Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركية نينا دي غرامونت تفشي أسرار أغاثا كريستي

 رواية بوليسية تنطلق من النصوص الملغزة للكاتبة البريطانية الرائدة

أغاثا كريستي وأسرارها بريشة طوم أدم (صفحة الرسام - فيسبوك)

 بين العنوان والمتن في رواية "سر اختفاء أغاثا كريستي" للكاتبة الأميركية نينا دي غرامونت، الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بتعريب ماجد حامد، ما بين الاسم والمسمى، ذلك أن المفردات الأربع في العنوان التي تشي بالاختفاء والغموض والبوليسية تجد ترجمتها في أحداث المتن، وفي قول الراوية: "... لقد اختفينا من المدارس، من مسقط رأسنا، من عائلاتنا ووظائفنا، وفي يوم من الأيام، كنا سنمارس أعمالنا، أو نجلس في الفصل، أو نضحك مع الأصدقاء، أو نسير جنباً إلى جنب مع أحبائنا، ثم، سيحدث شيء مريع" (ص 292). وهذا الشيء المريع هو ما تتمحور حوله أحداث الرواية، والروائية دي غرامونت كاتبة أميركية وأستاذة جامعية، تقيم في كارولينا الشمالية، وتدرس في جامعة نورث كارولينا. والرواية هي السادسة بعد "قابلني في النهر"، "كل شيء صغير في العالم"، "ثرثرة الزرزور"، "أيلول الماضي"، و"المسافة التي تفصل بيننا".

 إطار بوليسي

 في روايتها السادسة، تطرح غرامونت أسئلة الأمهات العازبات في المجتمع الغربي، وموقع المرأة في هذا المجتمع في الربع الأول من القرن العشرين، وتداعيات الحرب العالمية الأولى على الجماعات والأفراد، وتجارة الأطفال، والتبني، والتسلط الديني، والعدالة وغيرها. وهي تفعل ذلك في إطار بوليسي. يجعل القارئ المتعجل يطفو على سطح الأحداث ويهتم بمعرفة السر وحل اللغز. أما القارئ المهتم بما تحت السطح فيغوص على الأسئلة المطروحة أعلاه، وربما يعود ببعض الأجوبة. وبذلك، لا تعود البوليسية مجرد إطار للتسلية والمتعة وجلاء الغامض واكتشاف السر بل تصبح منصة لطرح الأسئلة الكبرى مما يشغل الإنسان، في لحظة روائية معينة، وفي عالم مرجعي محدد.

والمفارق في الرواية أن الكاتبة تحول روائية معروفة إلى شخصية روائية محورية، ما يوهم القارئ للوهلة الأولى أنه إزاء سيرة روائية، غير أن توزيع البطولة بين هذه الشخصية التاريخية المعروفة وشخصية روائية أخرى تسند إليها مهمة الروي، يزيل هذا الوهم، بالتالي لا بد من التعاطي مع أغاثا كريستي شخصية روائية كغيرها من الشخصيات وليس شخصية تاريخية معروفة بكتابة الرواية البوليسية.

 ذكريات ووقائع

 تجري الأحداث بين مقاطعة كورك الإيرلندية ومقاطعة بيركشاير البريطانية والمناطق المجاورة لكلتا المقاطعتين، في الربع الأول من القرن العشرين، وينتظمها سلكان سرديان، سلك الذكريات التي تمتد على مدى الربع المذكور، وتتمحور حول الآنسة نان أوديا التي تعهد إليها الكاتبة بمهمة الروي، وسلك الوقائع التي تحدث خلال 11 يوماً تتموضع بين 2 ديسمبر (كانون الأول) 1926 و14 ديسمبر 1926، وتتمحور حول أغاثا كريستي. والسلكان يتناوبان على الحضور النصي، ويتقاطعان في غير نقطة تقاطع، ويتعاقبان بوتيرة ثماني وحدات سردية للسلك الأول تحمل جميعها عنوان "هنا ترقد الأخت ماري"، و26 وحدة سردية للسلك الثاني تحمل جميعها عنوان "الاختفاء" مع اختلاف التاريخ بين وحدة وأخرى. وهكذا، يتحرك مكوك الروي بين "الرقاد" و"الاختفاء"، في حركات غير متساوية. والرواية، في نهاية المطاف، هي حصيلة التناوب والتعاقب والتقاطع بين السلكين المذكورين.

 صراع خفي ومعلن

 تقوم "سر اختفاء أغاثا كريستي" على صراع خفي ومعلن بين بطلتي الرواية، الزوجة أغاثا كريستي والعشيقة نان أوديا، وهو صراع حول الزوج العقيد أرتشي والابنة تيدي، تتعدد تمظهراته، ويغذيه عقم الزوجة ورغبتها في التعويض عن أمومة مفقودة وسرقة ابنة العشيقة ورغبتها في استعادتها، وحين ينجلي الصراع، في لحظة معينة، عن تباشير انتصار للعشيقة ويقوم أرتشي بإبلاغ كريستي قراره الانفصال عنها والارتباط بأوديا، تختفي الزوجة من دون سابق إنذار، ويشكل اختفاؤها البداية الفعلية للأحداث، على الرغم من وجود وحدات سردية سابقة تشكل البداية النصية في الرواية. وتنخرط في هذا الصراع شخصيات أخرى، بشكل أو بآخر، من قبييل: العقيد أرتشي، الحبيب فينيبار، المحقق تشيلتون، المفوض ليبينكوت، الخادمة هونوريا وغيرها. على أن مجريات الصراع تؤول إلى نهايات مناسبة لطرفيه والمنخرطين فيه، فيخرج كل منهم بأقل خسائر ممكنة.

 نزيلات الدير

  تتحدر نان أوديا من أب إيرلندي وأم بريطانية، وتقيم مع أسرتها في لندن، غير أن حنينها إلى الوطن الأم يدفعها إلى تمضية الصيف فيه والعمل في مزرعة عمها جاك وزوجته روزي، وهناك تتعرف إلى الشاب الإيرلندي فينبار ماهوني، وتنخرط معه في علاقة حميمة، حتى إذا ما عادت إلى لندن واكتشفت حملها منه، تعود إلى إيرلندا خفية عن أهلها لتفاجأ بالتحاقه بالجيش البريطاني وبرفض والديه استقبالها، فيقوم الأب بأخذها إلى الدير في ساندي كورنر المخصص للفتيات الحاملات خارج الزواج، وهناك، يكون عليهن العمل مقابل الإيواء، وتصادر حريتهن في الحركة والانتقال، ويفصل عنهن أطفالهن بعد الولادة، ويوضعون في حضانة مؤقتة، وينقلون إلى خلف الجدار الأسمنتي حتى يتم تبنيهم أو يرسلوا إلى دار الأيتام. ولم تكن نان بمنأى عن هذا المصير، فما إن تضع طفلتها جينفييف وتفرح بنموها حتى يتم بيعها من رجل بريطاني ثري، بتواطؤ من الأخت ماري كلير التي كانت تبدي لها لطفاً مزيفاً، فتثور ثائرتها وتحاول خنق الراهبة، وتفر من الدير، وتعود إلى بريطانيا للبحث عن طفلتها المفقودة. ومن خلال هذه الإقامة المؤقتة في مهجع ساندي كورنر، تفكك الكاتبة ما يحصل، في مثل هذه الأماكن، من انتهاك لحقوق الإنسان، واغتصاب جنسي، وتجارة أطفال، وتواطؤ بين القيمين عليها وتجار الأطفال. ولعل قيام نان وبعض الفتيات المتضررات، بقتل الأب جوزف والأخت ماري اللذين كانا يمضيان شهر العسل في فندق بيليفورت بعد نقض عهودهما، في مرحلة لاحقة، يشكل انتقاماً متأخراً من مرتكبي هذه الموبقات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وهكذا، تشكل الأمومة المطعونة المحرك الأساسي لتصرفات الراوية اللاحقة، فتبيح لنفسها كل الوسائل للوصول إلى غايتها المنشودة، حتى إذا ما التقت بطفلة صغيرة بالصدفة، بعد أربع سنوات من عودتها، خلال قيامها بزيارة أختها في توركواي، وهرعت الطفلة لتلف ذراعيها حول ساقها، تعتقد مستندة إلى حدسها الأمومي أنها ابنتها المفقودة، فتتقصى مكان إقامتها، وتخطط للانضمام إليها. وبذلك، تدخل إلى حياة أغاثا كريستي، وتسعى إلى الحلول مكانها، على الرغم من عدم انجذابها إلى الزوج، لكنها عاطفة الأمومة الأقوى من الحب والكره، تتحكم بخياراتها وتصرفاتها، فتضحي بحبيبها فينبار على الرغم من محاولاته الحثيثة استعادتها، وتتحمل الارتباط بأرتشي على الرغم من عدم ميلها له، ولا تتورع عن تخريب أسرة مستقرة، لتحقيق غايتها، وهو ما يتحقق في نهاية الرواية لا سيما أن حدسها الأمومي ثبتت صحته باعتراف أغاثا نفسها، ما يبرر الوسائل المستخدمة لبلوغ الغاية المشروعة.

الأمومة البديلة

 في المقابل، يشكل العقم والرغبة في الاحتفاظ بالزوج المحرك الأساسي لتصرفات أغاثا كريستي، فتوافق على قيام الزوج بشراء طفلة امرأة أخرى وتبنيها من دون علم الأم وموافقتها، تعويضاً عن عدم قدرتها على الإنجاب، ولعله هذا هو السر الذي تشير إليه الكاتبة في عنوان الرواية، ويتم الإفشاء به في مجرى الأحداث. وعلى الرغم من الصورة المثالية التي ترسمها غرامونت لكريستي في الرواية، بحيث تصفها بأنها "امرأة إنجليزية عاقلة، وعملية، وهادئة (...)، وراقية ورزينة" (ص 82)، وبأنها "لطيفة، وذكية، وخجولة، وخلوقة، وتراعي مشاعر الآخرين" (ص 243)، فإن ما تقدم عليه من تصرفات يندرج في إطار الواقعية المفرطة، فهي لم تستطع استيعاب انصراف زوجها عنها لأخرى، وتقدم على الاختفاء في منزل ريفي غير عابئة بما يمكن أن يترتب على اختفائها من نتائج، ما يثير قلق الزوج وخوفه عليها واستعداده للتراجع عن خطوته، ويدفع مئات رجال الشرطة للبحث عنها، ويجعل مفوض الشرطة ليبينكوت يكلف صديقه المحقق فرانك تشيلتون العثور عليها، ويقوم فينبار ماهوني حبيب نان أوديا بإيوائها والاهتمام بها في ضوء تقاطع مصالحهما بأن يستعيد كل منهما شريكه.

على أن مجريات الاختفاء والإيواء والبحث والتحقيق تؤول إلى نتائج مغايرة لتلك المتوخاة من هذه العمليات، فتتخلى أغاثا عن زوجها أرتشي وابنتها بالتبني تيدي وتنخرط في علاقة حب مع المحقق تشيلتون، وتتزوج نان أوديا من الزوج أرتشي كي تبقى إلى جانب ابنتها، ويعود الحبيب فينبار إلى وطنه إيرلندا ليؤسس أسرته. وبذلك، يخرج الجميع من الصراع بأقل خسائر ممكنة بل بربح معقول.

في "سر اختفاء أغاثا كريستي"، تقوم نينا دي غرامونت بتحويل اغاثا كريستي من روائية تخترع الأحداث وتتحكم بمساراتها وتضع لها المصائر المناسبة إلى شخصية روائية تقع عليها الأحداث، فتنفعل بها تارة وتفعل فيها طوراً، وتنزلها من برج التاريخ العاجي إلى حضيض الواقع العادي. وهل عمل الروائي غير ذلك؟       

    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة