Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أعادت السعودية تقديم نفسها؟

قصة بدأها الأمير محمد بن سلمان بالرؤية والإصلاحات الاجتماعية قبل أن تثير فصولها الجدل وتستدعي الشد والجذب مع الغرب

قاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حركة تجديد واسعة غيرت صورة البلاد خلال السنوات الماضية (رويترز)

"لم تغير اسمها ولا نظام الحكم والدستور فيها إلا أن ضخامة التغيرات التي شهدتها في بضع سنين أصبحت عصية على فهم كثيرين ما بين مصدق ومكذب، فهل حقاً تلك هي السعودية أم أنها مجرد رهانات ستفشل؟".

 ترددت تلك الأقوال وسواها في كل الأقطار تقريباً تشكيكاً واندهاشاً ليس على المستويات الاجتماعية وحدها، ولكن أيضاً السياسية والاقتصادية التي يفترض أن تكون أسرع رصداً للتحركات عبر السفراء والمبعوثين، إذ قال عميد السلك الدبلوماسي في السعودية سفير جيبوتي ضياء بامخرمة في حديث مع "اندبندنت عربية"، إن استيعاب الديناميكية السياسية التي تم ضخها في مفاصل الدولة في مرحلتها الحالية استغرق وقتاً لدى كثير من أعضاء السلك الدبلوماسي حتى المقيمين في الرياض فضلاً عن مراكز القرار في بلدانهم.

على رغم ذلك فإن الأصل في السفير بحسب قوله أن يكون "مثقفاً ويعرف حدوده ويأتي وهو يعرف البديهيات والخطوط الحمراء، خصوصاً وأن السفارة في الرياض منصب سياسي لا يسند إلا للشخصيات المهمة ذات الخبرة الكبيرة نتيجة ثقل البلاد ووزنها الإقليمي والعالمي".

وفي هذا السياق نفسه أقرت الحكومة الألمانية، أخيراً، بأنها لم تكن على دراية كافية بالنهج الذي تسلكه السعودية في سياسة الملفات الإقليمية مثل التهديدات الإيرانية وميليشيات الحوثي.

وقالت نائبة ألمانية في البرلمان الأوروبي هانا نويمان لـ"الشرق الأوسط" اللندنية إن "بعض الاتهامات الموجهة إلينا من قبل الدول الخليجية علينا أن نقبل بها فنحن لم نفهم التهديد الإيراني في المنطقة" وهي جملة قالت الصحيفة، إنها تكررت على لسان نواب آخرين شاركوا في اللقاء، منهم النائب هنينغ شبيك عن الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض الذي تنتمي إليه المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، الذي أكد أن التعاون الأمني في المستقبل مع السعودية "يجب أن يشهد نقطة تحول".

أتى ذلك في خضم مراجعة ألمانية لسلوكها نحو السعودية التي تستقبل المستشار أولاف شولتز، السبت المقبل، وهو الذي قالت وكالة الأنباء الألمانية، إنه مهتم بتصحيح مسار العلاقة بين بلاده والرياض و"يعلق أهمية كبيرة على نتائج محادثاته المرتقبة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وعدد من أعضاء الحكومة السعودية، في محادثات ستركز على أهمية تصحيح مسار العلاقات بين البلدين التي اعتراها بعض الفتور نتيجة اختلاف مواقف البلدين تجاه عدد من القضايا ومن بينها الحرب في اليمن وحقوق الإنسان".

لم تكن ألمانيا إلا مثالاً ضمن أمثلة عديدة إذ تأزمت علاقات البلدين إثر تقييم اعتبرته الرياض "خاطئاً وغير مبرر" دفع برلين إلى انتقاد سياساتها في مثل لبنان واليمن ليأتي الرد بطرد السفير الألماني قبل أن يتراجع التوتر شيئاً فشيئاً عبر محطات استخدمت فيها برلين ورقة حظر بيع السلاح لحلفائها، فكان الرد السعودي علنياً على غير العادة وقاسياً "لا نحتاج إلى سلاحكم".

رسائل الطرد و"ماذا فعلت لي أخيراً"؟

على المستوى السياسي كانت الشخصية السعودية في ما يوثق عنها مؤرخوها حاسمة في مواقف السيادة في مراحل عدة من تاريخها حتى مع أميركا القوة العظمى في العالم ذات المواقف التاريخية مع السعودية في السراء والضراء إلا أن عهد السعودية الجديد اتسم بحزم أكثر وضوحاً في الفصل بين ما يمكن التغاضي عنه وما لا يقبل المزايدة مثل أمن الدولة ومصالحها الاستراتيجية.

ويعلق الكاتب السعودي وهو الدبلوماسي عبدالمحسن المارك على طرد أحد السفراء الأجانب في الحقبة الحالية بعد تصريحات غير ودية نحو بلاده بأن هذا النوع من الموقف الدبلوماسية الحازمة ليس جديداً، لكنه يعتبره "رسالة تجدد وتؤكد فيها السعودية حزمها وحرصها على سيادتها واهتمامها بعدم قبول التدخل في شؤونها الداخلية من قبل أي دولة كانت، انطلاقاً من مبادئها وقيمها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى".

وإذا كانت "القبضة السعودية" مشهورة في تحية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قادته مصالح بلاده إلى جدة بعد أن تعهد جعل السعودية "منبوذة" أكثر من مرة، فإن نهج الرياض إياه في إعادة رسم خيوط العلاقة مع الحلفاء والأصدقاء لم يتوقف على واشنطن، ولكن تجاوزها إلى دولة ينظر إليها في وقت مضى على أنها والسعودية صنوان، وهي باكستان، فكان الموقف من إسلام آباد عندما حاولت في عهد عمران خان اللعب ضد مصالح الرياض صريحاً هو الآخر، في قصة "قمة كوالالمبور" 2019 الشهيرة.

 

أفضت تلك الخطوة ليس فقط إلى الإطاحة في ما بعد بخان، ولكن إلى ملاحظة مراكز دراسات أجنبية أن نهجاً أصبح في السعودية على باكستان ألا تتوقع فيه الركوب المجاني السابق في علاقاتها مع الرياض، فيشير مركز "ميدلست" إلى أن "التاريخ لا يهم كثيراً في العلاقات الثنائية في عالم اليوم"، مؤكداً في أحد تقاريره آنذاك أن الرياض في عهد محمد بن سلمان تميل إلى التساؤل أكثر "ماذا فعلت لي أخيراً" كناية عن عدم التنازل على المصالح.

لا يعني ذلك أن الدولة تنصرف إلى المواجهة والحدة مع الحلفاء، في تقدير المحللين، فولي العهد نفسه شرح سياسته في حواره الصحافي مع "الشرق الأوسط" بأن موقع بلاده السياسي والجغرافي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي يجعلان حكومته تترفع في كثير من الأحيان وتتجاوز نحو "خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما وتحقيق أمن واستقرار وطننا ورخاء شعبنا وليس الدخول في مناكفات تضر مصالح وطننا والعالم الإسلامي، ونحن ماضون في تحقيق هذه الأهداف من دون التفات لما يصدر من البعض".

إلا أن دولة مثل إيران على رغم كونها عضواً في منظمة التعاون الإسلامي ومقره السعودية فإن استثمارها في تهديد أمن المنطقة العربية والرياض بشكل خاص جعل مواجهتها في مرحلة ما سياسياً أمراً لا مناص منه حتى أمكن إيجاد مقاربة معها سمحت بمحادثات معها بوساطة بغداد لم تشهد تقدماً ملموساً بسرعة، لكنها آتت أكلها في نهاية المطاف بعد ضغط وتصعيد.

المفاجأة في التحول الاجتماعي

لم يكن الجانب السياسي وحده الذي لفت في التعاطي السياسي الجديد مع الملفات، فالبداية كانت أولاً بإطلاق ما بات يعرف بـ"رؤية السعودية 2030" بمشاريعها الاقتصادية والاجتماعية، إذ يقول الباحث أليكس فاتانكا من مركز "ميدلست إنستيوت" للدراسات في زيارة هي الأولى له إلى الرياض قبل أشهر، إنه سمع كثيراً عن إصلاحات السعودية التي أطلقها ولي عهدها إلا أنه لم يكن يتخيل أن "دولة الهيئة"، هكذا قال، ستصبح بهكذا انفتاحاً وتنوعاً وسلاسة في التغيير.

أضاف "صحيح سمعنا أشياء كثيرة غير إيجابية مثل مقتل الصحافي خاشقجي وسجن بعض رجال الأعمال في الريتز إلا أنني الآن في المركز المالي، بعد جولة في الرياض، أصبحت مذهولاً فبصرف النظر عن أرقام النمو والحراك الاقتصادي أنا منبهر بالتغير الاجتماعي، شيء غير الذي نسمع عنه إطلاقاً".

يلتفت إليه شخص آخر سعودي على الطاولة قائلاً "عليك أن تنظر كيف يتقبل الشبان هذا التغيير ويتفاعلون معه".

وفي حديث مع مراسل أجنبي كان يعمل في "بلومبيرغ" جرى النقاش حول الطريقة التي يرى أن السعودية قدمت نفسها بها للعالم وكانت مثار اهتمام فيجيب "التغير الاجتماعي، فالنساء والشبان في السعودية والحياة العامة والفعاليات أصبحت مليئة بالحياة على نحو لن يصدقه شخص كان في السعودية قبل سنوات. انفجار كبير حدث".

 

ولدى جولتنا معاً في حي السفارات جعل يعلق على المشاهد والأحاديث الجانبية ويستذكر مشاهداته السابقة في أحياء الرياض ومولاتها، فيقول إنه متفاجئ بأن "السعودية على رغم الانفتاح لم تفقد شخصيتها، فالناس ودودون ومحافظون حتى أوبر أشعر كأن سائقيها يستشعرون أني ضيف عليهم وليس مجرد راكب عابر"، وراح يسرد بعض التفاصيل.

لكن المراسل الأجنبي الذي أجرى أكثر من مقابلة مع ولي العهد ظل بحسب قوله غير متأكد مما "إذا كانت الأرقام الاقتصادية ستحقق النجاح نفسه والسلاسة التي تحققت في الجانب الاجتماعي" ليستدرك على نفسه باندهاش "سأخبرك بشيء لم أستطع كتابته قط في تقاريري، إنني لدى حوار الوكالة مع الأمير جلست معه في حوار تمهيدي قبل أن نقوم بالتسجيل فيحدثني عن الميزانيات والأرقام كأنه وزير المالية أو رئيس البنك المركزي بمنطق وفلسفة نبدأ نشك فيهما لكن ما يلبث أن يقنعنا"!

أما الخلاصة التي خرج بها فهي أن "الأمير يقود البلاد نحو تحول يصعب استيعابه لعمقه وضخامته لكننا يمكن أن نراه"، ثم قام ببعض المقارنات بدول أخرى عربية وأجنبية أنهاها بالقول "ستصبح مزحة أمام الرياض المقبلة".

ويؤكد ولي العهد بأن الدولة قررت توظيف "مكامن قوتها" من أجل "دولة قوية مزدهرة تتسع للجميع، دستورها الإسلام ومنهجها الوسطية، تتقبل الآخر" وفقاً لتقديمه كتاب "الرؤية".

وطال التحول الذي شهدته البلاد مفاصل فاجأت حتى السكان ولم تكن تخطر لهم على بال فضلاً عن شعوب أخرى في العالم ما كانت تعرف عن السعودية أكثر مما يضج به إعلام اليسار الغربي والإسلاموي الذي اعتاد شيطنة الرياض منذ سنين وعقود تحت غطاء ما يسمونه الرجعية أو الإرهاب أو حتى انتهاكات حقوق الإنسان أو قمع الحريات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن التحديات التي تعتبر المؤشرات الدولية التغلب عليها مقياساً كاشفاً، عادت السعودية تسجل فيها قفزات لافتة في مثل تقرير صندوق النقد الدولي الأخير الذي أفاد أن الرياض سجلت أعلى نمو في العالم  2022 بواقع 7.6 في المئة بينما كانت تقديرات البنك المركزي السعودية أن "ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 11.8 في المئة على أساس سنوي" خلال هذا العام على رغم تداعيات فيروس "كورونا" وحرب أوكرانيا.

سيارة "السعودية المتآكلة"!

وكان ولي العهد قال في أول حوار له مع الزميل تركي الدخيل الذي أصبح سفيراً لبلاده لدى الإمارات إن "طموحنا سيبتلع كل المشكلات من بطالة أو إسكان وغيرهما".

 وروى الكاتب عبدالرحمن الراشد كيف أنه كان بين المشككين في تحول "حلم الرؤية" إلى واقع عندما استمع في إحدى الورش التي سبقت إطلاق المشروع بعض تفاصيله فوجه إلى الأمير سؤاله قائلاً "ما طرحته يشبه الحلم، وفي الوقت نفسه واقعي وقابل للتحقيق، لكن عندي إشكالية واحدة وكبيرة، فأنت يا سمو الأمير شاب تتميز بالحيوية، وعندك الطاقة وتملك وضوح الرؤية... إلا أنك مثل من يقود سيارة قديمة عجلاتها وماكينتها متهرئة... بصراحة، بمثل هذه السيارة، أقول لك: لن تصل في الوقت والمكان اللذين تريدهما، هذه حكومة إدارية قديمة عمرها أكثر من 50 عاماً، مترهلة ومتآكلة".

بعد ذلك رد الأمير بابتسام قائلاً "هذه السيارة لا بد من أن تسير، وإن لم تسر فسأغير السيارة بأخرى"، وهذا ما كان فما هي إلا فترة حتى قابل الكاتب الأمير فكان هو الذي سأل هذه المرة "رأيك... سارت السيارة؟" فكان الجواب الذي يعرفه الجميع بعد غربلة الجهاز الحكومي "نعم وبسرعة مدهشة جداً"، ثم أضاف ولي العهد في ذلك الوقت من 2017 ليزيد السائل دهشة إلى دهشته، فقال "لم نبدأ بعد"، فينتهي الكاتب المخضرم إلى تعجب كالذي بدأنا به "من يتخيل هذه هي السعودية نفسها البطيئة المتآكلة فقط قبل عامين؟".

إعادة تقديم السعودية على النحو الذي يشهد تطوراً يوماً بعد آخر منذ إطلاق رؤيتها الطموحة في 25 أبريل (نيسان) 2016 تضمن في تقدير المراقبين والمعايشين له عن قرب مفردات واسعة في مختلف الاتجاهات، إلا أنه ارتكز أكثر ما هو على "استثمار الفرص الهائلة الكامنة في المملكة التي احتفلت هذه الأيام بمرور 92 عاماً على وحدتها"، بينما مرت ثلاثة قرون على تأسيسها الأول في الدرعية عام 1727م على يد الجد الأكبر لحكامها المتعاقبين الإمام محمد بن سعود مع أن جذور العائلة والدولة في منطقة نجد والجزيرة العربية تمتد لأضعاف ذلك التاريخ.

ويقول دبلوماسي غربي في حديث مع "اندبندنت عربية" فضل عدم ذكر اسمه "عرفت السعودية على ثلاث مراحل، الأولى قبل أن أزورها عبر الإعلام، والثانية بعد أن كلفت مهمة عمل فيها لأسابيع ضمن لجان قابلت فيها عدداً من المسؤولين في قطاعات التنمية المختلفة، أما المرحلة الثالثة ففي عهدها الجديد بعد رؤية 2030 التي ينظر إليها في الغرب بداية الأمر كما لو أنها دعاية سياسية ثم بعد مرور الوقت على تنفيذ برامجها تبدلت الآراء نحوها ما بين توجس واحترام. إنها ثورة بكل المقاييس".

وبينما نحتسي القهوة في مطعم "البيرتو" وسط غابة ناطحات المركز المالي في الرياض يهمس الرجل كما لو أنه يفضي إليّ بسر "انظر كيف يلهم هذا الشاب (ولي العهد) النساء والشباب ويمكنهم، انظر كيف أصبحت صالات السينما والفورمولا والحفلات في الدرعية والرياض وجدة والعلا، وحين تصبح (نيوم) التي نرى تصاميمها واقعاً نكون أمام دولة في عصر آخر في غضون سنوات قليلة".

 

حديث التاريخ عن الأمم

ويعتبر الأكاديمي السعودي عبدالرحمن الطريري أن السعودية الجديدة أعادت تقديم نفسها لمجتمعها والعالم بصورة عملية وبرامج تلامس اهتمام دول ومجتمعات إقليمية وعالمية نظير تأثيرها في قضايا تهم الشعوب مثل، الطاقة والفكر والصحة والمقدسات.

وقال التاريخ يخبرنا أن الأمم مهما توفر لها من مقومات مادية وثروات "لن تتمكن من رسم صورة ناصعة لذاتها ما لم تكن خلايا الحيوية متوفرة ويتم تفعيلها من خلال قرارات وبرامج تنموية تمكنها من استغلال الثروات المتوفرة لها" وهذا ما قال إن السعودية فعلته باستغلال عوائد النفط الفترات السابقة عبر برامج تنموية استهدفت تأهيل الإنسان من خلال التعليم في الداخل والخارج في مختلف التخصصات الطبية والهندسية والإدارية والقانونية والتربوية والاجتماعية "مما مكن الإنسان السعودي من الحضور في جميع مناشط الحياة في داخل البلاد وخارجها لما يتوفر لديه من معارف متقدمة ومهارات عالية".

فضلاً عن الحضور في المنظمات الدولية يعتقد الطريري أن أداء الجهاز الحكومي الذي أصبح أكثر حيوية منح البلاد فرصة جديدة لتقديم نفسها على نحو أكثر وضوحاً، فعلى سبيل المثال "خلال جائحة كورونا قدمت خدمات صحية راقية شهد لها القاصي والداني بالكفاءة التي فاقت بها كثيراً من الدول ذات الخبرة المتقدمة زمنياً في المجال الصحي والبنية التحتية والتقنية".

ورأى أن من بين أهم الخطوات أثرت تقديم السعودية نفسها "أنظمة الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة وتقديم الخدمات لزوار الحرمين الشريفين والديار المقدسة".

وكانت السعودية الجديدة أطلقت إصلاحات غير مسبوقة في تاريخها بدأت بتوسيع الحريات العامة من خلال تحجيم "الهيئة" أو ما يعرف غربياً بـ"الشرطة الدينية" التي كانت تقوم بأدوار قريبة من تلك المثيرة الآن التي تقوم بها نظيرتها الإيرانية، وسمحت للنساء بقيادة السيارة بعد أن كانت لعقود الدولة الوحيدة في العالم التي لا تسمح بذلك.

"من دون نفط"

وفي الجانب الاقتصادي لم يكن متوقعاً أن تقلل البلاد اعتمادها على النفط إلا أنها قطعت أشواطاً في ذلك وبرهنت على جديتها بطرح جانب من أسهم شركتها "أرامكو" في السوق السعودية بعد سيل من التشكيك، وذلك في سوق أسهمها التي صارت الأضخم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعزز موقع الرياض كدولة عضو في مجموعة "جي20" للاقتصادات الكبرى في العالم، ناهيك بـ"الصندوق السيادي" الذي أعلنت البلاد تصميمها على جعله بين الأوائل الأكبر في العالم وفق فلسفة جعلت منه ذراعاً استثمارية في البلاد وليس فقط الخارج.

ولأن الأمر لم يكن سهلاً قاد ولي عهد البلاد بنفسه الدفاع عن هذا التحول الاقتصادي في تحويل البلاد من دولة ريعية إلى اقتصادية وفق منطق السوق والمؤشرات الدولية، مذكراً مواطنيه بأن موارد السعودية لا تقتصر على النفط، وطموحها لا حدود له، فمؤسسها "الملك عبدالعزيز والرجال الذين عملوا معه في كل أنحاء المملكة لما أسسوا دولة ما كان فيها نفط، أسسوها من دون نفط وأداروا هذه الدولة من دون نفط، وعاشوا في هذه الدولة من دون نفط، وتحدوا الاستعمار البريطاني ولم تدخل بريطانيا ولا شبراً إلى السعودية من دون نفط. برجال موجودين".

عقبات التقليد

ومع أن برامج "الرؤية" أحدثت حتى الآن تغيراً ملحوظاً على المستويات جميعها في البلد العربي المحافظ فإن الجوانب الجوهرية فيها على المستوى الثقافي والفكري لا تزال في مقدمتها التمهيدية قياساً بالتنموية والاجتماعية.

ويعتقد المفكر اللبناني رضوان السيد أن هذا الجانب "يرقى إلى مستوى الفلسفة الجديدة لصناعة التنمية الحضارية التي تحول التحديات إلى فرص" على نحو يراه قد "تجاوز عقبات التقليد والأصوليات وأوهام الإسلام السياسي"، وذلك في تقديمه كتاباً نشره رجل الدين الشيعي محمد الحسيني الذي تناول "الفكر والدين في الرؤية". واعتبر أنه يمكن أن يمضي بالسعودية والعالمين العربي والإسلامي بعيداً في التجديد الديني والترجمة الواقعية لسماحته وعالميته و"الحريات الدينية" على النحو الذي كشفت "وثيقة مكة" عن أدبياته.

كان وقع على الوثيقة 1200 عالم مسلم من مختلف المذاهب والأقطار بإدارة "رابطة العالم الإسلامي" وشكلت ما يشبه "نظرية إسلامية جامعة" للحوار والتعايش والشراكة بين الثقافات المختلفة، فضلاً عن المذاهب الإسلامية، على خطى "وثيقة المدينة" التي كتبها نبي المسلمين لمجتمع المدينة بعد هجرته إليها قبل 14 قرناً في خطوة لا يزال المستشرقون والباحثون الغربيون ينظرون إلى منطقها في تلك المرحلة المبكرة بإكبار.

 

هذا الحقل الذي كان أكثر إحراجاً للسعودية بوصفها قبلة المسلمين ما لحق به من تشوه جراء سنوات "الإرهاب والإسلاموفوبيا"، أعادت البلاد تقديم نفسها فيه بشكل حاسم على مستوى ما وصفته بـ"العودة إلى ما كانت عليه من الإسلام المعتدل قبل 1979م" فقضت على نفوذ المتطرفين وفرضت قيوداً صارمة على أيديولوجيتهم المتشددة وصلت أحياناً إلى توقيف بعض عرابيها الكبار على رغم انتقادات بعض مؤسسات اليسار وتنظيمات حقوق الإنسان.

لكن بعد أن صارت الموسيقى والسينما واقعاً في الميادين السعودية ومناهج التعليم وغدت نظرية "الاختلاط" في الأماكن العامة والأعمال غير واردة لم يفقد المجتمع هويته الثقافية والدينية ولم يفرط في التمسك بـ"قيم الإسلام" الأصيلة التي كانت دائماً محل تشكيك تنظيمات الإسلام السياسي التي يعتبر منظرها الأشهر "سيد قطب" أن المجتمعات المسلمة تعيش "جاهلية" مما يعني صراحة أو ضمناً أنها "غير مسلمة" مما جرأ أتباعه على تكفير مسلمين في المنطقة العربية واستحلال دمائهم حتى اليوم.

لم تكن هزيمة هذا النهج في السعودية التحول الفكري والثقافي الوحيد إذ تلاحقت المبادرات التجديدية والثقافية في مثل تنقية الحديث النبوي وفك الارتباط بما كان يعرف بـ"الدعوة الوهابية" وإيجاد مقاربة أكثر وضوحاً بين حدود ما هو سياسي وديني وتقنين القضاء ليدخل في مرحلة "لا عقوبة إلا بنص" فيها وسط ترسانة من القوانين، قالت وزارة العدل السعودية إنها "تحفظ للقضاء هيبته وتجعله أكثر مهنية وأقل ازدواجية في مخرجاته وأحكامه" التي كانت في السابق متروكة لأهواء القضاء واجتهاداتهم في تأويل النصوص.

إرث "الجزيرة العربية"

لكن يرى الأكاديمي السعودي خالد الدخيل أن هناك "ثروة مهملة" لا يمكن استغلالها إلا بإعادة الاعتبار لـ"الجزيرة العربية" كموقع وإرث غني ورثته السعودية يؤرخ لقرون من تكون الإنسان العربي ولغته ودوله المتعاقبة منذ ما قبل الإسلام حتى اليوم.

وحضرهذا البعد في تقديم السعودية الجديدة فصارت "العلا" بآثارها العريقة المادية وغير المادية "أيقونة" تجتهد البلاد في تسويقها ثقافياً معلنة إياها "أكبر متحف مفتوح في العالم"، في شراكة مع "اللوفر" الفرنسي.

وفي هذا السياق تنبه الأمير محمد بن سلمان إلى "ربط تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جداً قبل 1400 سنة" فكان تعليقه على ذلك أن التاريخ الإسلامي مرتكز بلاده الحضاري ومنطلقها، لكن "عندنا عمقاً تاريخياً ضخماً جداً يتقاطع مع كثير من الحضارات، فالتاريخ العربي الذي يمتد آلاف السنين هو تاريخ الكلمة وتاريخ المبادئ وتاريخ القيم ولا يضاهيه أي تاريخ ولا حضارة في العالم"، كما أن هناك جزءاً من الحضارات الأوروبية موجود داخل السعودية، "ولها مكون حضاري فيها وأخرى حضارات مندثرة مهمة جداً عمرها آلاف السنين ويجب أن يستغل ويستعمل بشكل أو آخر".

 

ويشير الدخيل في هذا الصدد إلى أن "عمق الجزيرة العربية بما توفره من ثقل حضاري وثقافي عربي وإسلامي وعالمي يمكن أن يقدم للسعوديين إذا ما تم توظيفه أكثر مما قدم الفراعنة والنيل للمصريين بعد اكتشافاته الأثرية المتلاحقة" إلا أنه لفت إلى أن ذلك يستدعي عملاً بحثياً وثقافياً ونفساً مؤسسياً طويلاً.

ولهذا كان بين أهم المحاور المبتكرة في "الرؤية" التي أعادت بها البلاد تقديم نفسها لشعبها والعالم محور "الموقع الجغرافي الاستراتيجي" بوصفه يمنح المملكة ميزات نسبية ما كان يلقى لها بالاً فهي تتوفر على "أهم بوابة للعالم بصفتها مركز ربط للقارات الثلاث وتحيط بها أكثر المعابر المائية أهمية".

على رغم ذلك لا يزال أمام السعودية تحديات جسام إذ على رغم قطعها الأشواط الأولى الأكثر حساسية في تجديد نفسها لتبدو صورتها أكثر نضارة والحياة فيها أكثر جودة فإن ذلك العزم يواجه مقاومة من قوى عدة لا يروق لها أن ترى البلاد تتقدم وهي التي قالت إنها وإن فتحت أبوابها للعالم فإن مبادراتها كان الهدف منها أولاً مجتمعها، سواء أحب الآخرون ذلك أم كرهوا، وفقاً لمصارحة سفيرة السعودية لدى أميركا ذات يوم ريما بنت بندر بعضاً من أولئك (الآخرين) في جمع دولي أقيم 2018.

وقالت حينها الأميرة في مؤتمر دافوس "إذا عملنا فقط لإرضاء الخارج فلن نرضي أنفسنا وأظن أنه يجب أن نكون واثقين من أنفسنا وتوجهنا وسيقتنع الآخرون بعد أن يلمسوا نتائج عملنا وأثره وقد أصبح هذا الأثر ملموساً بالفعل، بفضل قيادة مهتمة تتميز ببعد النظر".

تعطيل التحول

ويرى الكاتب السعودي مشاري الذايدي أن محاولات تعطيل "الرؤية" أو مقاومتها لا تقف عند فئة محددة في الداخل أو الخارج "فأي معاد للسعودية لن يسره أن تتجسد هذه الرؤية مشروعاً يمشي على الأرض ويمخر عباب البحر الأحمر ويبذر الأمل في حقول الصدور السعودية... أبداً لن يبهجه ذلك"، لافتاً إلى أن أولئك الذين يسميهم "الأعداء" ليسوا قلة فهم "كثر وأنواع من غرب وشرق وداخل وخارج كل يعزف على أوتاره الخاصة".

جاء ذلك في معرض تعليقه على بعض مضامين حوار "ذي أتلانتيك" مع ولي العهد الذي عنونته بـ"القوة المطلقة" في إشارة إلى سياقات عديدة ليس أبعدها أن برامج الدولة ستقودها إلى أن تكون قوة ذات ثقل عالمي، واصفاً قائدها الشاب بـ"الذكي والقوي"، مما فتح "أبواب الجحيم عليه في واشنطن" التي كانت في ذلك الوقت يستثمر يسارها في جعل السعودية دولة منبوذة قبل أن يتجه الرئيس بايدن إلى جدة ويعيد العلاقات بين البلدين إلى سيرتها الأولى، في ما يشبه الإقرار بدور الرياض في سياق أزمات الإقليم والعالم وحلولها.

الإصلاح قوة

قوة السعودية الجديدة كما ترى سفيرتها لدى واشنطن أنها مرتبطة بالإصلاحات التي تتخذها "فكلما ازدادت إصلاحاتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قوة في المملكة سنصبح في وضع أفضل يؤهلنا لأن نكون أكبر شريك يعتمد عليه في المنطقة للولايات المتحدة" وغيرها كذلك بحسب تطلعات الدولة الراهنة التي ظهرت أكثر بعد مرحلة الصراع في أوكرانيا.

وتضيف، أن بلادها بذلك تصبح في نهاية المطاف قادرة أكثر من ذي قبل "على تولي دور قيادي أكبر في المنطقة، وأن نتحمل جزءاً أكبر من المسؤولية، وسنفعل ذلك من دون إهمال التركيز على السلام والاستقرار والرخاء" وهو التحدي الأصعب الذي أقر ولي العهد نفسه بأنه ليس بالسهل ألا تتأثر الطبقات الهشة والوسطى في المجتمع بالتحولات الاقتصادية التي تشهدها البلاد، ووضعت الرياض سقفاً اعتبر طموحاً جداً وهو تقليص البطالة فيها إلى حدود سبعة في المئة عند حلول 2030، وسط العديد من المستهدفات التي لا تقل صعوبة.

وينظر الباحث السياسي سلمان الأنصاري إلى ما سماها "حالات المناكفات السياسية أو الإعلامية التي نشهدها بين فترة وأخرى ضد الرؤية وصاحبها" على أنها موجهة في الأساس ضد مشروع "جعل المملكة دولة عظمى صاحبة قرار وليست دولة دور وظيفي، وبات لدى الشارع السعودي وعي عميق بحقيقة هذه المناكفات وأهدافها التي فقدت جدواها في التأثير أو التحريض".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير