Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحداد العام" في بريطانيا يخرج عن السيطرة

حتى الذين يشعرون بالحزن الشديد على الملكة لا يغفلون بالتأكيد أن الوضع أقرب إلى المهزلة

الناس تخرج من "وستمنستر" بعد إلقاء "نظرة الوداع" على الملكة الراحلة إليزابيث الثانية (أ ب)

يبدو لي أحياناً بأن بريطانيا هي محاكاة ساخرة عن نفسها. الوضع بغاية السخرية والسخافة ليكون حقيقياً، وكأننا عالقون جميعاً في نسخة مملة من فيلم "ماتريكس" (The Matrix)، إذ يتمثل الهدف في إعادتنا إلى مستويات المعاناة والبؤس في العصر الفيكتوري، مما لا شك فيه أن هذا ما يبدو الأمر عليه منذ وفاة الملكة الأسبوع الماضي.

بالطبع ستترافق وفاة رأس الدولة وخصوصاً ملكة تولت العرش على مدى سبعة عقود بمشاعر جياشة من الحزن والأسى، سواء كنتم من المعجبين بمفهوم الملكية أم لا، شكلت الملكة أحد ثوابت الحياة البريطانية التي طبعت معظم ذكرياتنا الحية.

بالنسبة إلى المعجبين بهذا النوع من القيادة غير المنتخبة والنخبوية بشكل كبير، لا شك أنه سيكون وقتاً حزيناً، ربما وقتاً للاتشاح بالسواد أو وضع بعض الأزهار أو تلاوة بعض الصلوات. توقعت إجراء تغطية متواصلة على شاشات التلفزة الرئيسة كافة، وبث برامج وثائقية عن حياتها، فضلاً عن البث المباشر من قصر باكنغهام، بعد كل شيء رأينا الأمر نفسه العام الماضي إثر وفاة الأمير فيليب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن ما لم أتوقعه أن يصبح الحداد نوعاً من العذر الشامل الذي يعتم واقعنا الاقتصادي والسياسي، ويتسرب إلى جوانب حياتنا كافة، وعلى حساب الأشد فقراً وعوزاً.

باسم الحداد الوطني أصبحت الأمور غريبة وصدقاً منافية للمنطق، منذ بضعة أيام انتشر خبر مفاده بأنه تم خفض صوت رنين آلات مسح الأغراض في متاجر موريسونز كعلامة على احترام الملكة وسط معاناة الزبائن في مسح مشترياتهم نتيجة لذلك، وفي نورويتش نشر دراج صورة على "تويتر" يظهر فيها أن موقف الدراجات في وسط المدينة أقفل لأسبوعين بسبب الحداد الوطني وبأنه ستتم إزالة أية دراجات هوائية تربط عليه.

كما تم إلغاء مناسبات متفرقة وثانوية مثل مباريات كرة القدم للأطفال وسباقات البط في أنحاء البلاد كافة، وهي لا ترتبط مباشرة بالأسرة الحاكمة. واستغلت العلامات التجارية مناسبة الحداد الوطني من خلال تقديم مبادرات غريبة احتراماً للملكة، حتى وصل الأمر أيضاً إلى مكتب مصلحة الأرصاد الجوية الذي علق إعلاناته وكأنه يجب على الطقس أن يتوقف موقتاً بمناسبة الحداد الوطني.

وكأن الغرابة لم تبلغ ذروتها خلال الأسبوع الماضي، وهي وصلت الآن إلى حدود القلق الفعلي مع وجود عواقب خطيرة وطويلة الأمد لأولئك الذين يعانون فعلاً في جميع أنحاء البلاد.

فهناك أولاً التداعيات الخطيرة التي سيطرت على حقنا الديمقراطي في محاسبة من هم في السلطة، إذ تم تعليق العرائض على الموقع الرسمي للحكومة مما حد قدرة الشعب على استخدام أصواته لإحداث التغيير، وعقب المقتل المروع لرجل أسود أعزل هو كريس كابا على يد رجل شرطة، رفض مفوض شرطة العاصمة الجديد مواجهة المساءلة الإعلامية بسبب الحداد. كم هذا مقنع!

وفي تطور بائس أخر تم توقيف مواطنين مارسوا حقهم الديمقراطي في الاحتجاج وتعرضوا للمضايقات من قبل الشرطة بسبب جرائم لم تتخط رفع يافطة كتب عليها "ليس ملكي"، أو إطلاق صرخات "رجل عجوز مريض" تجاه الأمير أندرو. يبدو أنه في إطار أعذار الاحترام واللياقة، حتى المشاعر الفاترة المناهضة للملكية لم تعد أمراً مقبولاً في هذه البلاد ذات التفاهات الجوفاء والابتذال الفارغ.

حتى بعد كل ذلك بوسعي التأقلم مع المتاجر الصامتة وإلغاء المناسبات الرياضية، لدرجة أنه بوسعي تبرير التوقيت الغامض لعطلة الحكومة نظراً إلى سجل المحافظين في تقديم القليل من الدعم لأولئك الذين هم في أمس الحاجة إليه على أية حال، لكن ما الذي يبرر إلغاء المواعيد الطبية في يوم جنازة الملكة؟

نعم لأنه عطلة مصرفية في البلاد، فإن هذه الخدمات الحيوية تقفل أبوابها، ولكن يستحيل تبرير إقفال بنوك الطعام وإلغاء مواعيد طب القلب للأطفال أو تأجيل نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي.

لماذا يتحتم على العائلات المحزونة والثكلى الأخرى التي تم التخطيط لجنازاتها يوم الإثنين إعادة جدولة مراسم جنازة أحبائها لمجرد أن الملكة توفيت في وقت مماثل؟ حتى أولئك الذين يشعرون بحزن شديد على وفاة الملكة بوسعهم بالتأكيد أن يروا أن الأوضاع أقرب إلى مهزلة، كان بوسعنا إقامة مراسم الجنازة يوم الأحد عوضاً عن ذلك والتخطيط لعطلة رسمية للذكرى في تاريخ لاحق.

كما هي الحال دائماً لا يشعر بالعبء الأكبر لهذه القرارات الخطيرة والمهينة إلا أولئك الذين يعانون بالفعل الواقع القاسي المرير للحياة خلال أزمة تكلفة المعيشة التي يرزحون تحتها، والواقع أن الفقر لا يحظ بعطلة رسمية، ولا حتى بمناسبة وفاة الملكة.

ومع احتشاد المعزين وتركهم أكواماً من شطائر مربى البرتقال خارج قصر مليء بالذهب والمجوهرات، ستتساءل العائلات التي تكافح لإطعام أولادها عن كيفية التأقلم مع إقفال بنك الطعام المحلي الذي تستفيد منه باسم الحداد الوطني. أما الذين سبق أن واجهوا ساعات انتظار طويلة للحصول على مواعيد في المستشفى فسيتم إقفال الباب في وجه احتمال حاجتهم إلى الرعاية الطبية العاجلة، مع ما يخلفه ذلك من تداعيات تهدد الحياة خصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين يعانون إعاقات وأمراض مزمنة.

من المتوقع أن تنفق ملايين على جنازة الملكة في وقت ارتفعت فيه نسبة فقر الأطفال أكثر من 14 في المئة في بعض أنحاء البلاد خلال الأشهر الـ18 الماضية، وفي وقت تواجه فيه العائلات في بريطانيا ثقل فواتير الطاقة التي ستغرقهم في الديون والعوز.

لا شك أن وفاة شخص هو أمر سيئ، ولكن وفاة ملكة مليارديرة استمتعت بالامتيازات الموروثة هي حدث ستشعر به المجتمعات التي تواجه عديداً من أوجه الحرمان، وأتمنى أن تكون السخرية الناجمة عن ذلك كافية لكي تغضب أكثر أنصار الملكية حماسة.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء