Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يفضي "الإعلان الدستوري" الجديد إلى حل الأزمة السودانية؟

 تحقيق الإجماع السياسي يتطلب تعاون  المدنيين والعسكر

تأخر المجلس الانتقالي عن تشكيل "لجنة قومية"  تشرف عليها "المحكمة الدستورية" و"مفوضية الانتخابات" وغيرها من المؤسسات (اندبندنت عربية - حسن حامد)

"العسكر يحمي الدستور والدستور يحمي العسكر" ربما تكون هذه المقولة معبرة عما يحدث في السودان من جدل سياسي وتشريعي، وهو جدل ظل ملازماً للسودان في فتراته الانتقالية منذ الاستقلال. 

وربما أيضاً يكون السودان قد تأثر بهذه المقولة من الدولة العثمانية، على الرغم من أنها فارقت حكم السودان قبل أول انقلاب عسكري فيها عام 1908، وهو الانقلاب الذي أعلن الدستور العثماني، إذ إن كثيراً من إرث الدولة العثمانية السياسي ظل مؤثراً في مستعمراتها السابقة حتى بعد الاستعمار البريطاني ومن ثم زواله وقيام الدولة الوطنية. 
كان الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1989 بقيادة عمر البشير، قد أجلس العسكر على سدة الحكم، بعد أن أزال حكومة الصادق المهدي وهي فترة "الديمقراطية الثالثة من 1986 إلى 1989" القصيرة شأن كل الفترات الديمقراطية في السودان، إلى أن دخلت البلد في أتون حرب دارفور عام 2003، ومن ثم انفصال جنوب السودان عام 2011 الذي مهد له "اتفاق السلام الشامل بنيفاشا" عام 2005. 
تميزت تلك الفترة بصخب سياسي وعسكري وتشريعي استمر إلى صياغة "الدستور الانتقالي لجمهورية السودان 2005"، وهو ثالث دستور للسودان بعد دستور 1973 ودستور 1998. أما دستور 1985 الانتقالي فقد نهل من دستور عام 1956 المعدل، وأنجزته لجنة من "التجمع الوطني الديمقراطي" و"التجمع النقابي" وممثلين للقضاء العسكري، وأجيز في اجتماع مشترك للمجلس العسكري ومجلس الوزراء.
وملامح الدساتير الانتقالية السودانية العامة تتجلى في أنه عادة ما تسبقها اتفاقات ومواثيق تشكل مبادئها، ولكن يلاحظ عدم تلبيتها لرغبات الشعب والقوى السياسية وطموحاتها مما يؤدى إلى اضطراب الفترات الانتقالية.
وفي خضم هذه الموجة الدستورية تظل حقيقة أن دستور عام 1956 الموقت، قد ظل هو المرجعية القانونية لدستوري 1964 و1985، وعدم صياغة دستور يلبي احتياجات الفترات الزمنية المتباعدة أسهم في عدم حدوث التحول الديمقراطي بسبب فشل تلك الدساتير.
أزمة دستور
 مر ما يقارب العام على الإجراءات التي فرضها الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وجمدت بنود الشراكة مع "قوى إعلان الحرية والتغيير"، بتقويضها أيضاً الوثيقة الدستورية الانتقالية التي توافق عليها المجلس المركزي لـ"إعلان قوى الحرية والتغيير" والمجلس العسكري، في 17 أغسطس (آب) 2019، التي نصت على مشاركة المدنيين والعسكريين السلطة في فترة انتقالية تتكون من 39 شهراً.
في أزمة الدستور الأخيرة، كشفت الفترة الماضية بشكل واضح عن تجاوز القوى المدنية مغبة الدخول في جدل مع العسكر، ونشرت بعد تداول لم يدم طويلاً مشروع إعلان دستوري جديد بديل أعلنته "اللجنة التسييرية للمحامين السودانيين". 
من شأن الدستور الجديد أن يلغي الوثيقة الدستورية الانتقالية لعام 2019، تعديل 2020 وهو تاريخ توقيع الحكومة الانتقالية اتفاق جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر، ودمجت بنود الاتفاق في الوثيقة الدستورية، كما ألغت كل القرارات التي صدرت بعد إجراءات 25 أكتوبر، ودعت إلى مراجعة كل الاتفاقات الإقليمية والدولية التي أبرمت منذ ذلك الوقت.
طرح مشروع الدستور الجديد مواد تنص على "طبيعة الدولة وسيادة وحكم القانون، ووثيقة الحقوق والحريات الأساسية ومهمات الفترة الانتقالية، وهياكل واختصاصات السلطة الانتقالية من مجالس للسيادة والوزراء والتشريع والأمن والدفاع، والفصل بين السلطات والمفوضيات المستقلة، ونظام الحكم الفيدرالي".
ويعد أكثر البنود وضوحاً وانقسمت القوى السياسية إزاءه بين مؤيدين ورافضين هو "أن يكون مجلس السيادة مدنياً، ويكون رأس الدولة ورمز سيادتها ووحدتها والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ويراعى فيه التمثيل الإقليمي".
تفاعلات المشروع
في المقابل، كشفت الحملة السياسية الأجواء المحيطة بإعلان مشروع الدستور الجديد وفيها كثير من ملامح تداخلت في تصنيعها وتركيبها رؤى متنافرة توزعت بين القوى السياسية والعسكريين، نتج منها جملة تفاعلات أهمها، أولاً، تغير الدور السياسي بتغير الظرف التاريخي، وإذا كان نظام البشير قد نجح في احتواء النخب السياسية المعارضة في صفوفهم بعد إقصائهم في بداية الانقلاب، فإن القوى الثورية في حكومة الفترة الانتقالية وبعد إجراءات 25 أكتوبر تظاهرت بأنها عصية على الاحتواء، ولكنها عادت بعد مواجهات كثيرة راح ضحيتها أبرياء كثر، مؤيدة لما طرحه المجلس العسكري وتوافقت معه بعض القوى السياسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثانياً، رأت قوى سياسية أن المراحل التي مرت بها المسودة الجديدة لمشروع الدستور الانتقالي من مشاورات ومشاركات واسعة، استفادت من أخطاء الوثيقة الدستورية 2019، وأدت إلى تعجيل خروجها للجمهور بتلك الكيفية. وهذا اعتراف بأن الوثيقة السابقة شابتها ثقوب كثيرة، ومررت على عجل، ولولا إجراءات البرهان بحلها لما كان هناك اعتبار لنواقصها.

 
 
ثالثاً، ينطلق موقف الرافضين للمسودة وأبرزهم "قوى إعلان الحرية والتغيير ــ[مجموعة التوافق الوطني]"، من أن مشروع الدستور الانتقالي الذي طرحته لجنة نقابة المحامين هو صنيعة "قوى إعلان الحرية والتغيير [مجموعة المجلس المركزي]”، ويظهر السبب الحقيقي لرفض المشروع من وراء تعلل هذا التيار بحاجة الدستور إلى توافق سياسي ومرجعية قانونية، بأنه يؤسس لـ"شمولية مدنية". 
وفي حقيقة الأمر إن تحقيق الإجماع السياسي يتطلب تعاون المدنيين والعسكر، ولكن مشروع الدستور جعل هذا المحور مموهاً، بينما وصفه حزب "المؤتمر الشعبي" و"الحزب الشيوعي" في حال اتفاق غريبة لازمت الفترة الانتقالية بين نقيضين أيديولوجيين على السواء بأنه "دستور السفارات".
اختلالات الزمن
لم يحصل العسكر في تاريخ السودان على أي سند دستوري، وإنما كانوا يطوعون الدستور لخدمة الانقلابات. تتميز هذه الفترة الانتقالية عن سابقاتها بأنها تحدث خلالها إعادة تشكيل الدولة في مجتمع عالي الثورية، وهي حال خلقتها ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكان لها أن تنتهي إلى وضع تأسيس الدولة المدنية والسودان على أعتاب عام 2023 موعد نهاية الفترة الانتقالية في صيغتها الأولى. 
وظلت اختلالات الزمن ترافق اتفاقات ومشاريع السنوات الأربع الماضية منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية، وإلى مشروع الدستور الانتقالي الجديد الذي تفادى تحديد فترة زمنية للمرحلة الانتقالية المقترحة، ثم تبعها تمويه موعد إقامة الانتخابات المرتبطة بنهاية هذه الفترة غير المعلومة. 
الآن تقف الحالة السياسية والفراغ الدستوري عقبة في مسيرة التحول الديمقراطي، ولكن من جانب آخر، سمحت فترة ما بعد الثورة على الرغم من فوضويتها للأحزاب السياسية بالتخبط في الممارسة السياسية وكأنها بدأت من الصفر، بعد ممارسات مشوهة في عهد البشير وكثير منها خصوصاً الأحزاب والتيارات الإسلامية دخلت في مراجعات مستفيدة من حالة الخمود الدستوري، ومع ذلك، لا تملك الأحزاب السياسية القوة اللازمة لكبح جماح المكون العسكري دون تحديد وضع الجيش وفقاً للدستور.
سيولة سياسية
بعد الجدل الكثيف حول محتوى مشروع الدستور، لم تنتبه القوى السياسية إلا أخيراً إلى أن اللجنة التي قدمت المقترح غير متوافق عليها باعتبارها لجنة محلولة وفق إجراءات 25 أكتوبر، وهذا يكشف الثغرة التي خلقتها حالة السيولة السياسية، وتأخر المجلس الانتقالي عن تشكيل "لجنة قومية" متوافق عليها من أغلب القوى السياسية. 
 
 
وما كان مطروحاً هو أن تشرف على اللجنة المقترحة "المحكمة الدستورية" و"مفوضية الانتخابات" وغيرها من المؤسسات، وبدلاً من ذلك ظهرت مبادرة الشيخ الطيب الجد ود بدر رئيس نداء أهل السودان للوفاق الوطني المعروفة بـ "مبادرة الطيب الجد"، التي اتهمت بأنه يقف وراءها النظام السابق والعسكريون. 
وتبدو الصورة واضحة الآن بأن مشروع الدستور الجديد ما هو إلا رد فعل من القوى السياسية المقابلة، وتعبر عن تنافس سياسي بدلاً من أن يكون تنافساً دستورياً نابعاً من إلمام بالتشريعات والقانون الدستوري في السودان.
تظهر الحاجة الماسة إلى وجود سلطة تشريعية تصوغ القوانين، إذ إن الدساتير في الفترات الانتقالية السودانية كلها متشابهة ولم تأت بجديد، ولم تستطع صون نظام الحكم وتحصينه ضد الانقلابات العسكرية التي تحدث بعد فترة ديمقراطية قصيرة، ولكن المطلوب هو حدوث إجماع حول دستور معد جيداً يسهم في إخراج السودان من أزماته.
سيناريو متوقع
لم تلغ مسودة المشروع الدستوري الجديد إجراءات 25 أكتوبر وحدها، وإنما ألغت أيضاً  الوثيقة الدستورية 2019. وعند التمعن في هذا الإلغاء الواسع، نجد أنه مركب لضرورات سياسية لأن إجراءات 25 أكتوبر هي من ألغت الوثيقة الدستورية، وعليه لا يمكن إلغاء شيء غير موجود سلفاً، وهذا ما جعل السودان منذ ذلك التاريخ يعيش في حالة فراغ دستوري، وتعطلت كل مقترحات الحلول والمبادرات السياسية بسبب عدم وجود تشريعات. 
كما أن الوثيقة الدستورية كان طابعها العام موقتاً ومحصوراً في الفترة الانتقالية، وهو دستور تمهيدي يمكن أن يغشاه ما يغشى كل الدساتير الموقتة من جرح وتعديل، ولكن لإقناع الرأي العام بأن هذه المسودة قائمة على أساس دستور سابق حقيقي تم نسفه، كان لا بد من إحيائه وتثبيت هذه المعلومة ثم يكون إلغاؤه بيد اللجنة لا بيد العسكر.
 ويمكن توقع سيناريو قريب من التحقق هو أن تعتمد السلطة العسكرية قانوناً ملزماً يوضح استقلاليتها وعملها بآليات مختلفة عن المقترحات السابقة، سواء أكانت "مبادرة الطيب الجد" أو "لجنة المحامين التسييرية". 
وهذه الاستقلالية ستعتقها من الخضوع لرقابة المكون المدني وبقية القوى السياسية التي تحاول تحجيم دورها، إذ أشارت المسودة إلى إلغاء الاتفاقات الدولية والإقليمية التي تمت في الفترة الماضية باعتبارها اتفاقات مع العسكر تحكم قبضتهم على السياسة الداخلية والخارجية، وعوضاً عن ذلك الاكتفاء بدور السلطة العسكرية في دورها المنوط بها وهي حماية الأمن، إذ عبرت صراحة عن إبعاد المؤسسة العسكرية من العمل السياسي والحكم.
مركزية الجيش
وأخيراً، أبرزت مسودة مشروع القانون الانتقالي بشكل واضح دمج القوات العسكرية في جيش مهني واحد تتركز مهمته في الدفاع عن سيادة وحماية حدود البلاد وحماية الدستور الانتقالي وتنفيذ سياسات الدولة، كما حملت هذه القوات مهمة تنفيذ السياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري على أن لا تنفرد بها المؤسسة العسكرية وتكون وفق خطة متفق عليها من جميع الأطراف. 
ومن ثم نصت على تبعية جهازي الشرطة والأمن إلى السلطة التنفيذية على أن يكون رئيس الوزراء هو القائد الأعلى لها. بهذا التركيز الكبير من لجنة لم يفوضها الجيش على مهماته ربما يستشعر العسكر مركزية الجيش الداخلية، التي تمثلت في احتكار السلطة العسكرية والسياسية في فترة ما بعد 25 أكتوبر، وقد يكون مؤذناً بظهور جسم أمني سياسي فريد من نوعه، أسهم في تشكيله أداء القوى السياسية بتطرفها إما في الولاء للعسكر أو تطرفها في خصومتهم، ما يشير إلى احتمال سيطرتها على الساحة السياسية في الفترة المقبلة.
اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل