Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غورباتشوف القشة

دخل الحزب الشيوعي عام 1952 وبعد 4 عقود بات يمارس الدعاية لشركات رأسمالية مقابل ملايين الدولارات

ميخائيل غورباتشوف عاش المفارقات التاريخية وكان لاعباً ساحراً فيها (أ ف ب)

شخصية مثل ميخائيل غورباتشوف شخصية روائية بامتياز، فهو يمثل قرناً من الزمان وهو الساحر الذي أخرج الأرنب من القبعة أو بحسب المثل العربي "القشة التي قصمت ظهر البعير". كان رئيس الحزب الشيوعي من 1985 إلى 1991 وبات رئيس الاتحاد السوفياتي 1990/ 1991 وأشرف على نهاية الرجل المريض/ الإمبراطورية السوفياتية. فأي بطل تراجيكوميدي سيكون في نظر مؤرخين وقد مثل أصعب وأسهل الأدوار في مسرحية التاريخ، منذ كان ثمة تاريخ وحتى يوم رحيله في 30 أغسطس (آب) 2022؟

ولد غورباتشوف في 2 مارس (آذار) 1931 ابناً لفلاح أوكراني روسي في إمبراطورية روسية تحمل اسم الاتحاد السوفياتي، ثم مات وهناك قيصر روسي يدعى بوتين، هاجسه الأكبر أن يكون بطرس الأكبر، أن ينشئ أو يستعيد الإمبراطورية الروسية. ولد غورباتشوف في زمن على أبواب حرب كبرى ومات والعالم مهدد بحرب مماثلة، هو الأوكراني الأصل يموت وروسيا تهاجم أوكرانيا.

فأي شخصية تراجيدية في الآداب وفي الحياة قبلاً تشبهه، من ليس كمثله أحد؟ الشيوعي من دخل الحزب عام 1952، كان بعد أربعة عقود الرأسمالي من يمارس الدعاية لشركات رأسمالية منها "بيتزا هات" مقابل ملايين الدولارات، كأنه يترسم طريقة الإنسان الأول "سيدنا آدم"، يرتكب الخطيئة ليخرج من جنة الاشتراكية إلى جحيم الرأسمالية، هكذا هو عند الاشتراكيين الحمائم، فيما هو عند الشيوعيين الصقور زيوس كبير آلهة اليونان، لكن بوظيفة عميل الاستخبارات الأميركية  CIA.

ميخائيل غورباتشوف عاش المفارقات التاريخية وكان لاعباً ساحراً فيها، مما جعله نجم النجوم. وفي هذا يذكر بشخصيتين سوفياتيين مفارقتين، أولهما لينين منشئ الاتحاد السوفييتي كأول إمبراطورية دينها مذهب إنساني هو الاشتراكية ونبيها ماركس، غير أن مهمة غورباتشوف كانت حسن الختام، وثانيهما وسط العقد نيكيتا خروتشوف الفلاح من ولد عند حدود أوكرانيا وزوجته أوكرانية حتى اتهم أنه ضم القرم هدية لأوكرانيا من أجل عينيها! خروتشوف هذا خليفة ستالين من قلب الطاولة عليه وفي عهده كان النجم الكوميدي الإمبراطور من وضع العالم على شفا حفرة نووية ومن خطب بحذائه في مقر مجلس إدارة العالم/ الأمم المتحدة وكان غورباتشوف عام 1955 أصبح مدافعاً متحمساً لإصلاحات خروتشوف المناهضة لستالين.

كنت في السجن حين هبت عاصفة غورباتشوف بجناحيها، الـ"غلاسنوست" الانفتاح لتعزيز حرية التعبير والصحافة والـ"بيريسترويكا" دولة اللامركزية وتحسين الكفاءة، عندئذ اجتاحتنا هذه العاصفة كما اجتاحت العالم وناصرها السوفيات قبل أي أحد آخر كما ناصرناها نحن السجناء اليساريين!. وكان غورباتشوف من جهة أخرى شاهد موت، فجاء إلى زعامة الإمبراطورية السوفياتية في غضون ثلاثة أعوام من وفاة بريجنيف البيروقراطي الأكبر وبعد زعيمين خلفا بريجنيف توفيا في فترة وجيزة، يوري أندروبوف وتشيرنينكو. ومن هذا التأييد شبه المطلق وحال الموت التي تعيشها الإمبراطورية، كان غورباتشوف شاهد قبر، القشة قاصمة ظهر البعير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد خروجي من السجن مباشرة حصلت على رواية "المعلم ومارغريتا" أو "الشيطان يزور موسكو" للكاتب الأوكراني ميخائيل بولغاكوف 1891/1940 من كتبها قبيل وفاته، فمنعت ولم تصدر إلا عام 1967 بعد موت مؤلفها بـ27 عاماً، وهذه الرواية الهجائية تدور حول زيارة الشيطان إلى الاتحاد السوفياتي.

حين طالعتها بدا لي أن بولغاكوف كتب مرثية للاتحاد السوفياتي عام 1940 وأن غورباتشوف بعد نصف قرن ينفذ عملية دفن لكيان مسيرته العظيمة، أن فعل ما فعل في العالم وهو يحتضر. ولقد استقبلت الرواية في الغرب وأميركا باعتبارها كشافة المستور وكتبت "نيويورك تايمز"، "من فاوست ومن مواجهة بيلاطس ومن متى ويهوذا وكانط وتولستوي وغوغول وغيرهم يستمد بولغاكوف رؤيته في مواجهة تلك الأيام الشديدة الوطأة على الناس في الاتحاد السوفياتي، الأيام التي انتشرت فيها الاتهامات بالعمالة وكراهية الأجانب والشك في كل شخص والتعرض للاعتقال لأدنى سبب وحيث تعيش عائلات عدة في شقة واحدة ويسعى الناس عن طريق التزلف والخداع إلى تحسين أوضاعهم. إن بولغاكوف يواجه بروح هزلية ساخرة ذلك الجنون الشيطاني وتلك الأوضاع السوريالية".

بولغاكوف وخروتشوف وغورباتشوف الثلاثي من كتب الكوميديا السوداء للاتحاد السوفياتي، فكشفوا عن فداحة إنشاء إمبراطورية تحت قناع أيديولوجيا إنسانية تستهدف المساواة بين البشر، لكن مهمة غورباتشوف، المهمة المستحيلة الكبرى، وضع اللمسة الأخيرة وحسن الختام. وعلى الرغم من أن كلف إنشاء الإمبراطورية كان فادحاً، فإن النهاية سلسة ما تشبه نهاية أسطورة أو رواية، كما رواية المعلم ومارغريتا/ الشيطان يزور موسكو.

غورباتشوف الإمبراطور الاشتراكي، فالفرد الرأسمالي، مات بسلام بعد عمر طويل وحمل إلى مثواه الأخير كمواطن روسي بسيط ومن دون ضجيج رسمي. من عاش الحياة بالطول والعرض أو كما يقال من ليس كمثله أحد يبقى شخصية تراجيدية إغريقية أو شكسبيرية تدور حولها التأويلات وتتعدد وتختلف.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل