Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع وجودي بين روسيا وأوكرانيا بوجهين لغوي وثقافي

المركزية الروسية انهارت قبل سقوط الاتحاد السوفياتي ووحدة الثقافة الإنسانية في مواجهة تجارة الحروب

الصراع الثفافي بين روسيا وأوكرانيا (سوشيل ميديا)

للحروب سمعة سيئة في الثقافة والأدب، حتى تلك الحروب التي يدافع فيها الناس عن أطفالهم وبيوتهم ومزارعهم وأزهارهم المزروعة أمام مداخل هذه البيوت ضد غزو الهمج، لها سمعة سيئة في ذاكرة المنتصر قبل المهزوم، فهي تترك ندوباً عميقة على الأرواح قبل الأجساد، والأرواح تعيش طويلاً وتتألم بشدة حتى في غياب الجسد.

برزت الثقافتان الروسية والأوكرانية كنقيضين بمجرد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، على الرغم من أن إحدى أهم دعائم الثقافة أو "شرائعها" وغاياتها عموماً هي وحدة المصير الإنساني، وكان للثقافة الروسية نصيب وافر في هذا الاتجاه مثلته ثقافة القرن التاسع عشر وأدبها الروسي العظيم، ولكن في ظل إنكار وجود دولة اسمها أوكرانيا، وهو ما جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 21 فبراير 2022، عندما أعلن اعترافه ليس فقط بانفصال مدينتين أوكرانيتين، بل وأيضاً باستقلالهما كجمهوريتين ذاتي سيادة وحدود.

أساس عرقي

هنا بدأت نزعة خطيرة ونادرة في تاريخ البشرية، حين يبدأ التقسيم الثقافي والأدبي والروحي على أساس عرقي أو العكس، عندما يحاول البعض إنكار عرق وإلغاءه تماماً لصالح عرق آخر باعتباره العرق الأكبر والأعظم والمهيمن، والأرقى بطبيعة الحال، وذهب آخرون إلى أن هناك قواسم ثقافية وتاريخية مشتركة تربط روسيا وأوكرانيا، وتشابهات وتداخلات بنتيجة ما سموه بـ"الجذر اللغوي الواحد للغات السلافية". وهؤلاء ذهبوا أيضاً إلى تشابه الجغرافيا والتاريخ، وتشابه الناس والمعمار، وفي نهاية المطاف ظهرت حالة نادرة واستثنائية في ظل حرب "استثنائية" أيضاً بين بلدين جارين كان لهما تجارب تاريخية مشتركة تحت أنظمة حكم قديمة وأخرى بأيديولوجيات جديدة.

تم وضع مشهد مخيف يتضمن صراعاً بين الثقافتين الروسية والأوكرانية، بداية من اللغتين الروسية والأوكرانية واعتبار الأخيرة مجرد لهجة من الأولى، وانتهاء بمعارك الكتاب والمثقفين والمفكرين من حيث الانتماء إلى أي من البلدين، مروراً بالعادات والتقاليد والفوارق والسمات المميزة.

قد يكون هناك بعض التقارب اللغوي الناتج عن أن اللغتين تطورتا عن اللغة السلافية، لكن هذا التقارب أشبه بدرجة التقارب بين الألمانية والإيطالية، أو بين الإسبانية والبرتغالية، فهي أيضاً تطورت عن اللاتينية، هذا اللبس في فهم العلاقة بين اللغتين يعود إلى القوميين الروس الذين أشاعوا في العالم أن الجميع يتكلم الروسية، وأن هذه اللغات ذات الجذر السلافي مجرد لهجات روسية وليست لغات مستقلة، لكن هناك 8 دول تتحدث لغات وليدة عن السلافية، وتطورت بمعزل عنها في ما بعد، ولا علاقة لها باللغة الروسية التي هي واحدة من بين هذه اللغات، ومن بينها البولندية والصربية وغيرها، ولكن إصرار الأجنحة القومية الروسية على تسييد روسيا وتأكيد هيمنتها العرقية والدينية والتاريخية والثقافية وتفوقها وأحقيتها واستحقاقها، أمر يعيدنا إلى الوراء كثيراً، ويجعلنا ننظر باهتمام إلى تجربة اللغة اللاتينية القديمة لغة الكتاب المقدس، التي انقسمت إلى عشر لغات تتحدثها 10 شعوب في 10 دول مختلفة، ولم تدع أي دولة منها السيادة أو الهيمنة على بقية الدول الأخرى أو إنكار ثقافتها وأدبها وتاريخها ووجودها.

إن عملية خلط بل و"توحيد" الثقافتين والأدبين الروسي والأوكراني عملية طويلة ومعقدة ومليئة بالمنحنيات والأفخاخ الخطيرة والهدامة، وإلا كان من الوارد أيضاً خلط الأدبين الإنجليزي والإسباني والتوحيد بينهما توحيداً عضوياً "وحدوياً" بالمعنى السياسي والأيديولوجي، أو خلط الآداب والثقافات والتراكمات التي جرت لآداب الشعوب والدول التي انبثقت من "الثقافة واللغة اللاتينيتين".

لا صوت واحداً

لقد وصلت المعركة إلى الكاتب نيقولاي غوغول لتأكيد فكرة وحدة الثقافتين الروسية والأوكرانية، وكذلك وحدة الأدبين الروسي والأوكراني. فهل يصح أصلاً أن نتكلم عن الأدب الأوكراني باعتباره صوتاً واحداً، أو عن الأدب الروسي كوحدة واحدة؟ قد يجري الحديث بين المتخصصين عن تقاليد متشابهة أو قريبة بين الآداب، الفرنسي والروسي مثلاً، ولكن أن ننطلق من الأيديولوجي والعرقي والسياسي لتحديد هوية الأدب وغاياته، فنحن أمام مأزق بنيوي ووجودي، وربما أخلاقي بالمعنى الفلسفي، وهل يمكن أن نعتبر غوغول أيقونة أدبية "روسية"، روسياً "قحاً" وممثلاً للأدب والثقافة والعادات والتقاليد الروسية، وهو الذي ولد وتكون عقلياً ووجدانياً وإبداعياً في العاصمة الأوكرانية كييف، وهو أصلاً من أصول بولندية- أوكرانية؟

هناك معركة أيديولوجية- سياسية في شأن نسبة أدب نيقولاي غوغول إلى روسيا أم إلى أوكرانيا. وهناك تيارات متباينة في أوكرانيا كما هو الحال في روسيا، ذات توجهات قومية تدعي أن هذه القطعة من العالم كتلة واحدة، وهناك تيارات أخرى تقول العكس. وفي المدى الأوسع نجد أن المناوشات الفكرية والثقافية موجودة طوال الوقت بين الكتاب الروس وبعضهم، وبين الكتاب والمثقفين الأوكرانيين وبعضهم، وبين الروس والأوكرانيين أيضاً، لكن النقطة الأخيرة تتوقف عند حدود الجدال والنقاش والتقارب، انطلاقاً من الوظائف والغايات في الثقافة والفكر والإبداع بكل مساراته، بعيداً من فكرة وحدة التاريخ والأدب التي يتم توظيفها سياسياً من الجانب الأقوى والأعلى صوتاً وهو الجانب الروسي.

في الحقيقة، لا يمكن إنكار أو تجاهل التأثير والهيمنة القويين للفكر والثقافة الروسيين في فترة الاتحاد السوفياتي، وكذلك هيمنة "الدولة السوفياتية" على دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفياتي السابق، وفرض اللغة الروسية على هذه الدول كلغة رسمية للتعليم في المدارس والتعاملات الحكومية. وعلى الصعيد الأدبي فإن تقديم أي عمل أدبي من هذه الدول كان لا بد أن يتم عبر اللغة الروسية، ومنها إلى بقية دول العالم. وقد حدث ذلك بدرجة كبيرة مع آداب جمهوريات الاتحاد السوفياتي وثقافاتها، وبدرجة أقل مع دول حلف وارسو في أوروبا الشرقية.

ضعف المفاصل الروسية

بعد أن دب الضعف في مفاصل الاتحاد السوفياتي السابق في ستينيات القرن العشرين ظهرت أجيال تنتمي إلى التراث المحلي، بعيداً من عباءة الأدب والثقافة الروسيين عرفها العالم مترجمة مباشرة عن اللغات الأم مثل كتابات الكاتب ميلان كونديرا من تشيكوسلوفاكيا، وجنكيز أيتماتوف من قيرغيزستان وغيرهم. وكذلك من أوكرانيا مثل أندريه كوركوف وهو من مواليد مطلع الستينيات، ترجمت كتاباته لأكثر من 35 لغة. وأيضاً الكاتبة ماريا ماتيوس التي تنتمي إلى الجيل نفسه. ومن أشهر رواياتها "دروسية حلوة" التي صدرت عام 2003، وتعتبر من أهم روايات الأدب الأوكراني الحديث، وتناقش هذه الكتابات الحياة العامة، والمرارة الشديدة تجاه الوصاية الروسية على الثقافة وكل مناحي الإبداع المعرفي في أوكرانيا.

في الحقيقة، لم تعد روسيا هي "الأم الرؤوم" أو حتى الدولة "الإمبريالية" التي كانت تهيمن على هذه الدول، فقد ظهرت نخب فكرية في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت عباءة حلف وارسو، ومن ضمنها أوكرانيا. هذه النخب اشتبكت وما زالت تشتبك مع "الخطاب" الروسي الملتوي والمهيمن عبر إبداعات سردية وشعرية وعبر دراسات وكتب في الفكر والتاريخ، ومن خلال مقالات وأبحاث. ومنها على سبيل المثال، مقالات الكاتب أندريه كوركوف الذي سخر من خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن فيه الاعتراف بانفصال إقليمي دونيتسك ولوغانسك. وقد قدم كوركوف نقداً لاذعاً للمغالطات التاريخية التي تضمنها خطاب الرئيس بوتين، الذي أنكر فيه أي وجود لأوكرانيا قبل عشرينيات القرن العشرين مع أن كييف تاريخياً أقدم من روسيا ذاتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الكتاب والمثقفين الأوكرانيين في واقع الأمر وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، لم يعودوا مقيدين أو مرتبطين بمركز ثقافي ثابت على الرغم من أن مفكري الاتحاد السوفياتي الأيديولوجيين حاولوا طوال 70 عاماً إنشاء "مركزية روسية" لمقارعة "المركزية الأوروبية"، ولسوء الحظ، أو لحسنه، كانت روسيا وأدبها وثقافتها تدور أيضاً في فلك المركزية الأوروبية بتفرعاتها ومساراتها وتجلياتها، ولكن من بعيد، من عند ذلك الهامش الذي تحافظ عليه روسيا من أجل الحفاظ على "خصوصيتها". والآن، لم يعد الكاتب أو المثقف الأوكراني أو غيره بحاجة إلى أن يقدم إبداعاته وجهوده الفكرية والثقافية عبر "المركز الثقافي الروسي" ليصل إلى أوروبا وأميركا والدول الاسكندنافية ودول البلطيق، وربما كان مجيء الإنترنت عموماً ووسائل التواصل الاجتماعي والنشر الرقمي على وجه الخصوص، درجة أخرى من درجات التحرر للوصول إلى كل الأماكن وبكل اللغات.

هناك أجيال في أوكرانيا، وفي غيرها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو تربت بعيداً من الوصاية الروسية، وباتت قادرة على نقد الادعاءات الروسية وتفنيدها ورفضها، سعياً للسيطرة والهيمنة. وفي الواقع، فقد صار العالم أكثر انفتاحاً ومرونة وتعددية أمام الكتاب والمثقفين الأوكرانيين الذين لم يعودوا فعلاً مجبرين على أن "يتربوا" على "الثقافة المركزية الروسية"، ولم تعد التيارات والنزعات الأدبية الأوكرانية مقيدة لا بالتوجهات السوفياتية السابقة، ولا بما يشاع عن ارتباطها بالأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ولا بالتوجهات "المركزية أو الأيديولوجية الروسية". لقد أصبحت الثقافة والآداب الأوكرانية أكثر تنوعاً وتعددية وتناغماً مع العالم المحيط والقريب، ومع الدوائر الأبعد من التناغم الإنساني العام، عبر تعدد الأصوات والتيارات في داخل الثقافة الأوكرانية نفسها.

واتضح أنه على الرغم من سيطرة "الفكرة السوفياتية- الروسية" وفرض اللغة الروسية كلغة رسمية للمعاملات طوال سبعين عاماً، فإن كل ذلك لم يستطع تسييد روسيا كلياً وفي جميع المجالات، أو إلغاء ثقافات هذه الدول والجمهوريات والإبقاء على تبعيتها لـ"المركزية الروسية" الوهمية التي انهارت عملياً قبل انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة