Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنان إلى الفوضى باقتحام المصارف وأصل الأزمة سياسي

الخلافات على تشكيل الحكومات منذ اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر والفراغ حجبا قانون تنظيم السحوبات

 انحدار الوضع المأزوم والاضطرابات أمنية شكلا إيذاناً بتكريس وصف لبنان بـ"الدولة الفاشلة" (أ ف ب)

هل حلت الفوضى التي ما فتئ سياسيون واقتصاديون يحذرون منها في الأشهر الماضية في لبنان، مع تفاقم الحوادث الأمنية بسبب التدهور المضطرد للأزمة السياسية الاقتصادية وتزايد الفقر والعوز واستعصاء الحالة المعيشية على أكثرية اللبنانيين في ظل عجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول المؤقتة وبعيدة المدى؟

كشف الذعر الذي أصاب كل من يرتاد مصرفه من أجل القيام بمعاملة مصرفية محدودة، من أن يقع رهينة أي مقتحم من أقرانه المودعين فرع المصرف الذي أودع أمواله فيه، أو جرى تحويل راتبه إليه، أن الاستباق الأمني لهكذا حوادث مستحيل ومتعذر.

الفوضى هي الكلمة التي باتت تتردد على ألسنة السياسيين والمواطنين العاديين في وصف مجريات الأمور في بلد بات 80 في المئة من سكانه يعانون الفقر، بينما فقدت عملتهم الوطنية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ويعجز فيه من ادخروا جزءاً من جنى العمر في المصارف، عن الحصول ما يحتاجون إليه من أموال إما من أجل معالجة مريض أو لتأمين مصاريف دراسة أبنائهم سواء في لبنان أو في الخارج أو لسداد ديون وإعالة أسرهم.

إيذان بـ"الدولة الفاشلة"

بعد توالي حوادث اقتحام مودعين المصارف بالسلاح للحصول على جزء من أموالهم التي تقنن إداراتها صرفها لهم، بعد اندلاع الأزمة المالية الاقتصادية المالية في صيف 2019، إذ بلغ عددها قرابة خمسة اقتحامات منذ مطلع عام 2022، حصلت في يوم واحد، الجمعة 16 سبتمبر (أيلول) تسعة اقتحامات لفروع مصرفية بقوة السلاح من قبل مودعين في معظم المناطق اللبنانية طغت أنباؤها على وقائع ذلك النهار السياسية وغير السياسية، فاحتلت الشاشات واستنفرت الأجهزة الأمنية بالتزامن مع مناقشة البرلمان لمشروع موازنة العام 2022، المتأخرة 10 أشهر عن موعد إقرارها ثم عجزه عن إقرارها بسبب رفضها من قبل كتل نيابية رئيسة على الرغم من أنها أحد المطالب الإصلاحية الملحة التي رفعها صندوق النقد الدولي كشرط لإنفاذ الاتفاق الأولي الذي وقعته الحكومة معه على مستوى الموظفين، في 7 أبريل (نيسان) الماضي من أجل تقديم مساعدة مالية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات.

شكل انحدار الوضع المأزوم إلى اضطرابات أمنية خارجة عن السيطرة إيذاناً بتكريس وصف لبنان بـ"الدولة الفاشلة"، التي تعجز فيها أجهزتها وإداراتها وسلطتاها التنفيذية والتشريعية عن تأمين الحد الأدنى من الانتظام المجتمعي. فاختلط المأزق السياسي الذي يعيشه البلد، بالمأساة الاقتصادية الاجتماعية، وبالتدهور الأمني الذي أيقظ الجهات القضائية والأمنية لمحاولة ردع محاولات أخذ بعض المواطنين حقوقهم بأيديهم.

تداخل الأحداث السياسية والاقتصادية مع الأمنية

لوحة المشهد اللبناني في ذلك اليوم امتزجت فيها اقتحامات المصارف مع الجلسة النيابية التي انتهت إلى انفضاضها بافقاد كتل نيابية معارضة النصاب اعتراضاً على زيادة أرقام الموازنة الأعباء على المكلف اللبناني، وكذلك مع استمرار الخلاف بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف تأليف الحكومة (وهو رئيس حكومة تصريف الأعمال) نجيب ميقاتي، والتلويح بالانتقال إلى حال من الفوضى الدستورية بشأن أهلية حكومة تصريف الأعمال لتسلم صلاحيات الرئاسة في حال عجز البرلمان عن انتخاب الرئيس الجديد وحل الفراغ الرئاسي، وتقاذف الاتهامات عن المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع الكارثية على الأصعدة كافة، وضياع الكتل النيابية والزعامات التقليدية في شأن الاتفاق على اسم مرشح لرئاسة الجمهورية الجديد بعد مضي 17 يوماً من مهلة الشهرين لانتخاب الرئيس، التي تنتهي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي إلى 38 ألف ليرة لبنانية، أي حوالى 5 آلاف ليرة في غضون 5 أيام، وتوقف معامل إنتاج الكهرباء القديمة عن العمل بحيث بات اللبنانيون يعانون صفر تغذية بالطاقة، ما يؤدي إلى انقطاع المياه بفعل عدم تشغيل مضخات المحطات والخزانات في المناطق (تعاني مدينة طرابلس من انقطاع كامل في الكهرباء والمياه وأوجه الخدمات العامة منذ أكثر من شهر)، وارتفاع أسعار المحروقات التي يجري استيرادها بالعملة الصعبة في شكل جنوني جراء الارتفاع في سعر صرف الدولار، مع ما يعنيه ذلك من وقف الإنتاج أو تصاعد أسعاره في قطاعات حيوية أهمها الأفران والمستشفيات والأدوية وبدل النقل والفوضى في تسعير المواد الغذائية ارتفاعاً.

جاء يوم الاقتحامات للمصارف بعد أسبوعين من التحركات المتفرقة شمالاً وجنوباً وساحلاً وجبلاً شملت قطع طرقات احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية، وانقطاع الكهرباء والمياه، وحوادث سرقة من عصابات أدت إحداها إلى مقتل 3 أشخاص في مدينة طرابلس.

اقتحامات مخطط لها... بمسدس بلاستيك وضابط في الجيش

يصعب تصنيف العمليات ضد المصارف خارج إطار تسلسل الأحداث المذكورة ليس في الأشهر الماضية بل في السنوات السابقة أيضاً، على الرغم من الإيحاءات التي صدرت عن مصادر أمنية اعتبرت التحركات ضد ​المصارف غير عفوية، إن لناحية التوزيع المناطقي أو لناحية تزامن التوقيت بين الاقتحام الذي يليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذ أشارت المصادر إلى أن "الاقتحامات حصلت وفقاً لمخطط من قبل أكثر من جهة سياسية وحزبية بالتنسيق مع جهات نافذة وسياسيين، ضمن مخطط لتحريك الشارع"، ذكرت أنه باتت هناك داتا كاملة حددت بداية التحرك عبر استغلال المودعين لتحريك الشارع من أجل خدمة سياسية مبرمجة لخلق فوضى في الشارع بذريعة استحصال المودعين على أموالهم". وفي انتظار أن يثبت هذا المنحى فإن واقعتين تجافيه. الأولى أن بعض الاقتحامات تم بسلاح مزيف وبمسدس بلاستيك، كما هي الحال باقتحام الفتاة سالي حافظ يوم الأربعاء 14 سبتمبر فرع أحد المصارف المهمة في قلب بيروت، يساندها شبان حملوا غالونات بنزين مهددين بإحراقه، إذا لم تحصل سالي على وديعتها التي تنوي صرفها لمتابعة علاج شقيقتها المصابة بالسرطان. وإذ توارت سالي عن الأنظار ولم تتمكن القوى الأمنية من توقيفها، بعد حصولها على قسم من وديعتها بالدولار. وفي اليوم التالي ظهرت شقيقتها المصابة بالسرطان، على كرسي نقال في برنامج تفزيوني نحيلة الجسم وبكت، فيما تحدثت شقيقتها الثانية شارحة وضعها مطالبة بعودة سالي إلى المنزل للاهتمام بها لأنها الأقدر على ذلك. وما من شك في أن المشهد لعب دوراً في تشجيع الشبان المقتحمين في اليوم التالي على القيام بما قاموا به ولكل منهم روايته عن حاجته المالية، بعد أن استفزهم قيام فتاة بذلك.

أما الواقعة الثانية فهي قيام ضابط في الجيش برتبة ملازم أول باقتحام مصرف في بلدة شحيم الجبلية حيث حصل على جزء من وديعته.

الخلافات السياسية منعت المعالجات

ومع أن وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي ترأس مساء 16 سبتمبر، يوم الاقتحامات، اجتماعاً لمجلس الأمن المركزي الذي تحضره أيضاً السلطة القضائية، منبهاً بأنه لن يقبل تقويض الأمن وبأن التدابير التي ستتخذها القوى الأمنية ليس هدفها الوقوف بمواجهة المودعين، وتحدث عن أن "ثمة جهات تريد استغلال وجع المودعين لخلق اضطرابات"، فإن كلامه كان على بعد مئات الأمتار من انفراط عقد الجلسة النيابية التي عجزت عن إقرار الموازنة، لخلاف على مقاربة الأزمة المالية الاقتصادية وترتيب الأولويات في الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة منذ سنوات، التي حالت الخلافات السياسية دون إقرارها. فإقرار الموازنة، لو أنها تضمنت إجراءات مقنعة لا تخضع للتجاذبات السياسية، ولو حظيت بموافقة معظم الكتل النيابية كان يفترض أن تسهم في استقرار سعر الصرف، وفي زيادة واردات الدولة عبر ضبط التهريب والهدر... ومكافحة الفساد، بحيث يجري تحريك جزئي للاقتصاد ليستعيد المواطن الثقة بالإدارة المالية والاقتصادية للدولة.

الأصل السياسي للأزمة والفراغ الحكومي

وفي كل الأحوال فإن أكثرية القوى السياسية تقر بأن أصل توالد المشاكل الأمنية الناجمة عن التردي المعيشي والاقتصادي يكمن في الأزمة السياسية. يكفي العودة إلى مظاهرها على الصعيد الحكومي منذ اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر 2019 التي ادخلت إلى البرلمان 13 نائباً كانوا من بين النواب الذين أسقطوا نصاب الجلسة النيابية عندما بدأ البحث بما تضمنته الموازنة من رسوم وضرائب.

يكفي تعداد الأشهر التي أُهدرت منذ حينها بسبب الخلافات السياسية على المعالجات المطلوبة والواردة في بيانات الحكومات قبل 2019 وبعدها. فمنذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري (في 29 أكتوبر 2019) استجابة للانتفاضة في الشارع، أحجمت السلطة عن إجراء فوري يتم اللجوء إليه في أزمة مالية مثل تلك التي عصفت بلبنان، بإصدار قرار ينظم سقوف السحوبات المالية والتحويلات إلى الخارج، والذي حالت دونه جهات نافذة تركت الأمور على غاربها بحيث يتمكن المتمولون الكبار من تحويل أموالهم بالاتفاق مع أصحاب المصارف. وحال الإنكار السياسي للمأزق الذي وقع فيه البلد وللانتفاضة الشعبية دون التوافق على تشكيل السلطة البديلة. ونتيجة رفض الرئيس عون عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة لأنه استقال من دون استئذانه، بقي البلد بلا حكومة 4 أشهر إلى أن تشكلت حكومة حسان دياب التي رضخت لرفض القيادات النافذة ومنها الرئيس عون بعدم سداد لبنان مستحقات دين قيمتها أقل من 3 مليارات دولار، فتفاقم المأزق الاقتصادي، بينما دخل البلد في عزلة عربية ودولية نتيجة سياسات تعاكس التوجهات العربية الرئيسة.

باستقالة حكومة دياب بعد 6 أيام على كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، الذي دمر وحطم حوالى نصف العاصمة، بقي لبنان من دون حكومة حتى 10 سبتمبر 2021 حين تشكلت حكومة ميقاتي الحالية، إثر استنفاد واستنزاف مرشحين عدة لرئاسة الحكومة بينهم الحريري الذي كلف من قبل البرلمان ثم اعتذر، وذلك جراء الخلاف على الحصص الوزارية لا سيما حصة فريق الرئيس عون وتياره السياسي. ووضعت حكومة ميقاتي مشاريع عدة لقانون ضبط السحوبات المالية لقيت معارضة قوى المجتمع المدني، فيما طالبت كتل نيابية ربطها بخطة للتعافي الاقتصادي ما زالت تخضع للتجاذب بين القوى السياسية لأسباب عدة بينها أنها لا تضمن عودة الودائع المصرفية إلى أصحابها، لا سيما صغار المودعين. ومنذ اعتبار حكومة ميقاتي مستقيلة بعد انتخاب برلمان جديد في مايو (أيار) الماضي، مضت قرابة 4 أشهر أخرى والخلافات بينه وبين عون على الحكومة الجديدة هي الطاغية... وبحساب بسيط بقي البلد زهاء 20 شهراً في ظل فراغ حكومي، أضاعت على البلد فرص الحلول.

سرد الوقائع السياسية لأصل الأزمة لا ينتهي، بما فيه الحقائق حول تأخير الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والامتناع عن خطوات إصلاحية يعتبرها المجتمع الدولي مفصلية في قطاع الكهرباء، نتيجة الرغبة بالاحتفاظ بأحادية القرار للفريق الرئاسي في هذا القطاع... ورفض "حزب الله" العودة عن السياسات التي يتبعها على الصعيد الإقليمي ضد الدول الخليجية التي يعول على استثماراتها لبنان من أجل النهوض باقتصاده، هي من المحطات التي حجبت أي حلول للتأزم المعيشي، واحتجاز أموال المودعين أحد مظاهرها الفاقعة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير