العقيد الليبي الذي حكم البلاد لأكثر من أربعة عقود كان يخطر بباله بين حين وآخر سؤال يطرحه للمناقشة ويعقد للإجابة عنه ملتقيات وندوات وغير ذلك، وهو "ماذا يريد الليبيون"؟
يحدث هذا على الرغم من أن كل ليبي يعرف مسبقاً، وشاء أم أبى، ما يريد من خلال أطروحات العقيد في كتابه الأخضر، الحل النهائي للبشرية كافة. وهكذا يدور لغط ما يشبه الغمغمة في إجابات قد تستغرق أياماً وأشهراً تنقل عبر التلفزيون والراديو في أحايين، وكل متابع لا يعرف دوافع السؤال ولا يحصل على أية إجابات، وما يتابعه سيجعله يدور في حلقة مفرغة من الدوافع والنتائج.
النظرة الموضوعية تبين أن السؤال يدور حول المستقبل، وهناك من النخبة الليبية من صاغ السؤال في صيغة استهجنها العقيد، "ليبيا إلى أين"؟
المشكلة أن السؤال المطروح لا يتغيا أي إجابة لأنها مضمرة فيه، إذ إن المسكوت عنه هو المستقبل المغيب أصلاً، فما يريده الليبيون كما أشرنا هو ما يريده العقيد المفكر الثائر والمعلم القائد، وبالتالي فلا أين لليبيا، لأن "أين ليبيا؟" قد وجد مرة وإلى الأبد، وأن مستقبل ليبيا قد وجد منذ ليلة الفاتح من سبتمبر (أيلول) 1969، ليلة انقلاب القذافي واستيلائه على السلطة بالقوة.
لقد تم اختطاف المستقبل واختفى مع اختفاء الماضي، وعليه كان شعار العقيد الليبي بعد تلكم الليلة أن كل يوم هو يوم الفاتح، وأضاف إليه تكملة تكون في السابع من أبريل (نيسان) 1976 بضرب الحركة الطلابية ومداهمة الجامعات واعتقال جزء كبير من ضباط الجيش وزملائه في مجلس القيادة، إذ بات الشعار "كل يوم هو الفاتح وكل ليلة هي السابع من أبريل".
هذه الحال الملتبسة، أي اختفاء المستقبل في الماضي، لم تكن حالاً ليبياً محضة، بل ارتهنت بها كل حال مشابهة، فإن من الليبيين اليوم كما غيرهم من شعوب المنطقة، من يحتسبون أن أمس هو الغد المأمول، أي أن المسألة الليبية بعد القذافي أيضاً رهينة مستقبل مختطف، فالسؤال السابق الحالي هو "ليبيا إلى أين"؟
لا جواب له، لا على الأرض عند اليقظة، ولا حتى في المنام، وهذا الوضع جعل الأغلبية الليبية تجنح إلى أن العيب ليس فيها بل في البلاد، وأنه قدر كما الجغرافيا وأن التاريخ يؤكده، فالمستقبل ليس غاية كما الماضي المختفي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبهذا فإن الليبيين رهائن عند اللحظة الراهنة والمفتتة إلى تفاصيل تتسردب إلى أخرى، فالانتخابات الجزرة (حلم اليقظة)، والدستور ما يشبه أحجية الفقيه التقليدي، أو كلمة سر القص الشعبي "افتح يا سمسم"، وهكذا دواليك، كل كمن يمضغ ماء.
ارتهان الليبيين إلى يومهم أسهم بدوره في رهن ليبيا إلى الخارج الذي لديه مسائل ملحة أخرى، مما منحه المسببات إلى اختطاف المستقبل عبر دحرجت المسألة الليبية إلى حال "الحل اللاحل".
أذكر أني طالعت حواراً منذ زمن مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه وقد سئل فيه عن نظرية ما بعد الاستعمار وصلته بها، فتحدث عن "نظرية الاستبعاد"، ما رأى أنها المستجد، حيث العالم اليوم يغص بمشكلات تتوالد وتنشطر، وبالتالي فكل ما لا يقلق القوى العظمى يستبعد من الخريطة.
وأشار إلى نماذج عدة، منها الحديث كالصومال ومنها القديم مثل كشمير، ومن هذا استنبطت اصطلاح "الحل اللاحل"، وما يتجلى في عموم المنطقة وبشكل فاضح في أفغانستان، التي أعيدت بعد 20 حولاً من الحرب إلى "حركة طالبان"، العدو السابق للولايات المتحدة وبدعم دولي.
العجز الذي يضرب بأطنابه في المنطقة يتجلى بشكل فادح في اختطاف المستقبل، فحتى "جزرة الانتخابات" زادت الطين بلة في المسألة العراقية، أما الدستور فقد تحول في تونس إلى حجة للانقلاب عليه، وحتى الانقلاب في السودان أعلن فشله، أي أنه ليس ثمة أفق غير مزيد من الأجواء الملبدة بالغيوم، وكل باب يؤدي إلى باب لكل يد مضرجة تفتحه.
ليبيا الساعة عاجزة عن أن يكون لساعتها عقارب، ولهذا تستهلك كل طاقاتها لأجل اليوم والتفاصيل حيث يكمن الشيطان ويتبعثر جهد الليبيين في هذه التفاصيل التي تسهم في حياكتها الأمم المتحدة عبر بعثتها في ليبيا، وبعد أن استنفذت المؤتمرات الدولية استثمارها في تضييع الوقت، تتمظهر لعبة الأمم كما المسألة البيزنطية، "الدستور أولاً أم الانتخابات"؟، فعودة مأمونة إلى قول أمين معلوف إن "اختفاء المستقبل لا يمكن إصلاحه".