Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ما زال ممكنا عودة تيار الأغلبية الوسطية في الولايات المتحدة؟

طبيعة وتاريخ النظام السياسي الحزبي الأميركي لا تبشر بخير في ما يتعلق بمستقبل الحزب الجديد

هيمنة ترمب على الحزب الجمهوري وسيطرة الأجنحة الليبرالية على نظيره الديمقراطي تجعلان طريق الحزب الثالث ليس سهلاً ( ف ب)

شهدت الولايات المتحدة أخيراً حدثين مهمين، أولهما أزمة تفتيش منزل الرئيس السابق دونالد ترمب، التي يمكن وصفها بأنها خطوة أخرى في تأجيج الاستقطاب الداخلي، والثانية ظهور تيار سياسي جديد، جمع قيادات سابقة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، سمى نفسه "للأمام"، وقدم نفسه بوصفه تعبيراً عن الأغلبية الوسطية الأميركية، وكأن هذه بداية خطوة في طريق طويل لمعالجة أزمة مستحكمة.

وتواجه البلاد منذ فترة ظاهرة استقطاب حاد بين التيارين المحافظ اليميني والليبرالي التقدمي، وهنا يخلط البعض بين ما تعرفه الأوضاع الحالية، وما كانت عليه الأمور تاريخياً بين قطبي الحياة السياسية، أي الحزبين الجمهوري والديمقراطي. والحقيقة أن هذا الحزب الجديد ليس الأول في محاولات زعزعة هيمنة الحزبين الكبيرين، لكنه يحمل رسالة مختلفة تستحق التوقف والفهم.

خريطة ومضمون الحياة الحزبية الأميركية

تاريخياً وعلى مدى عقود ممتدة يسيطر على الحياة السياسية الحزبية حزبان رئيسان هما الجمهوري والديمقراطي، يقتسمان مقاعد الكونغرس ومجلس الشيوخ، ويتناوبان مقعد الرئاسة، ويمثل الحزب الجمهوري التيار المحافظ، بينما الحزب الديمقراطي التيار الليبرالي.

ومن المفيد ملاحظة أن تقسيم الأدوار بين الحزبين في القرون السابقة كان عكسياً، حيث كان الحزب الجمهوري هو الأكثر ليبرالية، ثم تغير الأمر مع بدايات القرن العشرين على النمط الجاري حالياً.

وعلى مدى ممارسات تاريخية تبلورت ظاهرة أخرى بدأت إرهاصاتها منذ حركات الاحتجاج اليسارية والطلابية في ستينيات القرن الماضي، التي طورت أجيالاً لديها توجهات على يسار المجتمع الأميركي، وساعدت في كثير من التحولات التي طرأت عليه بالنسبة إلى حقوق السود والأقليات والمرأة، وانضمت بعض هذه العناصر تدريجاً مع تقدمها في السن إلى الحزب الديمقراطي، وأصبحت جزءاً من العملية السياسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع تزايد توجه الحزب الديمقراطي يساراً وليبرالية، وتزايد انضمام الأقليات والمهمشين في قاطرته كقوى دافعة ومحل هذه التحولات، تزايدت أيضاً التوجهات المحافظة واليمينية لدى الحزب الجمهوري، التي لم تغادره قط، لكن أسهمت المكتسبات التي حققها المجتمع الأميركي، وشاركت فيها إدارات جمهورية في المسائل الحقوقية سابقة الذكر في تعبئة التوجهات اليمينية التي وصلت قمتها بوصول دونالد ترمب للحكم وأكسبها طابعاً شعبوياً، بعد أن فزعت هذه التوجهات من وصول أول رئيس من غير البيض الأنجلوساكسون للحكم، وهو باراك أوباما بل كان رمزاً يمثل أكثر ما تكرهه هذه التيارات المحافظة من أصول أفريقية وجذور إسلامية، على الرغم من أنه لم يكن كذلك.

ومن هنا كنا دوماً نوضح أن الاستقطاب الجاري في الحياة السياسية الأميركية منذ وصول أوباما من نوع مختلف، من حيث إنه استقطاب بين تناقضات ليبرالية وأخرى يمينية محافظة، وأن الكتلة الوسطية التي كانت تحكم تاريخياً في الحزبين، وتحقق درجة من استقرار السياسات الاقتصادية والاجتماعية، تعاونها في ذلك مؤسسات الدولة الحكومية، المحترف جزء كبير منها والقادر حتى خلال إدارة ترمب على فرملة شطط السياسات كما حدث في موضوع الانسحاب من سوريا، بحيث كانت الإدارات المتعاقبة تمارس التغيير عن سابقاتها في حدود متفاوتة الضيق، فلم يمح ريغان الذي ينتمي إلى هذه الكتلة كل ما قام به سلفه الديمقراطي كارتر.

لكن أوباما عندما قاد عدداً من الإصلاحات والسياسات كانت صادمة لخصومه اليمينيين، وكانوا بحاجة إلى صدمات مماثلة عبر عنها ترمب الشعبوي. من هنا نفهم كيف أن أوباما ينهي مثلاً جدلاً وبطئاً أميركياً تاريخياً بصدد قضية مكافحة التغير المناخي، وهي التي كانت مسؤولة، وما زالت عن جانب كبير من التعثر الدولي في هذه القضية، وينضم إلى اتفاق باريس ما اعتبر حدثاً تاريخياً بارزاً، ليأتي ترمب وينسحب من الاتفاق على الرغم من كل المعارضات والجهود الدولية والداخلية لمحاولة حثه على البقاء، ثم يأتي مشهد لا يقل درامية وتعبيراً عن هذا الاستقطاب عندما يأتي جو بايدن ليعيد بلاده للاتفاقية في الأسبوع الأول لإدارته.

فات صانعو القرار في الإدارتين المتعاقبتين ترمب ثم بايدن أن الرسالة سلبية، وأنه ليس هكذا تدار أمور الدول الكبرى، بل فاتهم حتى إن الأمر استغرق سنوات من إدارة أوباما لاتخاذ هذا القرار، وفي كل هذه الخلفية بعد أساسي، وهو غياب الكتلة الوسطية في الحزبين، التي كانت هي ومؤسسات الدولة الأميركية تحافظ على قدر من الاستمرارية التي تليق بسياسات أكبر قوة عظمى في التاريخ الحديث من حيث مقومات القوة الصلبة والناعمة في آن واحد.

الاستقطاب جزء من سياق تاريخي بتراجع أميركي

لن نتطرق تفصيلاً هنا إلى ما سبق مناقشته في شأن التراجع التدرجي البطيء للولايات المتحدة عن صدارة المشهد الدولي، وهو تراجع لا يعني أنها فقدت مركز الصدارة حتى الآن، فنحن نرى النظام الدولي في حالة سيولة، وتحولات غير مكتملة، فقدت فيها واشنطن قدرتها النسبية على احتكار القرار الدولي، وقد اعتبرنا هذا منذ إدراك أوباما المستتر ذلك، وبدء حديث الانسحاب والتراجع الذي أكملته إدارتا ترمب ثم بايدن، كانت بدايته تردد أوباما في أي تدخل خارجي، ثم حديث ترمب الصريح في هذا الاتجاه بحجة المصالح الاقتصادية، والتركيز على الصين، ثم أكملها بايدن بالانسحاب المخزي من أفغانستان.

ومن هنا وصفت تحولات هذه الإدارات بأنها كانت تعبيراً عن سياق تاريخي، وهنا نشير إلى السياق التاريخي السابق وارتباطه أيضاً بمفهوم قديم طرحه ابن خلدون منذ قرون سماه العصبية، وهو تماسك الأمم الداخلي الذي هو أحد أهم شروط قوة الأمم والإمبراطوريات، والذي تعانيه الولايات المتحدة حالياً، ويشكل جزءاً لا يتجزأ من هذا السياق التاريخي.

السوابق ووضعية التيار الجديد

يجب تذكر أن هناك عديداً من الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة التي على الرغم من انتشارها لا تكاد توجد في مجلسي البرلمان الكونغرس والشيوخ الذي يقتصر على الحزبين وثلاثة أعضاء فقط من المستقلين في المرحلة الراهنة، ومن بين هذه الأحزاب أسماء ربما لا يعرفها المواطنون الأميركيون، مثل "الشعب والشيوعي والنازي ودستور والإصلاح" وغيرها.

لكن الحزب الجديد "للأمام" هو نتاج اندماج ثلاث قوى سياسية، وهي حركة "تجديد أميركا" التي أسست عام 2021 من عشرات المسؤولين السابقين في الإدارات الجمهورية لريغان وبوش الأب وبوش الابن ودونالد ترمب، أي إنهم ينتمون لما يمكن تسميته المؤسسة الأميركية والاستمرارية والتحفظ ضد التطرف في الاتجاهين اليميني واليساري معاً.

وحركة "للأمام" التي أسسها أندرو يانغ، الذي ترك الحزب الديمقراطي في العام نفسه أي العام الماضي، وحركة "خدمة أميركا" وهي حركة من الجمهوريين والديمقراطيين السابقين، ومعنى ما سبق واضح، وهو أننا بصدد تيار يحاول أن يجتذب الكتلة الوسطية التي تحفظ الاستقرار والتوازن في المجتمع والدولة الأميركية. وما زال أمام الحزب طريق وخطوات طويلة حيث سيعقد سلسلة من المؤتمرات في أكثر من 20 مدينة أميركية، لنشر برنامجه وجذب الدعم، ثم حفل إطلاق رسمي في هيوستن يمهد لأول مؤتمر وطني للحزب في إحدى المدن الأميركية الكبرى، وذلك بحسب عدد من التقارير الإعلامية.

وقد نشر الثلاثة ديفيد جولي عضو الكونغرس الديمقراطي السابق، وكريستين ويتمان الحاكمة الجمهورية السابقة، وأندرو يانغ المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق في "الواشنطن بوست" مقالاً يقول إن الغالبية المعتدلة ذات التفكير السليم هي المخاطبة بهذه الرسالة، وأشاروا إلى أن التطرف السياسي يمزق البلاد، وأن الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري قد فشلا في تلبية احتياجات البلاد، وأنه لهذا يشعر معظم الأميركيين أنهم غير ممثلين.

الفرص والاحتمالات

ليس هناك إذاً مجال للبس في أن التيار الجديد يقدم رسالة واضحة في شأن ما يواجه المجتمع الأميركي من تحديات وانقسام يمزقه، وفي تقديري أنه يخاطب جوهر القضية بوضوح، لكن المشكلة أننا نتعامل مع نظام حزبي ضخم يقوده الحزبان تاريخياً، ويقوم على آلية ومؤسسية ضخمة من تمويل هائل، وعضوية ضخمة العدد، وفروع تنتشر في كل مدينة صغيرة وكبيرة، لم تقو أي محاولات على مدى تاريخ طويل من تهديدها والمساس بها، وكل الأحزاب والحركات السياسية التي كانت تظهر كانت تتلاشى تدريجاً، أو تبقى على وجود ضعيف لا يقوى حتى على الوجود الملموس أو حتى الرمزي، أي مجرد الوجود في مجلسي الشيوخ والنواب.

معنى هذا أن طبيعة وتاريخ النظام السياسي الحزبي الأميركي لا تبشر بخير في ما يتعلق بمستقبل الحزب الجديد حتى لو كان معبراً عما يحتاج إليه المجتمع الأميركي بشكل حقيقي، وهنا تبدو فرص الحزب ضعيفة، وتتوقف على عدد من العوامل، أبرزها إدراك جزء كبير من رجال الأعمال وممولي الأحزاب الأميركية أن استمرار الأوضاع الراهنة يتضمن تهديداً عميقاً ليس فقط للديمقراطية الأميركية، لكن لمكانة البلاد ذاتها، وثاني الشروط هو انضمام عدد من القيادات القوية على مستوى كل الولايات لهذا التيار، ووجود زعامة على قدر من الحضور الكبير والقبول الشعبي، وكذا من قيادات الحزب الجديد، وهي مسألة ليست سهلة، بل شديدة الصعوبة.

ومع ذلك فإن مواصلة المحاولة والطريق الطويل الصعب هي الخيار الوحيد ما لم ينجح أحد الحزبين الكبيرين في العودة للتوازن والوسطية، الذي كما سبق يظل أمراً صعباً بعد هيمنة ترمب على الحزب الجمهوري، وتصاعد سيطرة الأجنحة الليبرالية على الحزب الديمقراطي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل