Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثورة ال "دي أن آي" تكتسح علم النفس والأعماق الإنسانية

روبرت بلومين يعتبر أن "جني" الجينوم خرج من القمقم ولن يعود أبداً إليه

علم الجينات يتوسع أكثر فأكثر (رويتزر)

"المخطط الوراثي كيف يجعلنا ال "دي أن آي" DNA من نكون"، تأليف روبرت بلومين Robert Plomin، وهو عالم نفس ووراثة أميركي، اشتهر بالأبحاث التي أجراها على التوائم وفي مجال علم الوراثة السلوكي. وله كتب عدة في هذين المجالين، بعضها مصنف ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وسبق له أن شغل مناصب أكاديمية في جامعتي كولورادو وبنسلفانيا قبل أن يُدعى إلى بريطانيا ليؤسس مع السير مايكل راتر مركز أبحاث طب النفس الاجتماعي الوراثي التطوري، الذي يهدف إلى الجمع بين الإستراتيجيات الوراثية والبيئية لفهم الاختلافات الفردية في التطور السلوكي. ويعمل بلومين أستاذاً لعلم الوراثة السلوكي في معهد الطب النفسي، وعلم الأعصاب في كينغز كوليدج، لندن. والكتاب الذي نحن بصدده، ترجمه نايف الياسين، حديثاً، إلى اللغة العربية، لحساب سلسلة "عالم المعرفة"، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، علماً أن نسخته الانجليزية صدرت في العام 2018، ويتألف من تمهيد و14 فصلاً وخاتمة، وجاءت ترجمته في نحو 300 صفحة.

في التمهيد يكشف بلومين أن كتابه هذا؛ يحقق قدراً من التشابك بين حكايته الشخصية والـ "دي أن آي" الذي يمتلكه، لإضفاء مسحة شخصية على البحث وتشاطر تجربة الاضطلاع بالبحث العلمي. ويأمل أن يقدم نظرة من الداخل لمسار التعاون المثير الذي تأتَّى من الجمع بين علم الوراثة وعلم النفس، الذي توج بثورة الـ"دي إن آي". وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعبر عن رؤيته الشخصية للكيفية التي يجعل فيها الـ "دي أن آي" من هم البشر، فقد حاول ما وسعه تقديم البحث بنزاهة ومن دون مبالغة. لكن، ومع ابتعاده عن البيانات والمعطيات لاستكشاف تداعيات هذه النتائج، فإن بعض القضايا ستكون مثيرة للجدل.

 

 

بعد اكتشاف بنية الـ "دي أن آي" بأكثر من ستين عاماً – يقول بلومين - وبعد إجراء تسلسل الجينوم بخمسة عشر عاماً، دخل عالم الجينوم إلى علم النفس. وتمثلت المحطة الأولى على الطريق في إدراك أن الـ"دي أن آي" هو العامل الأكثر أهمية في جعلنا مَن نكون، فاختلافاته الموروثة تشكل جوهر الفردانية البشرية. ويضيف بلومين في إطار بلورته لخاتمة كتاب "المخطط الوراثي"، أنه  وعلى مدى القرن الماضي بنت الأبحاث التي استندت إلى دراسات التوائم والتبني، جبلاً من الأدلة التي توثق أهمية اختلافات الـ "دي أن آي" الموروثة، والمسؤولة عن نصف الاختلافات بيننا؛ ليس فقط في أجسامنا بل في عقولنا أيضاً، وذلك في ما يتعلق بالصحة والمرض العقليين والشخصية والقدرات والإعاقات الإدراكية. فالمسؤولية عن نصف التباين في هذه السمات المعقدة تتجاوز بكثير أي أحجام أثر أخرى في علم النفس، وهي التي نادراً ما تكون مسؤولة عن 5 في المئة من التباين، بل 50 في المئة. ومن نتائج الدراسات في هذا الصدد أن التوريث يزداد على مدار الحياة، خصوصاً بالنسبة إلى الذكاء. ومنها كذلك أن الآثار البيئية تجعل الأطفال الذين يكبرون في الأسرة نفسها مختلفين، تماماً، كالأطفال الذين تربوا في أسر مختلفة. ونتائج تلك الدراسات عموماً أدت إلى نظرة جديدة إلى ما يجعلنا مَن نكون، فالوراثة مسؤولة عن معظم الاختلافات في ما بيننا، والـ "دي أن آي" هو المخطط الذي يجعلنا مَن نكون.

الدرجات المتعددة الجينات

 

ويؤكد بلومين في هذا الصدد أن الآثار البيئية مهمة أيضاً، ولكنها غير منتظمة وغير مستقرة، ومن ثم ليس بوسعنا فعل الكثير حيالها. علاوة على ذلك فإن ما يبدو أنها آثار بيئية، تعود في كثير من الأحيان إلى اختيارنا بيئات تتناسب مع ميولنا الجينية. وفي ما يتعلق بما عثرت عليه دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، فإنه كان غبار الذهب، وليس كتلاً صلبة منه، على حد تعبير المؤلف. ولكن جمع حفنات من غبار الذهب جعل من الممكن التنبؤ بالميول الوراثية للأشخاص. ويمكن للموجة الأولى من الدرجات متعددة الجينات، التي تتكون من عشرات آلاف ارتباطات التعددات المأخوذة من دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، أن تتنبأ بـ 17 في المئة من التباين بالنسبة إلى الطول، و6 في المئة من التباين بالنسبة إلى الوزن، و11 في المئة من بالنسبة إلى التباين في الإنجاز الدراسي، و7 في المئة من التباين في الذكاء، و7 في المئة من التباين في قابلية الإصابة بالفصام. لقد باتت الدرجات متعددة الجينات أصلاً أفضل متنبئات نمتلكها بالنسبة إلى الفصام والإنجاز الدراسي.

 

والأمر الأكثر أهمية بكثير أنه على عكس أي متنبئات أخرى فإن الدرجات متعددة الجينات تتنبأ بالقوة نفسها منذ الولادة، وتنبؤها سببي، بمعنى أن لا شيء يغير اختلافات الـ "دي أن آي" الموروثة. وهكذا تأتينا موجة بعد موجة من أبحاث الدرجات متعددة الجينات، وتجعلنا كل موجة أقرب إلى العتبة العليا التي ستحدد جميع تباينات الـ"دي أن آي" المسؤولة عن التوريث. وفي الوقت الراهن – يقول المؤلف - لا يصل مد الأمواج إلى هذا الحد المرتفع للتوريث، جزئياً، لأن ذرات غبار الذهب صغيرة جداً إلى درجة يصعب العثور عليها... "وعلى الرغم من ذلك فبحلول الوقت الذي تقرأ فيه هذا الكتاب، ستكون القوة التنبؤية لجميع هذه الدرجات متعددة الجينات أكبر بكثير من تلك الموصوفة فيه، فالاتجاه الوحيد من هنا هو إلى الأعلى". وقبل ظهور الدرجات متعددة الجينات – يؤكد بلومين - أظهرت الأبحاث أن درجة التوريث كبيرة وموجودة في كل السمات النفسية، ولكن هذه كانت مجرد بيان عام لم يكن من الممكن ترجمته إلى تنبؤات جينية لشخص ما.

التنبؤ بالسمات النفسية

الآن، يقول بلومين، تُحدِث الدرجات متعددة الجينات تحولاً في علم النفس السريري والأبحاث النفسية، لأن اختلافات الـ"دي أن آي" في كل الجينوم يمكن استخدامها للتنبؤ بالسمات النفسية لكل واحد منا. ولا شك في أن بعض هذه النتائج وتفسيراتها ستكون مثيرة للجدل، فالناس قلقون حيال التغيير، والدرجات متعددة الجينات ستحدث بعض أكبر التغييرات على الإطلاق، مع اكتساح ثورة الـ "دي أن آي" لعلم النفس بموجات من الدرجات المتعددة الجينات... "وعلى الرغم من أن تناولنا بعض الهواجس المتعلقة بتطبيقات هذه التخوم المتقدمة ومضامينها، أشعر بالإثارة حيال هذه التغييرات لأنها حافلة بالإمكانات الكامنة لتحقيق الخير، ونستطيع تحاشي المخاطر إذا كنا متيقظين لها"، بحسب ما أورده المؤلف في خاتمة الكتاب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووأضاف بلومين: "الآن هو الوقت المناسب لإطلاق نقاش أوسع حول تطبيقات ثورة الـ "دي أن آي" ومضامينها في علم النفس، لأنها ستؤثر فينا جميعاً. والسبب الرئيسي الذي دفعني لوضع هذا الكتاب كان تعزيز هذا النقاش وتقديم معرفة أساسية بـ "دي أن آي" نحتاج إليها لمعالجة هذه القضايا المعقدة بطريقة قائمة على المعرفة بما نناقشه. إن علم الوراثة أهم بكثير من أن نتركه لعلماء الوراثة وحدهم".

التخطيط لمسار حياتنا

وبحسب خلاصة مضمون الكتاب الواردة على ظهر غلافه: "سنتمكن قريباً من تحديد احتمال أن يكون مولودنا الجديد عرضة للإصابة بالاكتئاب، أو الحصر النفسي، أو الفصام طول حياته، وسنعرف مدى احتمال أن يعاني هذا المولود صعوبات في تعلم القراءة، أو السمنة أو مرض ألزهايمر عندما يتقدم في العمر". ونقلاً عن بلومين، فإن ذلك سيجعلنا أكثر تفهماً للأشخاص الذين يعانون السمنة المفرطة أو الاكتئاب، وسيمكننا من دعم أطفالنا بشكل أفضل، بل التخطيط لمسار حياتنا على نحو أكثر فعالية. لكنه يخلص إلى بعض الاستنتاجات "المستفزة"، ومن بينها أن طرائق التربية التي يستعملها الأهل لا تؤثر كثيراً في الحصائل التي يحققها الأطفال عندما تؤخذ العوامل الوراثية في الحسبان.

يدرس بلومين منذ نحو نصف قرن من الزمن، العناصر الوراثية المكونة للشخصية، وهو رائد في دراسات التوائم المتطابقين الناشئين في أسر مختلفة، وفي مقارنة الأطفال المولودين والمتبنين الناشئين في الأسر نفسها. ومن خلال هذه الدراسات التي شملت آلاف المشاركين واستمرت على مدى عقود من الزمن، درس بلومين وزملاؤه الحصة التي تساهم فيها كل من الجينات والبيئة على حدة، أو ما يصاغ عادة على شكل ثنائية الطبيعة والتنشئة، في تشكيل الشخصية، ويجد أن الجينات هي الغالبة دوماً.

يكتب بلومين، وهو الحجة في اختصاصه، عن الثورة التي أحدثها اكتشاف الجينوم البشري، والتي ستغير من دون شك حياتنا ومجتمعاتنا. ولا يحتاج الأمر سوى معرفة متواضعة بالطريقة التي أسيء بها استخدام علم الوراثة كي نشعر بالقلق. أضف إلى ذلك التعطش للبيانات الشخصية على المنصات الرقمية العملاقة، مثل "غوغل" و"فيسبوك"، والكفيلة بأن يتحول القلق إلى رعب. هذا فضلاً عن استخدام هذه البيانات من قبل أرباب العمل وشركات التأمين. ولا بد للمرء أن يكون مفرطاً في التفاؤل (مثل بلومين) كي يعتقد أن مجتمعاتنا يمكن أن تتعامل مع العالم الجديد لعلم الجينوم الشخصي من دون تبعات سلبية. وفي كل الأحوال، يقول بلومين إن "جني الجينوم قد خرج من القمقم، ولن نستطيع إعادته إليه، حتى لو حاولنا".

اقرأ المزيد

المزيد من كتب