Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فراغ ما بعد غورباتشوف

ما دور إرث الزعيم السوفياتي في تفسير حروب روسيا؟

ميخائيل غورباتشوف ارتبط إرثه بالانفتاح على الرئيس الأميركي رونالد ريغان وهدم جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي (بيكسا باي)

تعتز الثقافة الشعبية الروسية بشخصية "الأحمق المقدس" المستمدة من الطائفة الأرثوذكسية الشرقية، ولا تتناسق بأي شكل من الأشكال مع مبادئ المجتمع التقليدي. إن "الأحمق المقدس" هو الذي لا يفرط بالحقيقة مهما استخف بها الآخرون، و"الأحمق المقدس" هو الذي يتعثر في دروب الحياة ويختبر نجاحات فاشلة وإخفاقات ناجحة. وقد يكون "الأحمق المقدس" من الأنبياء، إذ ينشغل سواهم بالعالم بما هو عليه، يستشعر "الأحمق المقدس" بالعالم وفق ما قد يكون عليه، أو ربما وفق ما قد سيصير عليه مستقبلاً، في البداية قد تبدو حكمة "الأحمق المقدس" مرادفاً للحماقة، فيما قد تتخذ الحماقة شكل الحكمة عند بدايتها.

ولعل من المستطاع النظر إلى ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفياتي السابق الذي توفي في الـ30 من أغسطس (آب) الماضي عن عمر يناهز 91 عاماً بوصفه "أحمقاً مقدساً"، إذ لم يكن على الموجة نفسها مع المجتمع التقليدي الذي ولد في كنفه عام 1931، ومرد ذلك تحديداً إلى إخلاصه لكونه سوفياتياً، وعدم تخليه عن سوفياتيته حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. وطوال مسيرته الرئاسية تحدث غورباتشوف عن حقيقة مهمة تتعلق بالسياسة الدولية مفادها بأن إبداء الاهتمام بالإنسانية مهم بقدر الاهتمام بالأنانية الوطنية، وقد اكتست هذه الحقيقة أهمية خاصة في العصر النووي. ويتمثل أعظم إنجارات غورباتشوف بإصلاح الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات من القرن الـ20، وقد اتضح أنه أكبر إخفاقاته حينما أشعل وأجج نيران ثورات سلمية في مختلف أنحاء الإمبراطورية السوفياتية كلفت الاتحاد السوفياتي وجوده.

في المقابل من منطلق آخر كان غورباتشوف معاكساً لشخصية "الأحمق المقدس" وأبعد ما يكون عن كونه نبياً، ففي أوائل ثمانينيات القرن الـ20 قادته بديهيته إلى تصور ما قد يغدو عليه وجه العالم المرتقب. وقد شملت رؤيته للمدينة الاشتراكية الفاضلة آنذاك اتحاداً سوفياتياً يقوم على لينينية متألقة، وامتداد أوروبي سلمي من لشبونة إلى فلاديفوستوك وحرية وأخوة ومساواة. ولم يدخل في تلك الرؤية أي حسابات أو اعتبارات إمكانية أن تغير إجراءات غورباتشوف الإصلاحية حال العالم، ولم يستشعر احتمال سقوط الاتحاد السوفياتي، ولم يستشعر إمكانية انقسام أوروبا في تسعينيات ذلك القرن، بين فئة أولى عضو في الاتحاد الأوروبي وفئة ثانية تنضوي في حلف الناتو وفئة ثالثة خارج تينك المؤسستين. وكذلك لم توح إليه بداهته إمكانية صعود نجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يشبه غورباتشوف بإخلاصه للسوفياتية، ويختلف عنه من حيث عدم اقتناعه بالرؤية المثالية من جهة، وتقديره للنفوذ السوفياتي (والنفوذ الروسي) من جهة أخرى.

ففي نهاية الأمر يكمن السر وراء غموض غورباتشوف في وجود فارق شاسع بين غورباتشوف الإنسان وغورباتشوف رجل الدولة، وهما شخصان مختلفان للغاية.

دماثة الرجل وجلافة النظام

لربما كان غورباتشوف متغطرساً إبان قمة تألقه حينما كان نموذجاً يحتذى به لدراسة حال المثقفين إبان اعتلائهم السلطة، مع ميلهم إلى الانقياد خلف أفكار عظيمة حتى لو وصل الأمر إلى حد التضحية بالذات. وفي المقابل امتلك غورباتشوف دماثة استثنائية، ولم تقتصر دماثته على النظام السوفياتي إذ تسللت الجريمة بخفة إلى مقاليد الدولة، بل تعدتها إلى استعداده لتحمل عبء تكاليف لا يقبل بها سوى قلة قليلة من السياسيين أمثاله، بالتالي يعني ذلك أن غطرسة غورباتشوف لم تنهه يوماً عن بذل الغالي والنفيس في سبيل المبادئ التي يؤمن بها ويستند عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد كان لتلك الدماثة تأثيرات مهمة في مسار التاريخ العالمي، إذ لم يكن غورباتشوف رجل سلام بحق. وفي حالات عدة على غرار ليتوانيا حيث تسبب الجنود السوفيات في مقتل 14 متظاهراً سلمياً وإصابة 140 آخرين بجروح في يناير (كانون الثاني) 1991، لم يتوان عن اللجوء إلى عنف الدولة لقمع المبادرات السياسية التي لا تناسبه ولا يوافق عليها. إذاً لم تكمن دماثة غورباتشوف المعهودة في رفضه العنف ككل، بل في رفض العنف الجماعي والعنف العدمي. لقد كانت وسائل العنف الجماعي في متناوله دوماً، لكنه اختار في مناسبات عدة عدم استخدامها ضد المنشقين أو الحركات الانفصالية في جمهوريات البلطيق وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية والمجر وبولندا. لم يرغب أبداً في التخلي عن تلك الجمهوريات السوفياتية أو الدول التابعة لموسكو، لكنه فعل ذلك وتخلى عنها، وشكل ذلك هدية نادرة في سجلات التاريخ الأوروبي.

ثمة هدية أخرى أقل وضوحاً وأكثر تعقيداً تتمثل في الطريقة التي تنازل بها بنفسه عن سلطته، مع حلول كانون الأول (ديسمبر) 1991 كان رئيس "مجلس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية" بوريس يلتسين قد تفوق عليه، مستغلاً حال الضعف التي ألمت بغورباتشوف على خلفية محاولة الانقلاب التي نفذها متشددون سوفيات ووضعته قيد الإقامة الجبرية في وقت سابق من العام نفسه، تحديداً في أغسطس (آب). وصحيح أن الانقلاب لم يكتمل بسبب قلة كفاءة المتآمرين، لكن بعدها بأشهر قليلة ومع شروع يلتسين ونظرائه الأوكرانيين والبيلاروسيين في تفكيك الاتحاد السوفياتي أجبر غورباتشوف أخيراً على التنحي. ورداً على ذلك لم يستدع الجيش ولم يدع إلى أعمال عنف في الشوارع، ولم يلتمس دعم مناصريه في الاستخبارات السوفياتية للبقاء في السلطة عنوة، بل ارتأى أن يتحول إلى جورج واشنطن روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبتصرفه على هذا النحو أكد غورباتشوف أن التداول السلمي للسلطة كان ضرورياً وممكناً، وأنه بخلاف القادة السوفيات السابقين أمثال جوزيف ستالين وليونيد بريجنيف، وبخلاف بوتين على الأرجح، يفضل ألا يموت في منصبه، اقتناعاً منه بضرورة عدم تمسك أصحاب النفوذ بالكرسي بأية كيفية وأي ثمن.

 

فجوة على الطراز السوفياتي

ربما كان غورباتشوف إنساناً دمثاً، لكنه كان بالدرجة الأولى رجل دولة سيئاً إلى حد الكارثة، وعلى الرغم من ثقته بنفسه وتألقه الفكري وتصرفاته النبيلة لم يكن لديه أدنى فكرة عما يفعله، فباسم الحفاظ على اللينينية التي لم يكن لها تأثير كبير في الأداء الفعلي للاتحاد السوفياتي اتخذ سلسلة من الإجراءات التي سرعان ما خرجت عن نطاق السيطرة، وبعد منحه الأفراد والجماعات مزيداً من الحرية من أجل إنقاذ الاتحاد السوفياتي اضطر إلى عدم التدخل الوقوف متفرجاً أثناء استخدامهم تلك الحرية لتقويض الاتحاد السوفياتي. الظاهر أن غورباتشوف لم يفهم دوافع الناس الذين حكمهم، ولم يفهم وطنيتهم واستهتارهم، ولم يقدر دور الإكراه في إبقاء الاتحاد السوفياتي واقفاً على قدميه. يمكن القول إنه كان ساذجاً في مدى إداركه لما قد يتأتى من تضاؤل هذا الإكراه عبر تطبيق الـ"غلاسنوست" (الانفتاح) والـ"بيريسترويكا" (إعادة الهيكلة) اللذين ضجت بهما فترة ولايته.

ولا يلام غورباتشوف على الفظائع التي ارتكبها بوتين في حروبه في أوكرانيا، وإذا ظهر تفاوت في مواقفه المعادية للقيصر [بوتين] الذي لم يكن يطيقه، فهذا لا يعني بأنه كان يؤيده أو يؤيد خوضه لهذه الحروب، لكن يتحمل غورباتشوف المسؤولية عن مروحة الظروف والأوضاع التي مهدت لنشوب حروب بوتين ونسفت علاقات روسيا مع دول الغرب. أولم تؤد حنكته غير الكفوءة إلى خلق فراغ هائل في شرق أوروبا ووسطها؟ أولم تكن دماثته الشديدة وعدم امتلاكه رؤية مستدامة سبباً في منعه من إبقاء هذه المنطقة المميزة استراتيجياً تحت سيطرة موسكو؟ أولم تكن نزعته السوفياتية وراء إحجامه عن التفاوض على مجموعة أخرى من الترتيبات، بل إغراقه في لجة الارتباكات التي تلت ذلك؟

لم يكن لدى غورباتشوف رؤية مستدامة لمنطقة شرق ووسط أوروبا التي تتميز بأهمية استراتيجية حاسمة

نعم بالتأكيد، ومع هذا كله حينما رحل غورباتشوف عن السلطة مكرهاً عام 1991، ترك فراغاً كبيراً تسبب في وابل المشكلات التي أثقلت كاهل روسيا والغرب. وقد اعتبر بوتين ذلك الفراغ خسارة فادحة لروسيا، ويتشارك بوتين تلك الرؤية مع شريحة واسعة من الروس، ويحاجج بوتين بأن ما خسرته روسيا يجب استعادته بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر. وانطلاقاً من هذا الاعتبار بدأ بوتين حروب الخلافة السوفياتية في جورجيا عام 2008 وأوكرانيا عام 2014، بعد مرور أقل من عقدين على انهيار الاتحاد السوفياتي. أما الغرب فقد رأى في هذا الفراغ مكسباً له، وأثبتت مجموعة الدول التي نالت استقلالها عام 1991 صحة هذه الفرضية. وفي المقابل لو أن الغرب استوعب فعلاً حجم الفراغ الذي خلفه غورباتشوف وعول عليه في إرساء بنية أمنية عملية لأوروبا في تسعينيات القرن الـ20، لما حدثت حرب أوكرانيا اليوم. وصحيح أن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي قد نجحا في ملء جزء كبير من الفراغ، لكنهما لم يملأه بالكامل، وبين الفجوة والأخرى نشأت حرب باردة جديدة.

أياً يكن لا ينبغي للنقد الموجه إلى غورباتشوف رجل الدولة أن يغطي على الإعجاب الذي يستحقه غورباتشوف الإنسان، من المؤكد أن الزعيم الراحل لم يكن مقدساً، لكنه لم يكن ذلك الأحمق المقدس. لم يكن غورباتشوف شريراً على الرغم من ازدراء كثير من الروس له، ووفق وصف الأمير هاملت لوالده الملك المتوفى "لقد كان إنساناً بكل ما للكلمة من معنى".

فورين أفيرز

يوليو (تموز) / أغسطس (آب) 2022

اقرأ المزيد

المزيد من