في عالم بات كل من يمتلك هاتفاً ذكياً يمكنه أن يؤسس عالمه الخاص، ويدشن مبادرات لم تكن لتحدث أبداً في ظل عالم ما قبل الإنترنت، بات من الطبيعي ألا ينتظر أحد "حب الصدفة" والشريك الساحر الذي يصطدم به فجأة في زحمة الطريق، فتنشأ حياة مثالية وقصة رومانسية يتحاكى بها الجميع.
العثور على الحب في أماكن العمل والدراسة وفي محيط العائلة وحتى عبر المعارف والوسائط لا يزال قائماً، ولا يزال أيضاً هو الطريقة التلقائية والطبيعية للتعارف، ولم ينته زمنه مثل "الخاطبة"، تلك السيدة التي كانت توفق "راسين في الحلال"، وتحصل على مقابل مادي من الطرفين.
لكن تطبيقات المواعدة التي باتت رائجة عربياً أخيراً أصبحت تأخذ مكان كثير من الوسائط، فهي تشبه زواج "الصالونات"، لكن بشروط الشريك نفسه من دون أن يكون هناك طرف ثالث يؤثر في قراره.
فبعد منتديات التعارف التي انتشرت بين أوساط مستخدمي الإنترنت منذ نهاية التسعينيات، وانزوت تدريجاً بعد أن باتت السوشيال ميديا هي الوسيلة الأولى للتواصل بين الجماهير، جاءت تطبيقات المواعدة المثبتة عبر الهواتف والأجهزة اللوحية لتحقق عدة ميزات بضغطة واحدة.
ازدهار الاحتيال العاطفي
هناك تطبيقات خاصة فقط بالتعارف داخل مترو الأنفاق، وبينها تطبيق شهير في روسيا، إذ يرتاد تلك الوسيلة آلاف يومياً يشتركون في محطات متعددة، وتتيح فكرة ارتيادهم القطار نفسه يومياً فرص اللقاء بشكل طبيعي، والتطبيق فقط يساعدهم في الحصول على شريك متوافق.
وقبل عشر سنوات بالضبط أنشأ تطبيق تندر (38 في المئة من مستخدميه عمرهم يتراوح ما بين 16 إلى 24 سنة)، إذ إنه الاسم الأشهر في عالم المواعدة عالمياً بين أكثر من 1500 تطبيق، والمنتشر في نحو 200 بلد حول العالم بأكثر من 55 لغة.
ورغم عشرت الملايين الذين يستخدمونه شهرياً، لكن أخيراً ارتبط اسمه بتجارب سلبية عدة بعد عرض الحلقات التوثيقية لـ"نتفليكس" المعنونة بـ"محتال تندر ـ The Tinder Swindler" الذي استعرض تجارب حقيقية لنساء وقعن ضحية لنصاب ابتز أموالهن، وحقق ثروة طائلة. وفي النهاية لم يدن قانونياً ببساطة، لأن تلك الأموال لم تسرق، إنما منحت له طواعية بدافع "الحب" المزيف بالطبع.
فيما النسبة المفزعة تأتي من تقرير صادر العام الماضي عن هيئة المنافسة الأميركية FTC، إذ يؤكد زيادة نسبة الاحتيال العاطفي عبر الإنترنت، بما في ذلك مواقع المواعدة والسوشيال ميديا عموماً بنسبة 80 في المئة، مقارنة بعام 2020.
وخلص التقرير إلى أن ظروف الحجر المنزلي وزيادة وطأة الشعور بالوحدة بسبب جائحة كورونا، ومن ثم الإقبال على التعارف عن بعد جعل المحتالين ينتشرون ومعهم بضاعة "الحب"، إذ خسر العشاق المحتملون أموالاً تقدر بنحو 550 مليون دولار أميركي خلال عام واحد فقط، وكان من بينهم عسكرية سابقة في الـ60 من عمرها تدعى ديبي مونتغومري جونسون التي تعرضت للنصب، إذ خسرت أكثر من مليون دولار أميركي، وهي أموال حولتها بكامل إرادتها لحبيب دخلت معه في علاقة عبر الشاشات إبان أزمة كورونا.
ولم تخف ديبي هويتها على رغم أن كثيرين يشعرون بالخجل من الوقوع في مأزق مثل هذا، بل انضمت لجمعية سكارس المعنية بحقوق ضحايا الاحتيال العاطفي من هذا النوع. وتحاول الجمعية منذ عام 2015 مساعدة نحو سبعة ملايين متضرر، وهو رقم ضخم للغاية، إذ بدأت تنشأ تلك المشكلات بعد سنوات قليلة من انتشار "تندر"، وفي ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على الحياة أصبحت أعداد المخدوعين في ازدياد مستمر.
الخوف من الابتزاز الإلكتروني
عربياً يبدو الابتزاز الإلكتروني والتحرش والتهديد بـ"الفضيحة" سيد الموقف في ما يتعلق بالتعارف عبر الإنترنت، بخاصة عبر الوسائل التقليدية، وأبرزها الانخراط في مجموعات ذات طبيعة محددة يجمع المشتركين فيها اهتمامات بعينها، مثل السينما أو القراءة أو الحرف اليدوية أو غيرها.
وهنا يتسلل مجموعة من المحتالين أيضاً من الجنسين يحاولون إقناع الآخر بالحب لتبدأ المشكلات، بخاصة أن الأمور تبدو طبيعية قليلاً، ثم تدريجاً يحدث ابتزاز أخلاقي، سواء بصور خاصة أو أسرار، وصولاً إلى ادعاء المرض وطلب المساعدة المالية، والضحية تفضل الصمت في أغلب الأوقات خوفاً من التعرض للشماتة والكشف عن مزيد من الأسرار.
وبالنظر إلى كثير من الحوادث التي جرت أخيراً سنجد أن الابتزاز الإلكتروني يتكرر بشكل ملحوظ في المجتمع المصري بالنسبة إلى الفتيات المراهقات، ورغم الريبة والشك في ما يتعلق بأي تطبيقات تعارف في العالم العربي عموماً التي لا يقدم على تجربتها سوى الأجيال الجديدة، فإنها في السنوات الأخيرة بات لها حضور بين أوساط عدة، بخاصة العرب المغتربين في الخارج حيث تزايد عددهم في الفترة الأخيرة بحكم الظروف السياسية في أكثر من بلد.
من هنا نشأت عدة تطبيقات عربية، بل وبعضها له صبغة دينية، لمحاولة مساعدة المغتربين والمغتربات في الارتباط بأشخاص من الأصول نفسها، وهو ما ضمن الشعبية والنجاح لأكثر من تطبيق مواعدة في هذا الصدد، لا سيما بين مجتمع المهاجرين الذين ليس لديهم فرص كثيرة لمقابلة شركاء حياة محتلمين من الخلفية الثقافية والدينية نفسها، فلا يزال أغلبهم يفضل ألا يقترن بشريك من جنسيات غير عربية.
المواعدة في المهجر
وتجد تلك التطبيقات بين أفراد المجتمع العربي في المهجر، ومنهم من تزوج بالفعل وأسس حياة من خلالها، وبينهم من لم يكن يفكر أبداً في اللجوء إلى تلك الوسيلة لولا تلك الظروف. اللافت أن حتى المغتربين في دول عربية في بعض الأحيان يلجؤون إلى تلك الوسيلة، وبينهم مدير مبيعات مصري يعمل بدولة عربية، فضل عدم ذكر اسمه، يقول إنه فقد الأمل في التعرف على فتاة بالطرق التقليدية، كما أن زياراته لمصر قليلة، ولا يوجد متسع من الوقت لانتظار المصادفة أو الارتباط عبر الطرق التقليدية للغاية، بالتالي لجأ إلى أحد تلك التطبيقات، موضحاً أنه اختار تطبيقاً أكثر انفتاحاً وليس مقتصراً على دين بعينه، وبعد أسابيع تعرف بالفعل على فتاة من غير جنسيته وتزوج بها ويعيش معها منذ عامين في استقرار، لافتاً إلى أن هناك اشتراطات متعددة يضعها التطبيق جعلته يثق فيه، مؤكداً أن هذه الوسائل لم تعد سيئة السمعة كما في الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي جولة على أشهر تطبيقات المواعدة في العالم العربي يتضح أن هناك بعض التطبيقات ذات الطبيعة الدينية الإسلامية التي تشترط وضع صور تعريفية تكون محتشمة تماماً، ويسمح للفتيات بإخفاء صورهن، وتضع أسئلة كثيرة في ملف المشترك تتعلق بالهوايات والميول ومجال العمل وتفضيلات عدد الأطفال لمحاولة العثور على شريك متوافق معه.
كما أن من تلك الأسئلة ما هو متعلق بالحجاب، وبعض تلك التطبيقات أيضاً يتيح أن يكون هناك طرف ثالث من العائلة في أية محادثة بين شريكين محتملين، وأن يحضر هذا الطرف لقاءاتهما لضمان الالتزام والجدية وعدم التلاعب، اللافت أن هناك ما يتيح أيضاً الزواج الموقت بالاتفاق بين الطرفين.
ضحايا تطبيقات التعارف
لكن كل تلك الاحتياطات لم تمنع أيضاً التلاعب، فهناك من وقع في فخ "النصب"، واضطر إلى أن يدفع أموالاً لفتاة تعرف عليها بغرض الارتباط الجدي عبر أحد هذه التطبيقات الموجهة بشكل أساسي للجمهور العربي، إذ وجد نفسه وقد خسر مبالغ مالية كبيرة على مدار شهر واحد فقط من تعرفه عليها على رغم أنه لم يقابلها، إذ كانت تتحجج بظروف الحجر الصحي، وقد طلبت منه أموالاً صغيرة في البداية، ثم في ما بعد تطور الأمر متعللة بمرض بعض أفراد عائلتها، ثم في ما بعد اختفت تماماً وحذفت حسابها من التطبيق.
وعلى رغم أن هذا الأسلوب من الخداع متكرر للغاية، وهناك تنبيهات وتحذيرات كثيرة في شأنه، فإنه لا يزال هناك من يقع ضحية له، وعلى الأغلب يكون الشخص المحتال على عجلة من أمره، إذ يختصر أكثر من خطوة في خطوة واحدة لسرعة إنجاز هدفه، ويوهم الضحية بأنه أصبح قريباً منه بعد محادثة واحدة أو اثنتين وتتطور الأمور سريعاً، وهي السمات التي تحدث عنها بعض ممن جربوا تلك التطبيقات، وأصبح لديهم حصيلة من الخبرة يتبادلونها في ما بينهم في مجموعات خاصة للدردشة، وهي المجموعات نفسها أيضاً التي تتحدث عن أطراف يبحثون عن العلاقات السرية والتسلية والمواعدة بعيداً من أي التزام.
ومن سمات هؤلاء هو الارتباك في ما يتعلق بالحديث عن تفاصيل الوضع الاجتماعي والمهنة وسمات الحياة الحقيقية بعيداً من الشاشة، ثم تفتضح النوايا في ما بعد، فهل الانفتاح على تطبيقات المواعدة والتعارف عن بعد سيجد مساحة أكبر للانتشار عربياً أم سيظل مقتصراً على فئة بعينها؟!