - ليعري السياسات الحزبية في وقت أعاد فيه شيئاً من الاعتبار لديكتاتورية ستالين لتبدو الثلاثية في خلاصتها الأخيرة وكأنها دفاع عن الديكتاتورية الفردية بوصفها درب الخلاص الوحيد في لحظات التأزم الكبرى على الضد من السياسات الحزبية. فهل لنا الوصول إلى هذا الاستنتاج في نهاية الأمر كما فعل كثر من النقاد الروس؟.

المزيد من ثقافة