Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سقط المخرج والكاميرا تحت رصاص الروس... ونجا الفيلم

"ماريوبول 2" شهادة سينمائية وثائقية فريدة عن المأساة الأوكرانية

المخرج مانتاس كفيدار أفيسيوس الذي سقط تحت الرصاص الروسي خلال التصوير (الخدمة الإعلامية)

الأفلام الوثائقية التي تتناول ما يحدث في أوكرانيا، بدأت تشارك في المهرجانات الدولية بعد أقل من نصف عام على الغزو الروسي لأوكرانيا. هناك صراع دموي "يخاض بالوكالة" كما يصفه البعض، ولا بد ان يوثَّق ليراه العالم ويأخذ موقفاً منه. والمهرجانات الغربية لطالما شرعت الباب لهذه الأفلام المطبوخة على نار متقدة، وكانت منبراً لها، حتى تحولت أحياناً إلى دعاية سياسية مباشرة، كما الحال مع أفلام الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل برنار هنري ليفي عن ليبيا والأكراد والتي فرش لها مهرجان كانّ سجّادته الحمراء. لكن بعض السينمائيين أكثر انشغالاً بالحقيقة وأكثر صدقاً مع أنفسهم، وأكثر احتراماً للمشاهدين ممّا هو عليه ليفي، ومنهم مَن ضحى بحياته من أجل إيصال كلمة أو في سبيل التقاط صورة. هذا الموت هو ما كان ينتظر السينمائي والأنثروبولوجي الليتواني مانتاس كفيدارافيسيوس الذي لاقى حتفه في بداية الحرب (أبريل /نيسان الماضي) خلال محاولته الخروج من منطقة النزاع ماريوبول. سقط وفي يده كاميرا، ذلك أنه كان يوثّق منذ فترة الأحداث في تلك المدينة الساحلية المحاصرة. وبحسب متحدّثة باسم حقوق الإنسان في البرلمان الأوكراني، وقع كفيدارافيسيوس أسيراً لدى الروس، قبل أن يتلقى رصاصة في الرأس وأخرى في الصدر، فارق الحياة على أثرهما. ثم ألقى المجرمون جثته على قارعة الطريق. 

سقوط ونجاة

رحل كفيدارافيسيوس الذي كان يبلغ من العمر 45 سنة، ولكن بقي ما سجّله ليشهد على تفاصيل حربٍ لا تزال دائرة، فتحول فيلماً في عنوان "ماريوبول 2"، بعدما استطاعت صديقة المغدور هانا بيلوبرافا، تهريب المادة المصوّرة إلى جهة آمنة. مهرجان كانّ الأخير حرص على عرض الفيلم ضمن فقرة "عروض خاصة"، مساهمةً منه في دعم أوكرانيا وفضح الوحشية الروسية، قبل أن يستعيده مهرجان كارلوفي فاري السينمائي (تشيكيا) الشهر الماضي في برنامج الدورة الـ56. يجب التنويه أن الفيلم لا يشبه أياً من الوثائقيات التي تدين الحروب وتظهر المآسي وتستنكر العنف وتصوّر المجتمع المكلوم نتيجة الغزوات والنزاعات المسلحة. لا شيء من هذا كله في هذا العمل الذي يسعى إلى تأطير حياة الناس العاديين، هؤلاء الذين لا حول لهم ولا قوة، خلال المعارك الدائرة على مقربة من مكان وجودهم. وهي معارك لا نراها البتة، بل نسمعها طوال نحو ساعتين، لتتحول هذه الأصوات في مخيلتنا إلى صور ذهنية.

 

اذاً يجب ألا نتوقّع أي أحداث كبيرة أو معلومات تقلب الموازين، ونحن نشاهد الفيلم. كلّ ما في الأمر أنه يأخذنا شهوداً على يوميات ناس عالقين في أتون العنف، فنعلق معهم. هنا، مجموعة من النساء والرجال والأطفال الذين يختبئون في الطابق السفلي التابع لكنيسة. لن نعرف عنهم الكثير، كما أننا لن نعرف شيئاً عن الحرب الدائرة وتفاصيلها العسكرية. علينا أن نفهم ممّا توفره لنا الصورة، فالصورة تُقرأ وفيها معلومات وفيرة، تتخطى أحياناً المعلومات المكتوبة أو المنطوقة. عندما تقترب القوات الروسية الغازية من المكان الذي اختاره الفيلم مسرحاً للأحداث القليلة، يطلب القائمون على الكنيسة من اللاجئين إليها الرحيل، من دون أن يعلم هؤلاء أين ستحط رحالهم.

مَن مرت عليه حروب عدة، أو حتى حرب واحدة، يعلم كم أن الحياة بغيضة ومخيفة في ظل القذائف والصواريخ. لكنها أيضاً متكررة ورتيبة. لا يفعل العالقون في هذه الحروب سوى الانتظار. انتظار سيحسم مصيرهم، إما ناجين أو شهداء. إنه الصمود اليومي لهؤلاء الذين لا أحد سيذكر أسماءهم عندما تنتهي الحرب، سواء عاشوا أو ماتوا. وحدهم حاملو السلاح بإمكانهم تحديد مصيرهم. عامل الانتظار حاضر دائماً في الحروب، وهذا من الأشياء التي يصوّرها الفيلم، مثلما يرينا أيضاً كيف أن الإنسان يعتاد على كلّ شيء وأي شيء، حتى أقسى الظروف. إن لم يتقبّلها فعلى الأقل يتكيف معها، وهذا ما يذكّرنا به "ماريوبول" الذي يمكن ضمّه إلى الأفلام التي يبقى فيها الحدث الأساسي خارج الكادر. فنحن نكتفي طوال الفيلم بسماع الأصوات المتأتية من بعيد برتابة وتكرار، بينما الناس يعيشون حياتهم اليومية ويتدبّرون أمورهم بشكل شبه طبيعي. ولعلهم لا يسمعون تلك الأصوات التي تنزل عليهم وعلينا كتهديد وتحذير.  

في الجزء الأول من "ماريوبول"، كان كفيدارافيسيوس تسلل إلى يوميات مجتمع أوكراني مقسوم على شفير الحرب. هنا، تحوّلت التهديدات واقعاً ملموساً. وإذا كان في الأول تعقّب شخصيات معينة، فهنا البطولة، إذا صحت تسميتها كذلك، جماعية، ذلك أن الحس الجماعي يصبح قوياً وضرورياً عندما يتعلق الأمر بالنجاة.

قسوة الحرب

 

خلال العرض في كارلوفي فاري، خرج عدد من المشاهدين من الصالة. وحده مَن تمسّك بطول الأناة وصَبر حتى النهاية، استطاع أن يرى الخاتمة التي ليست بخاتمة. بل هي خاتمة تختلف عن البداية فقط في كونها لحظة فُرضت على المخرج فرضاً. اختار كفيدارافيسيوس اللحظة التي بدأ فيها التصوير، لكن لم يختر لحظة توقفه... كثر من الذين غادروا الصالة لم يختبروا تجربة الحرب ولم يضطروا إلى الاختباء، ولم يُجبروا على الانتظار أياماً طويلة لمعرفة ماذا سيحل بهم. لدى هؤلاء الذين ولدوا وعاشوا في زمن السلم كلّ تعاطف الدنيا مع ضحايا الحروب، ولكن لن يفهموا قط ماذا يعني أن تسقط قذيفة في مكان، فلا يفعل الشخص الموجود في المكان القريب سوى أن يرجع كرسيه إلى الخلف بضعة أمتار! بعض الأفلام تطلب منا أن نفهمها، وبعضها الآخر تطالبنا بأن نشعر بها، وهناك نوع يحتاج إلى فهم وإحساس في آن. و"ماريوبول 2" يخاطب الناجين، لأنه يرينا الحرب كما هي فعلاً لا كما يريدها الآخرون، ولا كما يتخيلها العقل الجمعي. الحرب مجرد يوميات طويلة يحاول ضحاياها الاستمرار في الصمود كيفما اتفق، فلا خيارات كثيرة، بل إن الحرب هي انعدام الخيارات، وهذا ما يصوّره الفيلم بشكل أساسي. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما هي الحرب؟ سؤال لا يتسنى لنا طرحه على أنفسنا، إذ يدسه الفيلم في كلّ لقطة. من أصغر مشهد لنساء يبطخن في طنجرة ضخمة إلى رجال يحاولون إصلاح ما يمكن إصلاحه ليستمر الانتظار، عبوراً بالدخّان المتصاعد من بعيد، نحن أمام فيلم مشبع بالشيء بدلاً من أن يريه لنا ويروجه. يدعو الفيلم المُشاهد إلى التأمل، علّه يبني موقفه بناءً على هذه التأملات التي تتعاقب وتتشابه، علماً أن هذا النمط ليس بريئاً تماماً ولا منزهاً من أي تدليس سياسي. لكنه على الأقل، يضع المُشاهد أمام سلسلة لقطات تحمل تأويلات بدلاً من أن يرشقه بخطب سياسية رنّانة.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما