Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هاجسا موتسارت منذ بداياته: تزعم فن المسرح الغنائي وتجاوز أباه

هل علينا في نهاية الأمر اعتباره أعظم ملحن للأعمال الأوبرالية في التاريخ؟

"دون جيوفاني" مشهد من آخر أوبرات موتسارت وأقساها (موقع الأوبرا)

من المعروف في تاريخ الموسيقى المسماة عادة كلاسيكية، أن وولفغانغ أماديوس موتسارت (1756 – 1791) كان من أغزر الموسيقيين إنتاجاً كما أن إنتاجه كان الأكثر تنوعاً. فهو مثلاً على عكس زملائه من كبار ملحني الأوبرا في القرون الثلاثة الماضية خاض كل الأنواع الموسيقية من أوركسترالية، وسيمفونيات (أكثر من أربعين سيمفونية كبيرة)، وكونشرتات وموسيقى الحجرة، وغنائية بحيث يربو عدد الأوبرات التي لحنها على العشرين... وكل هذا خلال فترة زمانية قياسية بقصرها. فهو رحل عن عالمنا وبالكاد متجاوزاً الخامسة والثلاثين أي في سن يمكن أن تشهد بداية كثر من الموسيقيين لا نهايتهم. صحيح أنه بدأ حياته الموسيقية باكراً جداً ولكن كعازف على آلات كثيرة راح يتقنها واحدة بعد الأخرى، وأحياناً مع بعضها بعضاً وهو بين الرابعة والخامسة، وصحيح أن أباه كان دائماً يحتضنه ويرعاه بشكل مكثف، غير أن الفتى عُرف منذ البداية بطموحه الكبير. بل بما يشبه قراراً اتخذه وهو بعد في سن المراهقة بأن يصبح أكبر ملحن للأوبرا في تاريخ هذا الفن. وهو كان في العشرين حين أخبر أباه بذلك. فهل يمكننا أن نقول أنه خلال الخمس عشرة سنة التالية التي عاشها قد حقق حلمه وبات من حقه علينا أن نحسبه صاحب المرتبة الأولى في تلحين الأوبرا متفوقاً حتى على القطبين الأعظم في هذا الفن: الألماني ريتشارد فاغنر والإيطالي جوزيبي فردي؟

بين الأب والابن

قبل سنوات عديدة من الآن وتحديداً لمناسبة الاحتفالات العالمية بالذكرى 250 لولادة موتسارت طرح كثر هذا السؤال وصدرت دراسات كثيرة حول الموضوع. ومع ذلك لم يحسم الجدل حول المسألة وظل الاسمان المشعان الأبرز فاغنر وفردي يشغلان المكانة الأولى مناصفة غالباً، بخاصة أنه من المعروف أن كلاً منهما لم "يضيع" وقته أو طاقاته في الدنو من أنواع فنية أخرى كثيرة خارج اهتمامهما الأوبرالي. ولكن على الرغم من هذا لم تخفت الأصوات المطالبة لموتسارت بالترتيب الأول متحججة بعديد من الدلائل. ولقد أدى هذا على الدوام إلى إعادة فتح الملف بدءاً في معظم الأحيان من تلك الرسالة التي بعث بها الفتى العشريني الذي كانه موتسارت عام 1776 إلى أبيه الذي تخلف في سالزبورغ عن تلك السفرة التي قام بها الفتى إلى باريس بصحبة أمه. يومها، رداً عل سؤال كان الأب قد طرحه على ابنه حول حال معنوياته أجابه بأنها مرتفعة مستطرداً، "ولكن لا تنس يا والدي أن رغبتي الأولى والأخيرة هي أن أكتب أوبرات بنفسي. فأنا بعد كل شيء أغار كثيراً من أي شخص يلحن أوبرا، فتلحين الأوبرات هو سعادتي وشغفي الكبيران! صدقني حين أقول لك إنني أذرف مدراراً من الدموع حين أستمع أو أشاهد غناء أوبرالياً!". والحقيقة أن الفتى العشريني كتب تلك العبارات موجهة إلى أبيه لأنه كان يعرف معارضة أبيه لخوضه هذا النوع من الفن. فهو فن لا يدر ربحاً كثيراً ويتطلب وقتاً، وخير للفتى أن ينتج بسرعة ليعيش بشكل أفضل.

 

حماية فائضة

 ربما يكمن في هذا الموقف جزء من العداء الذي ظل بشكل ما مستحكماً بين وولفغانغ وأبيه ليوبولد الذي كان يريد له الخير كل الخير على أية حال. لكنها كانت حماية تفيض في رأي الابن عن حاجته وتكاد تشكل سداً في دربه! ولعل في هذا الشعور يكمن جزء من المواقف التي يمكن رصدها في عدد من أوبرات كتبها موتسارت لاحقاً وصارت من تراث البشرية أسوة بمسرحيات شكسبير وموليير، لكنها ستتميز دائماً بذلك البعد الذاتي الذي لا يمكن إلا رصده والتوقف عنده. بعد يميز على أية حال عدداً كبيراً من أوبرات موتسارت عن نتاجات زميليه الكبيرين فاغنر وفيردي. بل ربما عن معظم النتاجات الأوبرالية الأخرى التي علمت هذا الفن منذ مونتيفردي وحتى نهايات القرن التاسع عشر. فموتسارت كفنان حقيقي ومفكر داهية في الوقت نفسه، عرف كيف يستخدم انغماسه في فن الأوبرا كوسيلة يمكن أن نقول عنها بلغة اليوم إنها "أيديولوجية". وهو أمر لم يكن في مقدور إنتاجاته الموسيقية الأخرى التعبير عنه بما في ذلك القداس "العجائبي" الذي ختم به حياته وربما يكون قد ألفه لحساب "الماسونيين" الذين انتمى إليهم باكراً في حياته واستخلص من تعاليمهم وممارساتهم تلك "الفكرانية" التي وسمت نتاجاته الأوبرالية بخاصة.

ثأر اللحظات الأخيرة

بيد أن علينا أن نستثني من ذلك التأثير الأيديولوجي للماسونيين موقف موتسارت من "الأب" سواء كان هذا الأب أباه أو أي أب آخر. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن الموقف السلبي من الأب رافق أوبرات موتسارت الأساسية بدءاً بأول أوبرا كبيرة كتبها أي أوبرا "إيدومينو" التي قدمها للمرة الأولى في ميونيخ لمناسبة عيد مولده الـ 25، وصولاً إلى عمله الأوبرالي الأخير "دون جيوفاني" الذي من الواضح أنه كتبه بكل ذلك العنف والجبروت متأثراً بموت أبيه، لكنه لم يتمكن من أن يبتعد عن تصوير هذا الأب الشبح بصورة الوحش المدمر في مشهد يعتبره كثر أروع مشهد أوبرالي في تاريخ الفن. ولنشر هنا إلى أن ذلك الموقف السلبي بصورة إجمالية تجاه فكرة الأب نفسها التي يجب أن نوضح هنا أن لاعلاقة لها بالعقدة الأوديبية التي سـ"يكتشفها" فرويد بعد ذلك بزمن طويل، ربما يكون موتسارت قد عبر عنه بالشكل الأوضح والأقسى في أوبراه الأولى التي يدور موضوعها من حول منافسة مدمرة بين أب (هو إيدوميني ملك كريت) وابنه (إيدامانتي)، وكان صراعاً لم تفت دلالته على ليوبولد الذي كاتب ابنه حول الأمر، لكنه لم يتمكن من إقناعه بمحو ذلك الموضوع من ذهنه. ومن هنا نجد الصراع بين الأب والابن (ودائماً من منظور الابن)  حاضراً في مواضيع معظم أوبراته! وقد يكون من المفيد هنا أن نلاحظ أن كثراً لا سيما في الأوساط الماسونية أعربوا ذات لحظة أو أخرى لموتسارت عن عدم رضاهم عن التعامل مع الأب من هذا المنطلق فكان يعدهم بالتخفيف ثم لا يفعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العفو والتسامح

لكنه في المقابل كان يلفت نظر منتقديه إلى أمر كان يراه، وعن حق بالغ الأهمية في "فكرانية" أعماله الأوبرالية. ويتعلق بموضوعة التسامح التي كانت من بين شعارات الماسونيين المعلنة. فالحقيقة أن مراجعة فكرية لحضور التسامح في الفكر الموتسارتي. وهي مراجعة قام بها كثر من الباحثين لا سيما إبان احتفالات الذكرى 250 لولادة موتسارت عام 2006 (وكانت مناسبة لتقديم عدد كبير من أعماله في شتى المدن الأوروبية لا سيما منها فيينا وبرلين وميونيخ وباريس)، وبينت لا سيما بقلم الناقد الفرنسي جيل ماكاسار، كيف أن موضوعة التسامح وما يتفرع عنها من رحمة وقبول بالآخر وعفو وتسوية غير مؤذية، تهيمن على كثير من المواقف الأساسية في عدد كبير من أوبراته. فبدءاً مثلاً من "رحمة تيتوس" إلى العفو عن المتآمرين ضد الطاغية سيللا، ومسامحة الباشا التركي سليم للهاربين من السراي في "خطف في السراي"، ومسامحة الكونتيسا آلمافيفا لزوجها زير النساء في "زواج فيغارو"، والعفو الاعتذاري الذي يطالب به الفونسو في أوبرا "هكذا يفعلن جميعاً"، وصولاً إلى رحمة ساراسترو تجاه تامينو وبامينا اللذين كانت آلهة الشر قد حرضتهما في "الناي السحري"... كلها مشاهد ومواقف أساسية تكشف عن توجه إجمالي نحو العفو والتسامح، غلبت على أجواء أوبرات موتسارت لا سيما على نهاياتها. ولكن مع استثناء وحيد، يقول لنا الباحث ماكاسار، هذا العفو يغيب تماماً في ختام "دون جيوفاني" أوبرا موتسارت الأخيرة التي وحدها لا تختتم على تلك الممارسة النبيلة التي يرى علماء النفس أنها تحرر المسامح نفسه أكثر مما تحرر المسامَح، ما يضعنا في النهاية أمام تلك الذاتية الموتسارتية التي أبت في نهاية المطاف إلا أن تعبر عن ذاتها ولو رغماً عن الموسيقي العبقري نفسه!

المزيد من ثقافة