المناورات العسكرية المشتركة التي أعلنت موسكو عن تنظيمها في المنطقة العسكرية الشرقية لروسيا الاتحادية خلال الفترة من 30 أغسطس (آب) إلى 5 سبتمبر (أيلول) أثارت كثيراً من الجدل في الأوساط الغربية، في الوقت الذي ثمة من يعزو فيه هذا الجدل إلى توقيت إجراء هذه المناورات من جانب، وقوام المشاركين فيها من جانب آخر. ولعل ما صدر من وزارة الدفاع الصينية من تأكيدات رسمية تقول "إن المناورات المشتركة التي تسهم فيها الصين مع روسيا والهند وبلدان أخرى لا تستهدف أطرافاً ثالثة، وإن هذه التدريبات لا علاقة لها بالوضع الدولي والإقليمي الحالي"، يمكن تناوله من منظور الحرص التقليدي من جانب الصين على عدم استثارة مخاوف "أطراف دولية بعينها" من مشاركة جمهورية الصين الشعبية في هذه المناورات العسكرية، وإن كان ذلك لا يعني نفيها حقيقة ما تستهدفه من أغراض حقيقية سبق واستهدفتها من مشاركات سابقة في مناورات مماثلة، بل وكانت في أحيان عدة هي المبادرة بإجرائها داخل أراضيها، وذلك ما كشفت عنه وزارة الدفاع الصينية في بيانها الصادر بهذا الصدد في اعترافها، بأن "جمهورية الصين الشعبية توفد ممثليها إلى هذه المناورات من أجل تعميق التعاون الودي العملي مع القوات المسلحة للدول المشاركة، وزيادة مستوى التفاعل الاستراتيجي معها، وتعزيز القدرة على الاستجابة للتهديدات الأمنية المختلفة".
"فوستوك 2022"
وتطويراً لذات الفكرة والمضمون لم يكن غريباً أيضاً أن يبادر الجانب الروسي لتأكيد ما صدر من الجانب الصيني من تفسير لمشاركته في مناورات "فوستوك (الشرق) 2022"، التي قال إنها ستجرى في 13 ساحة تدريب بالمنطقة العسكرية الشرقية، بمشاركة فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات الروسية المسلحة، كما حرصت قناة "RT" الناطقة بالروسية، على نقل تصريحات عدد من الخبراء الذين لم تكشف عن أسمائهم، حول "أن موسكو وبكين تكثفان التعاون العسكري من أجل ضمان أمن بلديهما على خلفية الوضع العسكري السياسي غير المستقر في العالم، وتنسيق الجهود في مواجهة التحالفات الجماعية الغربية". ولتأكيد ما سبق وحاولت الدوائر الغربية ترويجه حول العزلة التي نجحت الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها من البلدان الغربية في فرضها على روسيا، حرصت موسكو على إضفاء الطابع الجماعي على مثل هذه المناورات الدورية، من خلال ما أشارت إليه حول "أن عسكريين من بيلاروس والهند وطاجكستان ومنغوليا، إضافة إلى روسيا والصين، سيشاركون في هذه التدريبات الاستراتيجية".
وتحت عنوان "رأس جسر ضماناً للأمن"، أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن جيش التحرير الشعبي الصيني سيشارك في المناورات الاستراتيجية الروسية "فوستوك 2022"، بموجب بنود الخطة السنوية للتعاون بين القوات المسلحة للبلدين واتفاقيات الطرفين. وحول أبعاد هذه المناورات ومفردات القوات المشاركة، كشفت وزارة الدفاع الروسية عن كثير مما تستهدفه مناورات "فوستوك 2022" من أهداف، ومنها مناقشة قضايا استخدام مجموعات من القوات لضمان الأمن العسكري في المنطقة الشرقية، إضافة إلى قوات المنطقة العسكرية الشرقية، وبمشاركة جزء من القوات المحمولة جواً، والطيران بعيد المدى وطيران النقل العسكري، فضلاً عن الوحدات العسكرية لدول أخرى. وأعادت المصادر الروسية إلى الأذهان بعضاً من تاريخ الماضي القريب، الذي شهد تعزيز البلدين تعاونهما العسكري المشترك الذي ترسخ بشكل ملموس على مدى السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك في معرض التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة. ولمزيد من القرائن والأدلة، استعادت المصادر الروسية ما أجرته كل من الصين وروسيا من تدريبات ومناورات مشتركة تحت شعار "التفاعل البحري" خلال عامي 2016 و2017، كما أشارت أيضاً إلى أن الجيش الصيني سبق وشارك أيضاً عام 2018، بمناورات مماثلة جرت تحت اسم "فوستوك 2018" في الشرق الأقصى والمحيط الهادئ. وكشفت المصادر عن أن الصين شاركت وللمرة الأولى في تاريخ العلاقات العسكرية الثنائية بين روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية بلواء كامل من المشاة المسلح بالبنادق الآلية من جيش التحرير الشعبي الصيني. وقالت إن بكين أرسلت في العام التالي قوات بلغ قوامها 1600 من الضباط والجنود وأكثر من 300 قطعة من المعدات إلى تدريبات القيادة والأركان الاستراتيجية Center-2019، التي جرت في منطقة أورينبورغ، كما شارك الجيش الصيني أيضاً في مناورات القوقاز 2020 الاستراتيجية.
"الحرص المتبادل"
ومن اللافت في هذا الصدد ما يتناثر من تصريحات تعكس ما هو أقرب إلى "الحرص المتبادل" على العلاقات الثنائية "الصينية - الأوكرانية" من جانب، و"الروسية - الصينية" من جانب آخر. وفي هذا الشأن، نشير إلى ما صدر عن دميتري كوليبا وزير الخارجية الأوكراني، حول "أن الصين لا تزال محايدة في الحرب الأوكرانية الروسية"، وهو ما سبق ورد عليه الجانب الصيني بتصريحات قال فيها، إن مشاركة الصين في المناورات المشتركة لا تستهدف أطرافاً ثالثة، في إشارة إلى العلاقات الصينية - الأوكرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في ما يتعلق بالعلاقات الروسية - الصينية فنشير إلى ما نقلته وكالة "تاس" الروسية عن السفير الصيني لدى روسيا تشانغ هانهوي، حول ما حققته الصين وروسيا الاتحادية في السنوات الأخيرة من "نتائج مهمة" في مجال التعاون العسكري التقني، وأنها "تواصل التطور بشكل تدريجي". وكذلك تأكيده أن "التعاون العسكري التقني الصيني - الروسي يخدم المصالح الأساسية للجانبين، ويتم تنفيذه على أساس مبدأ المنفعة المتبادلة، ولا يتم توجيهه ضد طرف ثالث، ويعزز الاستقرار والتنمية الإقليميين، وهو أيضاً ضامن مهم، وذلك فضلاً عما قاله في معرض تعليقه على العلاقات الروسية - الصينية والتعددية القطبية، في شأن أن العلاقات الروسية - الصينية لا مثيل لها من حيث التفاهم المتبادل والتفاعل، وأن العالم بحاجة إلى العدالة وليس الهيمنة". غير أن ذلك لا يمكن أن يعني ما سبق واستنتجه كوليبا وزير الخارجية الأوكراني حول ما وصفه "بحياد" الصين في الحرب الروسية - الأوكرانية، الأمر الذي عاد السفير الصيني ليحدد ملامحه الرئيسة بما قاله في مؤتمر موسكو العاشر للأمن الدولي، "إن بكين تولي أهمية كبيرة للتعاون مع روسيا في هذا المجال"، و"أنها ستعمل مع الجانب الروسي لتعزيز التعاون العسكري الفني على مستوى أعلى وعلى نطاق أوسع"، وأن العلاقات الصينية - الروسية نموذج للتفاعل بين بلدين رئيسين.
"مواجهة عالم القطب الواحد"
غير أن المثير في ما يتعلق بمناورات "فوستوك 2022"، قد يتعلق بأنها تجيء هذا العام وسط أجواء مشحونة بكثير من القلق والتوتر، سواء على الجبهة الشرقية بما شهدته وتشهده من تصاعد وتصعيد للأحداث، كما تابع العالم منذ ما قبل وما بعد زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان، أو على الجبهة الغربية من صراع روسي - غربي في جوهره، وإن بدا روسياً - أوكرانياً من حيث شكله ومفرداته. وإذا كان هناك من يعتقد أن مشاركة الصين في المناورات الروسية المتعددة الأطراف على الجبهة الشرقية رسالة تريد بكين إرسالها إلى الولايات المتحدة، فهناك أيضاً في روسيا من يريد، ولو بشكل غير مباشر، التوجه برسالة مماثلة إلى خصومها على الجبهة الغربية، بمضمون يقول إن مساحة وثوابت المصالح المشتركة بين الصين وروسيا أكثر كثيراً مما يحاول الخصوم النيل منها ومن أبعادها، وإن فرقتهما بعض متغيرات الواقع الراهن، وما يتعلق منها بعلاقات كل من البلدين مع بلدان آسيا الوسطى.
ولتأكيد ذلك، يتوقف كثيرون من المراقبين عند ما يربط البلدين من تحالفات مشتركة في إطار كثير من التنظيمات الإقليمية والعالمية المشتركة، ومنها "منظمة شنغهاي للتعاون"، ومنظمة "بريكس" العابرة للقارات، فضلاً عن منظمات التكامل الاقتصادي التي تجمع البلدين مع بلدان آسيا الوسطى، ومعها عدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق. ويذكر هؤلاء المواقف المشتركة التي تجمع كل هذه البلدان في مواجهة عالم القطب الواحد، الذي تهاوى وتداعت أركانه مع بدء "العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا" في 24 فبراير (شباط) الماضي، وهو التاريخ الذي صار علامة فارقة تحدد كثيراً من وقائع العصر.
وفي هذا الصدد، ننقل عن ألكسي دروبينين، أحد كبار قيادات وزارة الخارجية الروسية، ما قاله حول "أن العملية العسكرية الخاصة أصبحت علامة فارقة في الطريق إلى نظام عالمي جديد، إلى تحالف جديد للقوى على الساحة الدولية". وأضاف دروبينين في مقاله الذي نشرته مجلة "الحياة الدولية" أن "المواءمة ستعتمد إلى حد كبير على مسار الأعمال العدائية والتغيرات في هيكل الاقتصاد العالمي ومعايير التسوية السياسية للصراع". ولعلنا يمكن أن نتفق مع دروبينين في ما قاله في شأن القدر الذي وضع روسيا مرة أخرى في موقع أحد العناصر الإبداعية الرئيسة في تاريخ العالم. وكان المسؤول الدبلوماسي الروسي الكبير أضاف أن التاريخ اختار روسيا كعنصر قوة، بما تتسم به من مثابرة وحيوية تكفلان لها تحقيق ما تصبو إليه من اتساق ومواءمة في السعي من أجل الحقيقة والعدالة للجميع، بما يحقق سرعة التوصل إلى تحقيق نظام عالمي جديد. وخلص دروبينين إلى القول "إن قدرتنا على لعب دور موحد وإنشاء شبكة متعددة الحضارات من الشركاء ذوي الأولوية على مدى العقد المقبل لن تحدد مواقف السياسة الخارجية لروسيا فحسب، بل ستحدد أيضاً استقرار نظام العلاقات الدولية بأكمله".
"مواقف متشابكة"
وثمة ما يشير إلى أن انضمام الهند التي تشارك الصين وروسيا عضوية منظمة "بريكس" إلى هذه المناورات المرتقبة على الجبهة الشرقية، يبدو ذا معنى متفرداً، وهي التي تعتزم المشاركة مع الولايات المتحدة في مناورات مشتركة أخرى، على مبعدة 100 كيلومتر فقط من الحدود الصينية - الهندية المتنازع عليها. وننقل عن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية ما قاله بالنسبة إلى الشراكة مع الهند التي هي "أحد أهم عناصر رؤيتنا المشتركة من أجل منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة". وإذا أخذنا في الاعتبار ما سبق وشهدته علاقات الصين والهند من توتر واشتباكات مسلحة على خلفية تنازع بعض المناطق الحدودية، فإننا نكون أمام "مواقف متشابكة" تتسم بكثير من التعقيدات، تستدعي ضرورة توخي الحذر لدى إطلاق الأحكام. فها هي ذي الهند تشارك الولايات المتحدة مناورات عسكرية على الحدود مع الصين الحليفة الرئيس لروسيا، في الوقت نفسه الذي ترتبط فيه مع موسكو بعلاقات تاريخية وثيقة، تساندها علاقات عسكرية اقتصادية معاصرة، في لحظات مواكبة لما أعلن عنه المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية في حديثه إلى شبكة CNN حول "أن الشراكة مع الهند" هي "أحد أهم عناصر رؤيتنا المشتركة من أجل منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة".
وذلك واقع يشهد كثيراً من التعقيدات في توقيت تنظر فيه كل من روسيا والصين إلى تحالفاتهما المشتركة بوصفها السبيل الوحيد للحد من "سطوة الهيمنة الأميركية"، واستعادة السيطرة على تايوان، فضلاً عن ضرورة تشكيل تحالف عسكري اقتصادي يضع في اعتباره "أن الولايات المتحدة تضع مواجهة الصين في قلب سياستها للأمن القومي منذ سنوات، ووصفت إدارة بايدن المنافسة مع الصين بأنها (أكبر اختبار جيوسياسي) في القرن الحالي، وهو ما يستلزم خطط ردع من جانب بكين، ولن تجد أفضل من موسكو شريكاً في ظل الضغوط المفروضة عليها من قبل الغرب"، بحسب ما تقول المصادر الروسية.