Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في خراب سردية الإسلام السياسي

السعي وراء الأوهام هو مبرر الهروب إلى الأمام

حداد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي قرب السفارة المصرية في أنقرة(رويترز)

سردية الإسلام السياسي، هي أخطر ما يتهدد هذه المنطقة من أيديولوجيات، وليس ذالك لأن الأيديولوجيات الأخرى ليست خطيرة، وإنما للتضليل الخبيث الذي تختزنه الفكرة المركزية للإسلام السياسي، وما تمثله من تهديد حقيقي وقاتل لمنظومة الدولة الوطنية، في كل بلدٍ على حدة من بلدان المنطقة العربية.

 ويمكن القول لتقريب المثال، إنه إذا كان إفساد الأيديولوجيات الأخرى كالقومية واليسارية وغيرهما، هو بمثابة إفساد داخل إطار معين، فإن سردية الإسلام السياسي هي إفساد للإطار ذاته وتدمير لصيغة الدولة الوطنية الضامنة للاستقرار والسلم الأهليين في كل بلد على حدة.

الفكرة التي ابتدعها حسن البنا في القرن العشرين، مستنداً إلى ما توهمه "شمولية الإسلام" وأسس على تلك الشمولية فكرة أخطر منها، وهي أن "الإسلام دين ودولة"، هذه الفكرة الخطيرة كشفت عن سرطان خبيث لا تزال تعاني منه المنطقة العربية، عبر ما سُمي بالإسلام السياسي.

وإذا ما حاولنا تفكيك هذه السردية المفخخة، سنجد أنها تنطوي على مغالطة مفهومية ومركزية واضحة عبر دمجها بين مفهومين منفصلين في مفهوم واحد.

فالدين الذي هو الإسلام جاء وصفه في كتاب الله سبحانه وتعالى بأنه "دين" وليس دولة، وذلك في قوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام"، فالإسلام كما وصفه الله سبحانه وتعالى في كتابه هو دين وليس دولة.

هذا يعني أن التفكير في الدين بوصفه دولة، سيؤدي بالضرورة إلى شكل معين للدولة (وهي في الحقيقة الدولة التي كانت في ذهن حسن البنا حين أطلق مقولته تلك في القرن العشرين، أي الدولة الوطنية الحديثة، وليس دولة الخلفاء الراشدين كما يريد أن يوهم الإخوانُ الناس).

فالدولة الوطنية الحديثة هي دولة تختلف تماماً في سياقاتها ونشأتها وفكرتها عن روح الدين الإسلامي الذي هو للناس كافة كما قال القرآن، ولكن الدولة الوطنية حصريةٌ على مواطنيها الذين تشملهم بموجب الأرض والحدود والجنسية، والأدهى هو أن فكرة حسن البنا عن "الإسلام دين ودولة" تضمر ما هو أخطر من ذلك، أي ستضمر بالضرورة تناقضاً جوهرياً مع مبدأ الدولة الحديثة.

فحين يسعى الإخوان المسلمون إلى الحكم السياسي في أي دولة، فهم عبر سردية الإسلام السياسي، في الحقيقة، يسعون إلى ضد كل ما يفرضه مبدأ الدولة الوطنية ذاتها، من انتظام المواطنة وشرطها العابر للأديان والمذاهب والحدود والهوية الوطنية.

ما يعني بالضرورة أن في كل حكم للإخوان المسلمين لدولة ما من الدول العربية، تهديداً حقيقياً لمنظومة الدولة الوطنية وفكرتها الجوهرية القائمة على انتظام علاقة موضوعية للمواطنة لا يعترف العالم الحديث إلا بها.

كما أن الخطورة تتكشف حقائقها المرة حين تتفجر تداعيات الأيديولوجيا الكارثية حال وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة والشروع في تطبيق فكرة شمولية الإسلام على الدولة.

وبطبيعة الحال، ولأن الفكرة هي أصلاً فكرة أيديولوجية، أي لا معاني موضوعية منضبطة لها أو قابلة للانتظام المفيد في سوية عامة للجميع، سيكون السعي وراء الأوهام هو مبرر الهروب إلى الأمام، إذ سيتكشف عبر تلك الأيديولوجيا القاتلة للإسلام السياسي: أن ما سيكون مكلفاً وباهظاً في حياة الناس بعد سيطرة الإسلاميين على الحكم بسنوات طويلة (كما حدث في السودان من تقسيم للوطن، وحروب أهلية، وتدمير النسيج الأهلي والهوية الوطنية، والفساد) كان بالإمكان تلافيه عبر التحديق المعرفي والعلمي الرصين في نقد فكرة "الإسلام دين ودولة"، وتبيان تهافت مقولتها غير المتماسكة علمياً بوصفها مقولة خاطئة مئة في المئة.

ولم يسبق حسن البنا إليها أي عالم من علماء المسلمين، فحتى العلامة الماوردي حين تحدث قبل حسن البنا بقرون طويلة، عن وظيفة الإمامة في كتابه "الأحكام السلطانية"، قال إنها "حراسة الدين وسياسة الدنيا".

لقد ابتدع حسن البنا بدعوته لحركة الإخوان المسلمين خطاً عمودياً قاتلاً للانقسام في مجتمعات المسلمين بما أسماه البعض بـ "أسلمة الإسلام" في مفارقة واضحة وكاشفة عن الخطاب العدمي للإسلام السياسي، وبالتالي فخخت جماعة الإخوان المسلمين مجتمعات المنطقة العربية بما أصبح، مع مرور الوقت، أخطر مهددات السلم المجتمعي ومهددات الدولة الوطنية في ديار المسلمين، ولا سيما بعدما تناسل عن يمينها من حركات عنف أصولي عدمي استلهمت منها أصل الفكرة، كالقاعدة وداعش وغيرهما!

وفي تقديرنا، أن الإخوان المسلمين عبر الإسلام السياسي الذي سمموا به الانتظام الأهلي والمدني في مجتمعات المسلمين، لن يكون بوسعهم أبداً التخلي عن سرديتهم هذه لسبب بسيط، هو أن أي تفكير نقدي في جدوى مفهوم الإسلام السياسي معرفياً، سيعني بالضرورة انهيار المعبد على ساكنيه، أي مواجهة نسف فكرة الجماعة من أساسها؟ ومن الذي يتبرع بهدم بيته أمام الناس؟

فقط، وحده التجريب الضار والممارسات الدولتية المسمومة لأفكارهم هي التي ستقنعهم أخيراً بلا جدوى فكرة الإسلام السياسي وعدميتها الأيديولوجية، ولكن بعد خراب عريض، تزهق فيه ملايين الأرواح، وتتقسم فيه الأوطان وتخرب فيه النفوس، ويعم الفساد... كما هو الحال في ما بات واضحاً لكل ذي عينين حيال ما صار إليه الوضع في السودان وفلسطين والصومال!

ولعل من أهم شرور الإسلام السياسي التي يختص بها من دون غيره من الأيديولوجيات، ولا سيما في طبعته الإخوانية، أنه، سواء أتى إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات، كما حدث في فلسطين ومصر، أو عبر الانقلاب، كما حدث في السودان، فإن أيلولة تجربته إلى الخراب والفساد العريض كامنة في بنيته ذاتها.

المزيد من آراء