Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يؤرخ حريق الكنيسة لانتهاء زمن "عنصري الأمة" وبدء عصر المواطنة في مصر؟

الوجه الآخر لصناعة التطرف يقبع في اصطناع الوحدة الوطنية

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي لدى معاينته موقع الحريق في إمبابة (مكتب رئيس الوزراء/ أ ف ب)

مواطن مسلم يهب إلى نجدة الأطفال المحبوسين في الكنيسة. بطل مغوار وشهم في هذا الزمان.

مصريون مسلمون يقدمون واجب العزاء في ضحايا حادثة الكنيسة. عمل رائع ودعم مطلوب لشركاء الوطن.

أحمد حين علم بمصاب كيرولوس سارع إلى تهدئته وطمأنته. المسلمون والمسيحيون لحمة واحدة ويشكلون عنصرَي الأمة.

فاطمة وشيماء وخديجة فتحن بيوتهن لجيرانهن من المسيحيين الذين توافدوا لمكان الحادث. سيدات مصر دائماً يحافظن على نسيج الوطن الواحد. يحيا الهلال مع الصليب.

الوطن واحد

"الوطن الواحد" و"شركاؤه" و"نسيجه" و"لحمته" و"عنصرا الأمة" و"يحيا الهلال مع الصليب" أدلة لفظية وبلاغية ومجازية على أن الوطن مر على مدار نصف قرن بعمليات سلب قيم ونهب مبادئ ونصب باسم الدين واحتيال يتخذ من "الوحدة الوطنية"، وفي أقوال أخرى "الفتنة الطائفية" وجهاً له.

أوجه الرصد والتحليل للحادث المروع الذي هز أرجاء مصر عديدة، لكن أبرزها هو الوجه الذي يعري ما جرى في ربوع البلاد وبين قلوب وعقول العباد على مدار سنوات يزيد عددها على الخمسين، إذ باتت المواطنة محل سؤال، والحقوق المتساوية منحة، والنجدة هبة، وفطرة الشهامة مدعاة للمفاجأة وجديرة بالتصفيق الحار والصياح المبالغ فيه تشجيعاً وتأييداً وتأكيداً على "لحمة الوطن" و"نسيجه الواحد" وعنصريه الملتحمين. إلا أن المبالغة في التصفيق والإفراط في الصياح والتشجيع جعلا الأمر وكأن الصائحين على "رؤوسهم بطحة". وبحسب المثل الشعبي، فإن من "على رأسه بطحة" تشير إلى من يشعر بأن هناك شيئاً ما يجب تصحيحه، لكن ينكر ذلك ويترجم شعوره مبالغة في ردود الفعل.

فعل المساعدة من قبل مواطن مصري صودف أنه مسلم لمواطن مصري آخر صودف أنه مسيحي يفترض أن يكون طبيعياً وعادياً. وما يستحق الإشادة والتصفيق والإعجاب والتهليل هو فعل المساعدة، وليس خانة ديانة المساعد أو المساعد.

عما جرى في مصر

لكن ردود الفعل في كل من السوشيال ميديا والإعلام التقليدي منذ اندلاع الحريق في كنيسة "أبو سيفين" في منطقة إمبابة (محافظة الجيزة) تقول الكثير عما جرى في مصر على مدار سنوات، ولم يلتفت إليه إلا قليلون، وربما حالت ظروف البلاد السياسية والاقتصادية وتأثرها بالأوضاع العالمية على مدار 11 سنة مضت من دون اتخاذ خطوات علاجية فعلية.

إمبابة أحد أحياء مصر المليونية، إذ يزيد عدد سكانها على مليون شخص، هي إحدى أعلى مناطق مصر كثافة سكانية وعشوائية عمرانية وتلاصقاً في المباني واحتواءً لمصريين من مشارق مصر ومغاربها وثراءً (بالمعنى الكمي) لمجريات التاريخ المعاصر الكاشف الدال.

هذه المنطقة القادرة على مد آلاف الباحثين بأطنان من المادة الخام لفهم ما جرى وما زال يجري في مصر من تشابك وتعقد لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية ظلت منغلقة على نفسها لا تفتح أبوابها إلا في أحداث الكوارث الكبرى.

إمبابة المليونية

ما لا يقل عن مليوني مصري – مسلم ومسيحي - يعيشون في هذه المنطقة في بيوت، ويعملون في محلات، ويصلون في مساجد وكنائس تكاد تكون فوق بعضها البعض بمن فيها من بشر.

إمبابة التي ظلت تستقبل موجات من الهجرة الداخلية من الريف من قبل الباحثين عن خروج من قبضة الفقر منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث هجرة أفراد ثم عائلات تنضم إليهم ثم أقارب وأقارب الأقارب، وهلم جراً. وبحسب الباحث في مجال دراسات السكان والهجرة، أيمن زهري، فإن عديداً من المناطق التي تحيط بالمدن الكبرى، لا سيما العاصمة، تحولت عبر العقود إلى جيوب تستقطب المهاجرين من القرى من خلفيات متشابهة من حيث مستوى التعليم أو الأمية والفقر والعادات والتقاليد، وغيرها، الذين تجمعوا وتمددوا في بيئة حضرية لا يمثل فيها الأشخاص محوراً للحياة.

الحياة في إمبابة على مدار عقود وتصاعد أعداد النازحين، إضافة للميل إلى كثرة الإنجاب واستقطاب فئة جديدة من صغار الموظفين والعمال الباحثين عن مسكن قريب من "القاهرة الكبرى" (القاهرة والجيزة والقليوبية) لعائلاتهم استدعت تمدداً عمرانياً حضرياً جنونياً، وذلك في غفلة من الدولة والقانون والمسؤولين، وفي أقوال أخرى في رعايتهم غير المباشرة.

أكبر تمدد حضري عشوائي

ويمكن القول إن إمبابة تمثل أكبر تمدد حضري عشوائي تحول عبر العقود إلى رمز راسخ للعشوائية الفكرية والسكانية والحكومية والمعيشية من ألفها إلى يائها. الكاتب والباحث الحقوقي عمرو عزت كتب في روايته "غرفة 304" عن إمبابة "الضاحية الضخمة التي لا تزال حتى الآن تتمدد بمساكن عشوائية البناء على مساحات واسعة من الريف الذي يحتل الضفة الغربية للنيل، وتحاول أن تتسع لسكن الطوفان القادم من الصعيد والدلتا، وتشتهر بمحاولة أسطورية للاستقلال عن الدولة كـ"جمهورية إسلامية".

هذه المحاولة الأسطورية تكللت بنجاح نسبي، إن لم يكن فعلاً، فعبر أحداث وحوادث عدة. أبرز ما جرى في "جمهورية إمبابة" كان في بداية التسعينيات، وتحديداً في عام 1992. في ورقة بحثية عنوانها "من الذي يخاف من العشوائيات؟ التغير الحضري والسياسة في مصر"، يقول المؤلفان عاصف بيات وإريك دنيس أن "عام 1992 كان عاماً مفصلياً في التاريخ الحضري الحديث لمصر وفي الخطاب الخاص بالمدن المصرية. إمبابة، أحد التجمعات غير الرسمية الرئيسة في القاهرة الكبرى، والبالغ عدد سكانها نحو مليون (في هذا الوقت) استولت عليها الجماعة الإسلامية. وأدى تغلغل أعضاء هذه الجماعة المسلحة في هذه العشوائية الكبيرة جداً إلى إنشاء "دولة داخل الدولة" في مصر. وكان البعض في مصر ينظر إلى مثل هذه التجمعات العشوائية حول المدن باعتبارها نمواً غير محكوم أو متحضر وخارج على القانون ولن ينتج عنه سوى ثقافة عنف وطريقة حياة غير سوية".

حياة غير سوية

الحياة "غير السوية" في إمبابة أسفرت في أوائل التسعينيات عن محاولات حثيثة لتأسيس جمهورية إسلامية بمقاييس الشيخ جابر وغيره من أعضاء "الجماعة الإسلامية" المسلحة وغيرها من الجماعات التي تعتنق التطرف باسم الدين. "الشيخ جابر" هيمن على "جمهورية إمبابة" في بداية التسعينيات لدرجة أن سطوته وسلطته في المنطقة فاقت سلطة الدولة في حل النزاعات بعيداً من القنوات الرسمية، وبناءً على فكر الجماعة الإسلامية شديدة التطرف والعنف. ليس هذا فقط، بل استقطب آلاف الشبان الذين استمعوا لخطبه النارية الملغمة بالأفكار بالغة العنف والتطرف لدرجة استخدام القوة وإراقة الدماء. وتحولت شوارع إمبابة إلى أرض معركة لفرض سطوة الفكر المتطرف تحت رأيه ضرورة القضاء على مكامن الفساد وكل ما من شأنه أن يلحق الضرر بالإسلام بمقاييس الشيخ جابر وجماعته. وكالعادة، تم استقطاب الفقراء – وهم الغالبية المطلقة في المنطقة - بالمال والمساعدات. وتم فرض النقاب على النساء، وحرق المحلات التي كانت مخصصة لتأجير أفلام الفيديو، كما تم فرض "الجزية" على المسيحيين، إضافة إلى تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية أريقت فيها الدماء داخل الحي.

"جمهورية إمبابة الإسلامية"

ولم تنته أسطورة "جمهورية إمبابة الإسلامية" إلا بـ12 ألف جندي بمعدات شبه عسكرية لأنها "احتلال" الجماعة الإسلامية، والقبض على "الشيخ جابر" بعد سبعة أيام من المطاردات في شوارع إمبابة. فأغلب شوارع إمبابة عبارة عن أزقة بالغة الضيق وبيوت متلاصقة ما جعل عملية المطاردة والمداهمة بالغة الصعوبة.

انتهى حكم "الجماعة الإسلامية" في إمبابة، لكن بقيت الأسطورة. فالأسطورة قامت على فكرة، والفكرة لا تموت إلا بفكرة أقوى منها. والدليل على ذلك أن إمبابة شهدت أحداثاً مروعة بعد أسابيع من أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 عكست مدى تغلغل التعصب والعنف في هذه المنطقة الأسطورية. شاعت قصة مفادها أن سيدة مسيحية اسمها عبير اعتنقت الإسلام، وقيل إنه تم احتجازها في "كنيسة مار مينا" في المنطقة، وهي قصة تتكرر كلما شم المتطرفون أنفاسهم وقويت شوكتهم وأرادوا إظهار سطوتهم. وكانت النتيجة أن الآلاف منهم حاصروا الكنيسة، وأقاموا الصلوات أمامها وطالبوا بتسلم السيدة. ونشبت معارك عارمة، وتم حرق الكنيسة ومبنى تابع لها مجاور وعدد من بيوت يسكنها المسيحيون إلى جوارها. ووقعت وفيات وإصابات. ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد تطويق إمبابة ومنع الدخول والخروج منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


إمبابة حالة

إمبابة حالة وليست مجرد منطقة نمت في غفلة من الدولة وتمددت عشوائياً وأصبحت شوكة في عنق الجميع، لكنها تلخيص لمعضلات مصر الكبرى في النصف قرن الماضي، بدءاً بإطلاق يد الجماعات المتطرفة، وأحياناً المسلحة، وغض الطرف عن ظواهر النزوح من الريف من دون تخطيط، والخروج من الفقر بتوسيع دائرة الفقر وتطويق المدن وجذب الشباب إلى براثن الفكر الإرهابي الملتحف بالدين وتجاهل الكيد الديني بين الغالبية المسلمة والأقلية المسيحية، ناهيك بغياب تام لقواعد الأمن والسلامة، بحيث استحالة دخول سيارات الإسعاف والمطافئ إلى كثير من الشوارع المتلاصقة عماراتها على الجانبين في حال نشوب حرائق أو حوادث أخرى.

تمدد أسطورة إمبابة اتخذ شكلاً مغايراً مع حريق "كنيسة أبو سيفين" قبل أيام وموت 41 مصرياً بينهم أطفال. في عام 2022، تعلو أصوات قليلة لكن قوية مطالبة بإنفاد ما دعا إليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل ست سنوات، وكرر الدعوة عشرات المرات دون جدوى، ألا وهو تجديد الخطاب الديني.

وعلى الرغم من التحسن النسبي في حدة المجاهرة بالتطرف والتشدد، لا سيما في ظل ضبط وزارة الأوقاف لخطب المنابر وربط مصادر الفتوى والبرامج الدينية عبر إغلاق عدد كبير من القنوات التي كانت تهيمن عليها تيارات متطرفة ومنع شخصيات معروفة بنشر الأفكار الغارقة في التشدد وتكفير غير المسلمين من الظهور "الرسمي"، فإن ما في القلب يبقى في القلب، وما زرعه أمراء التطرف على مدار نصف قرن ينعكس في الأبناء والأحفاد وأفكارهم وردود فعلهم سلباً وإيجاباً.

عوار الإيجابية

ما بدا أنه ردود فعل بالغة الإيجابية كشف عن عوار كبير ومشكلة عميقة في التعامل مع فكرة "عنصري الأمة" و"لحمة الوطن" و"شركاه". الصدمة الإيجابية التي أصابت كثيرين لأن "أحمد" قفز إلى داخل الكنيسة وأسهم في إخراج عشرات المصلين والأطفال، تعني أن قيام مصري مسلم بإنقاذ مصري مسيحي أمر جلل وإن كان جيداً. وهذا ما تؤكده في الأصل مصطلحات مثل "شركاء" و"يحيا الهلال مع الصليب" وغيرها من المفردات الشبيهة بمحسنات اللون والطعم الصناعية.

الوجه الآخر لصناعة التطرف يقبع في اصطناع الوحدة الوطنية. فعلى مدار عقود والمشكلات الطائفية التي تنجم عن احتقانات بين "عنصري الأمة" والناجمة أصلاً عن ترك جذور الفكر المتطرف والنسخة المحرفة من فهم الدين القائمة على رفض الآخر وتكفيره، وربما اضطهاده ومنعه من بناء دور عبادة خاصة به والتضييق عليه إن قرر الصلاة في بيته، وقد يصل الأمر إلى طرده من بيته إن رأى "أمير" أو "شيخ" الجماعة ذلك، يتم حلها عبر مجالس عرفية، بعضها في حضور ممثلين عن الدولة.

الدولة تبذل جهداً لإحلال البيئة الحاضنة للتطرف بأخرى نابذة لتلك الآفة، لكن الجهود غير كافية، كما أن العوامل المحيطة غير مساعدة. الفكر المتطرف متغلغل. حتى بعض ممن يصنفون أنفسهم ويعتقدون أنهم وسطيون محترمون للآخر دخلوا في سجال حول الفرق بين التعاطف والترحم على ضحايا حريق الكنيسة، وذلك من منطلق أن التعاطف يجوز عكس الرحمة "التي لا تجوز إلا على مسلم".

الإيموجي الضاحك القبيح

آخرون من جنسيات عربية مختلفة انخرطوا في معركة أخرى، كان الإيموجي بطلها، فقد أغرق البعض تعليقات مواقع خبرية نقلت تطورات الحادث بـ"إيموجي" ضاحك، وأمام استياء الكثيرين – مسلمين ومسيحيين - واعتبارهم ذلك فجاجة وقبحاً غير مقبولين، برروا ذلك بحجج "دينية" مفادها أن "الجميع كفار باستثناء المسلمين".

المسلمون والمسيحيون المصريون شركاء بالفعل في الوطن. وهي شراكة حقيقية. فكلاهما يحمل إرث عقود من الإهمال والفساد التي جعلت من مناطق مثل إمبابة تنمو وتتمدد عشوائياً من حيث البناء المخالف والفكر المتطرف. وكلاهما يعاني نقص معايير السلامة والأمان في المنشآت والمباني العامة والخاصة. وكلاهما اضطر للانصياع لبدائل غياب الدولة على مدار عقود، حيث مجالس عرفية بدلاً من القانون، واتباع رجال دين روجوا لمفاهيم غارقة في التطرف، بينما الدولة تغض الطرف حتى اندلاع أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. وكلاهما يجني ثمار شح الوعي في ما يختص بمعايير السلامة الشخصية وعدم القدرة على التفرقة بين القضاء والقدر من جهة، والتخطيط والتدبير من جهة أخرى.

من رحم المأساة تولد فرصة لإعادة إحياء مفهوم الدين والتدين والوطن والمواطنة بغض النظر عن خانة الدين.

المزيد من تحقيقات ومطولات