للوهلة الأولى يبدو غريباً مشهد التراجع العسكري الروسي والنجاح اللافت للجيش الأوكراني في استعادة مساحات واسعة من الأراضي التي احتلتها روسيا، ومن يراجع التقارير والتحليلات عن مجرى العمليات العسكرية منذ ثلاثة أشهر سيجد أن ما حدث فاق كل التوقعات في هذه المرحلة السابقة، ومع ذلك فقد أعادت هذه التطورات جذب الانتباه لظاهرة يعرفها العالم منذ عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وعصر الردع النووي، وهي أنه على رغم القوة الهائلة والتطور التكنولوجي العسكري الهائل فإنه من النادر أن نشهد انتصاراً عسكرياً حاسماً في كثير من الحروب التي تخوضها القوى العظمى النووية خصوصاً العملاقين العسكريين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي الذي كان الاتحاد السوفياتي في السابق .
السوابق وأشكال الحروب المعاصرة
خلال الحرب الباردة عرف العالم كثيراً من الصراعات العسكرية التي تورطت فيها موسكو وواشنطن، وعرفنا حروب الوكالة -ونماذجها عديدة- التي انتصر فيها هذا المعسكر أو ذاك، مثل الحرب الكورية والفيتنامية الأولى والحروب الأفريقية التي لعبت فيها كوبا دوراً مهماً نيابة عن الكتلة الشيوعية وانتصرت في كثير منها، ولكن في كل هذه النماذج كانت موسكو وواشنطن تختبئان خلف أطراف أخرى. إذاً ما نريد الحديث عنه هو تلك الحالات التي تدخلت فيها القوى العظمى مباشرة وماذا تحقق فيها، هنا لدينا التدخلات العسكرية السهلة والحاسمة لموسكو في المجر وتشيكوسلوفاكيا، ولدينا نماذج للتدخلات العسكرية الأميركية السهلة والحاسمة أيضاً في أميركا اللاتينية عموماً، لكن النماذج التي نتوقف عندها هي من نوعية حروب الاستنزاف للعملاقين وأبرزها الحرب الأميركية في فيتنام والحرب السوفياتية في أفغانستان ثم الحرب الأميركية في أفغانستان.
في الحالة الأولى تدخلت واشنطن بشكل حاسم في البداية لإيقاف التراجع الفرنسي أمام الثوار اليساريين واستطاعت في البداية تجميد اندفاعهم نحو العاصمة هانوي، ولكن تدريجاً تحولت إلى حرب استنزاف للقوات الأميركية بشرياً ومالياً بسبب الدعم السوفياتي والصيني لتسليح الثوار ثم تحولت إلى جحيم للقوات الأميركية بتزايد الخسائر البشرية نسبياً فوق الاحتمال الداخلي الأميركي وشراسة المقاومة الفيتنامية التي استفادت من الغابات الاستوائية، وكذلك من القدرة على تحمل خسائر بشرية ضخمة لم تكن القوات الغازية على استعداد لتحمل حتى نسبة ضئيلة منها، كما اعتمدت أيضاً على حشد الرأي العام الدولي الذي حشد وألب الرأي العام الداخلي الأميركي ذاته ضد هذه الحرب القاسية التي انتصرت فيها فيتنام التي أيد معظم شعبها الحزب الشيوعي ضد هؤلاء الغزاة الذين كانت سمعة تدخلاتهم في العالم لا تشجع على القبول بهم، وفي النهاية انسحبت الولايات المتحدة من هذا البلد ولم تحقق أهداف تدخلها وفشلت استراتيجيتها التفاوضية بعد فشل استراتيجيتها العسكرية.
النموذج الثاني كان التدخل الروسي في أفغانستان الذي أثار معارضة واسعة لم تقتصر على واشنطن والغرب بل أيضاً كثير من دول العالم الإسلامي لم تقبل فرض الشيوعية على هذا المجتمع الأفغاني التقليدي، الذي اعتمد أيضاً على تضاريسه الجغرافية الصعبة التي لم يقو عليها أي غاز في التاريخ، ومن ثم تمت أكبر عملية استنزاف في التاريخ لقوى عظمى وبكلفة نسبياً أقل بكثير مما أنفقته موسكو اعتماداً على طبيعة الجبال الأفغانية وشدة قبائلها وتحالف كبير لعناصر إسلامية متشددة تم نقلها وتوظيفها في هذه المهمة لتخسر موسكو، ليس فقط هذه الحرب ولكن لتؤدي سلسلة تداعيات إلى انهيار هذه الإمبراطورية التي كانت تعاني كثيراً مظاهر الخلل والاضطراب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما النموذج الثالث والكاشف بقوة عن هذه الظاهرة فهو الحرب الأميركية في أفغانستان 2001، في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) في العام نفسه، فقد تدخلت الولايات المتحدة بقوة هائلة مؤيدة تقريباً بكل العالم ضد حركة "طالبان" المتحالفة مع تنظيم "القاعدة" المتطرف الذي أنشأته واشنطن مع حلفائها في الحرب الروسية في أفغانستان، وتمكنت واشنطن في فترة زمنية وجيزة نسبياً، وبعد استخدام هائل للقوة المفرطة من احتلال أفغانستان والسيطرة على العاصمة كابول وإزاحة "طالبان" التي عادت للكهوف والجبال مختبئة، ثم بدأت عملية استنزاف طويلة الأجل للقوات الأميركية وللحكومات الأفغانية المتعاقبة التي تعاونت بشكل أو آخر مع القوات الأميركية، وأنفقت واشنطن المليارات التي وصلت إلى ما يقرب من تريليوني دولار لكي تستطيع مطاردة "طالبان" وحلفائها، ومع ذلك انتهى الأمر بتقلص وجودها واقتصر على العاصمة وبعض المدن الرئيسة، لتنسحب في صفقة تفاوضية وهمية تسلم فيها العاصمة مرة أخرى لـ"طالبان" التي عادت بأفكارها وتركيبتها إن لم يكن في الغالب بنوع من البراغماتية التي ستحاول فيها عدم إغضاب واشنطن أو الرأي العام العالمي بشكل مشابه لما سبق، وفي مختلف الأحوال لم تتمكن آلة الحرب الأميركية الهائلة وغير المسبوقة من السيطرة على الجبال الضخمة والعدو الأيديولوجي المؤمن بقضيته حتى لو كانت قضية حمقاء .
هل ستكون أوكرانيا قصة مشابهة؟
وتحولت الحرب الأوكرانية كما أشرنا هنا من قبل إلى حرب استنزاف بامتياز، وربما على نطاق غير معروف من قبل في كل تاريخ الحروب العالمية، فلم يسبق فرض عقوبات اقتصادية على دول عظمى بشكل مشابه لما يحدث الآن، كما كانت الإجراءات الاقتصادية التي فرضتها موسكو بدورها تصعيداً واضحاً في حرب الاستنزاف الاقتصادية، مما جعل هذه الحرب ليست استنزافاً عسكرياً فحسب إنما أيضاً حرب استنزاف اقتصادية غير مسبوقة لطرفي الحرب ولكل العالم.
ولكن ما يجب ملاحظته أنه على رغم التحسن الملحوظ في الأداء العسكري الأوكراني فإنه من الصعب حتى الآن توقع أن هذه ستكون النتيجة النهائية للحرب، ولكن في الأقل تثير التساؤلات حول قدرة موسكو على الاحتفاظ بنصر عسكري مستقر من دون مقاومة عسكرية وسياسية، بمعنى آخر أن فكرة القضاء على الخصم عسكرياً بشكل كامل مثلما كانت الحال في العصور القديمة لم تعد أمراً ممكناً.
في تفسير صعوبة الانتصارات العسكرية
كما ذكرنا في كل هذه الحالات السابقة وكذلك الأوكرانية الحالية تلعب القوة العظمى المناوئة دوراً مهماً ورئيساً في حرمان القوى العسكرية الكبرى الأخرى من تحقيق النصر، وحدها عملية الغزو الأميركي لأفغانستان كانت مختلفة، فلم تكن الهزيمة الأميركية بسبب وقوف قوى عظمى خلف "طالبان" بشكل صريح كما في الحالات الأخرى كلها بما في ذلك الأوكرانية كما هو واضح.
ومن ناحية ثانية كان للجغرافيا الصعبة للدولة محل الغزو دور مهم في صعوبة مهمة الغازي وسهولة استنزافه، وهي مسألة مشتركة في كل هذه الحالات تقريباً وإن كانت أوكرانيا أقلها صعوبة نسبياً وبخاصة أن عائق المناخ البارد محايد للطرفين.
من ناحية ثالثة فإن ثورة الاتصالات والمعلومات أيضاً تعوق من جرائم الإبادة الجماعية التي كان الغزاة يقومون بها تاريخياً، وكانت تتيح لهم السيطرة أو إرهاب الشعوب. ومرة أخرى في كل الحالات التي ذكرناها لعب الرأي العام الدولي دوراً إضافياً ضد القوة العظمى التي يتم استنزافها، ربما أيضاً باستثناء الغزو الأميركي لأفغانستان التي كان لجبالها وشراسة "طالبان" دور مهم في هذا الصدد وبخاصة مع محدودية التعاطف الدولي وحتى الإسلامي مع الحركة.
وهناك أيضاً عامل لا يمكن تجاهله وهو الروح المعنوية للشعوب أو القوى السياسية التي تواجه القوة العظمى، وواضح أنه لا يمكن الاستهانة بالروح المعنوية العالية والتماسك لدى المجتمع الأوكراني خلف قيادته حالياً وضد الغزو الروسي مثل حالات النماذج الأخرى، باستثناء الغزو الأميركي لأفغانستان الذي على رغم أنه كان له داعمون من المجتمع الأفغاني وبخاصة الشرائح الراغبة في الانعتاق من الحكم المتطرف فإن الحاضنة القبلية التقليدية ساعدت "طالبان" من دون شك.
ولكن مع كل ذلك وكما أشرنا من قبل ما زال من السابق لأوانه القطع بشكل ناتج الحرب حتى الآن، ولكن ما يمكن تأكيده مرة أخرى أن الحروب المعاصرة للقوى العظمى أكثر صعوبة مما كانت عليه في الماضي، وأن الروح المعنوية للشعوب التي تدافع عن نفسها قوة هائلة لا يمكن الاستهانة بها.