منذ قيام السلالة الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي وتحويل المذهب الشيعي إلى مذهب حاكم في بلاد فارس، انبثق نوع من العلاقة العضوية بين شاهات الصفوية ورجال الدين الشيعة واستمر هذا الوضع فيما بعد، خصوصاً خلال العهد القاجاري (1889-1925).
وعلاوة على صيانة الدولة الشيعية أمام العالم السني الإسلامي، تشمل هذه العلاقة مصالح اقتصادية واجتماعية مشتركة واعتماداً متقابلاً، حيث كانت الفئتان وضمن ترابطهما المصلحي تخشيان أيضاً بعضهما البعض.
النظامان الملكي والديني والمصلحة العليا المشتركة
في فبراير (شباط) 1979 استفحلت التناقضات بين الحليفين التاريخيين، ومكن ذلك الشعوب الإيرانية من إسقاط النظام الملكي العتيد والمتجذر في بلاد فارس والمسيطر لقرون عديدة.
وأصبح رجال الدين، وفي مقدمتهم روح الله الخميني على رأس الثورة التي أطاحت ذلك النظام إثر غياب البدائل الأخرى، الديمقراطية واليسارية المقموعة في عهد الشاه ودعم الغرب للبديل الإسلامي في نهاية المطاف.
فعندما كنت معتقلاً في إحدى زنازين السجن السري في الأحواز اعترف لي أحد المحققين بأن نظام الشاه محمد رضا البهلوي كان أكثر قسوة مع الشيوعيين واليسار الإيراني قياساً بالإسلاميين المعارضين له، وقد سجنهم وأعدمهم وقمعهم أكثر من الإسلاميين، خوفاً من جاره الشمالي الاتحاد السوفياتي.
وهذا صحيح لأن الشاه كان يتودد لمعظم رجال الدين في قم وطهران وأبرزهم آية الله بوروجردي وكاشاني وآخرون، فيما كان يعارضه آية الله الخميني والطالقاني وعدد قليل.
ولا ننسى أن آية الله عبدالكريم الحائري اليزدي مؤسس الحوزة الدينية في قم، كان من الداعمين الرئيسين لرضا البهلوي أبي الشاه السابق، لخلافة السلالة القاجارية في الربع الأول من القرن العشرين ليصبح شاهاً بعد أن قام وعدد من رفاقه بانقلاب ضد تلك السلالة، متمتعاً بدعم التاج البريطاني.
وفيما كان رضا البهلوي يسعى لإقامة جمهورية بديلة للملكية القاجارية منعه الحائري من ذلك، مشجعاً إياه على اعتلاء العرش وتأسيس سلالة ملكية جديدة.
في الحقيقة كان دعم الحائري وحوزة قم الدينية للشاه رضا البهلوي أعمق وأهم من أن تصبح إيران ملكية أو جمهورية آنذاك، ويمس كل كيان الدولة المنهك تاريخياً وسياسياً، ولذا كان الدعم هو لإنشاء دولة قومية فارسية على حساب النظام الحكومي المتعدد القوميات والممالك، الذي كان قائماً في العهد القاجاري ويعرف بـ"الممالك المحروسة" المنصوص عليه في دستور ثورة المشروطة (1906-1909).
لقد تحمل الفرس أنفسهم ديكتاتورية هذه الدولة القومية على مضض، لأنها أدت إلى إلغاء حكومات الشعوب غير الفارسية في الممالك والأقاليم واحتكار السلطة السياسية والثقافية واللغوية بأيديهم، أي إنها حققت امتيازات لهم لم تكن قائمة منذ قرون.
ويظهر مما ذكرناه أن عظام الآيات ورجال الدين الكبار الشيعة ومعظمهم من الفرس يعتقدون أن إيران هي الدولة الشيعية الكبرى ولا يجب إضعافها، لأن ذلك سيؤدي إلى تفكيكها.
وبعد سقوط الشاه رضا البهلوي من قبل الحلفاء في 1941 وضعف الحكومة المركزية في طهران، حاول الأحوازيون والكرد والترك الأذريون تنفيذ المواد المتعلقة بدستور المشروطة، التي تنص على اللامركزية التي تمنح القوميات غير الفارسية حقوق تشبه الحكم الذاتي في إيران.
الحراك الأحوازي وبسبب الطبيعة القبلية للحركة التي كان يقودها الأمير عبدالله نجل الأمير خزعل الحاج جابر باء بالفشل، لكن تمكن الأتراك والكرد من بناء سلطة للحكم الذاتي في إقليم أذربيجان وأخرى في كردستان لمدة عام (1945-1946).
وعلى الرغم من استناد هذه التجربة إلى الدستور الإيراني آنذاك، غير أنه وباستثناء اليسار عارضتها ثلاث قوى سياسية فارسية نافذة وساندت الشاه في سحقها العسكري، الإسلاميون بزعامة آية الله الكاشاني، والقوميون بزعامة محمد مصدق، والقوى الملكية بزعامة الشاه محمد رضا البهلوي.
انفجار القضية القومية
انفجرت مسألة القوميات مرة أخرى عقب قيام الثورة الإسلامية في فبراير 1979 وأخذت الشعوب غير الفارسية تطالب باستعادة الحكم الذاتي، الذي كانت تتمتع به قبل مجيء الحكم البهلوي، غير أن النظام الإسلامي الوليد قمع العرب والتركمان والكرد والأذريين بيد من حديد، ولم ينفذ حتى المواد الهزيلة المتعلقة بحقوق هذه الشعوب والمنصوص عليها في دستور الجمهورية الوليدة، كما أنه لم يتمكن من السيطرة الكاملة على كردستان الثائرة أكثر من غيرها، إلا بعد 10 سنوات من قيام الثورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذه الفترة انشطرت طبقة رجال الدين إلى فئة غير فارسية تنقد النظام وتعارض جرائمه ضد القوميات غير الفارسية، مثل الشيخ شبير الخاقاني في عربستان، وآية الله شريعتمداري في أذربيجان، وعز الدين الحسيني في كردستان، وأخرى فارسية مسيطرة على الحكم أو منتفعة منه، تدعم هذا النظام على الرغم من ارتكابه تلك الجرائم.
إن تضمين المواد المتعلقة بولاية الفقيه في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1980 وتطويرها إلى الولاية المطلقة للفقيه في تعديل الدستور في 1988، لم يتم فقط من أجل هيمنة الخطاب الإسلامي في الدولة والمجتمع وحذف المنافسين السياسيين كالقوى الديمقراطية واليسارية والوطنية الفارسية فحسب، بل الأهم من ذلك من أجل الحفاظ على طبيعة الدولة القومية الفارسية، وكبت أي حراك للشعوب غير الفارسية تطالب بحقوقها القومية التي تصفها دوماً بالانفصالية.
وفيما كان شخص واحد، أي الشاه، هو الحاكم في البلاد قبل الثورة، ويوصف بظل الله على الأرض، أصبح ولي الفقيه بعد الثورة نائب الإمام المهدي ووكيل الأئمة والرسول على الأرض، وكل ذلك من أجل إصباغ حالة ميتافيزيقية على موجودات دنيوية وبشر لا يختلفون مع أبناء جلدتهم في الخلق.
الرحمة للشاه رضا البهلوي أم للدولة القومية الفارسية؟
بتطور النضال الثقافي والسياسي، والعسكري أحياناً لهذه الشعوب خلال العقدين الماضيين، وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الذي ينذر بحسب توقعات بعض المحللين الإيرانيين بانهيار ليس النظام السياسي فقط، بل بانهيار إيران أيضاً، أخذنا نشاهد ظاهرة تؤكد ما نتحدث عنه.
فبعد التظاهرات التي عمت عدة مدن إيرانية نهاية عام 2017 وأوائل عام 2018 وشاركت فيها الطبقات المسحوقة للمجتمع الإيراني سمعنا هتافاً تردده الجماهير وهو: "يا إصلاحي ويا أصولي، انتهى أمركم".
وعلق محمد خاتمي الرئيس الإيراني السابق وزعيم المعسكر الإصلاحي في إيران على هذا الهتاف بقوله، "يمكن اليوم هناك قلة تردد هذا الهتاف، لكن غداً سيعم البلاد لتقول الناس إننا سلمنا البلد للأصوليين من دون فائدة، وسلمناه إلى الإصلاحيين أيضاً من دون فائدة، ومن ثم يسعون لتغيير النظام، وهذا ما نخشاه".
وفي التظاهرات نفسها سمعنا لأول مرة هتاف "الشاه رضا لروحك الرحمة"، وذلك في مدينة مشهد شمال شرقي إيران، كما اندلعت تظاهرات واحتجاجات واسعة ضد ارتفاع سعر البنزين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 عمت 29 محافظة و129 مدينة في إيران، راح ضحيتها أكثر من 1500 شخص وفق وكالة "رويترز"، كادت تزعزع أركان النظام، غير أنه استطاع أن يسيطر على الأوضاع بقطع الإنترنت والقمع المفرط.
وقد سمعنا في تلك التظاهرات ومثيلاتها في الأعوام التالية الهتاف نفسه، الذي يترحم لأبي الشاه، فهناك أقوال تؤكد أن الأجهزة الأمنية التابعة للحرس الثوري ووزارة الاستخبارات هي التي تروج لهذا الهتاف، وذلك لاتهام المعارضين بأنهم ذات توجه ملكي، لإثارة الخوف بين الإيرانيين من عودة الديكتاتورية البهلوية، فيما يعتقد البعض الآخر أن هناك علاقات سرية تربط رضا البهلوي ابن الشاه الراحل والمقيم حالياً في الولايات المتحدة الأميركية وعناصر من الحرس الثوري الذين يقفون وراء ذلك.
فمقاربتنا للأمور تؤكد أنه، أولاً الذين يرددون هذا الهتاف لا يشكلون نسبة كبيرة من المتظاهرين، وثانياً أنه لم يردد في التظاهرات العمالية واحتجاجات المعلمين والمتقاعدين وأصحاب المهن الأخرى، وثالثاً أن جغرافية هذا الهتاف تنحصر في المدن الفارسية غالباً، وقلما نسمعها في مناطق القوميات غير الفارسية.
فإذا تمعنا وتعمقنا في ما يجري داخل إيران، نرى أن كل ما نشاهده من جهود لعودة الملكية تتم للحيلولة دون دمقرطة البلاد، ومن أجل استمرار نظام الدولة القومية الفارسية السائد منذ عهد البهلوي الأول، لأن استقرار أي نظام جمهوري ديمقراطي في إيران لا بد أن يفتح المجال للنشاط السياسي والثقافي والاجتماعي للشعوب غير الفارسية لتشكل أحزابها ومؤسساتها المدنية والسياسية والثقافية، وتقوم بذلك ببناء مجتمعها أسوة بالمجتمع الفارسي، وهذا ما تخشاه القومية المستفيدة من امتيازات الهيمنة اللغوية والثقافية والسياسية في البلاد.
إن المرددين لشعار الرحمة للشاه رضا البهلوي يحنون في الظاهر للعودة إلى نظام ديكتاتوري علماني لم يعيشوا فيه، غير أنهم غريزياً وفي الباطن يعبرون عن خشيتهم لانهيار نظام الدولة، الأمة ويشاطرهم الرأي قادة المعارضة من نوع رضا البهلوي وأمثاله الذين يدركون ذلك عن وعي.
وعلى هذا الأساس يعتقد بعض المتخصصين في الشأن الإيراني باستحالة إقامة الديمقراطية الحقيقية في إيران، لأن تلك الديمقراطية ستؤدي بالشعوب المقهورة إلى أن تطالب بحق تقرير مصيرها، وهذا ما لا تريده الطبقة السياسية في إيران إن كان في الداخل أو في الخارج، في السلطة أو في المعارضة.