Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علاقة مد وجزر بين أبناء المدن البحرية وواجهاتها الاسمنتية

مجتمع جديد لا قواسم مشتركة بينه وبين محبي طقوس البحر البسيطة

لطالما ارتبط البحر بالجلسات البسيطة والمساحات المشتركة وعربات الأطعمة الشعبية (موقع ان سبلاش)

لطالما أسرت قلوبنا الصور الساحلية القديمة، تلك التي يظهر فيها البحر ممتداً باتساع لا يدرَك، ينساب الأفق في آخره ويلحظ مده بسهولة، هذه صورة البحر المكتملة الرؤية التي لا اجتزاء فيها، ولا شريك في الصورة سوى بناء خدمي كمقهى بحري صغير أو مطعم شعبي أو فندق صغير، ومع ذلك كان البحر مكشوفاً تماماً حتى مع اختلاف المنظور الذي تلتقط منه الصورة، فالبحر والشاطئ والرصيف تندمج معاً في وحدة تشكل هوية مدينتهم، وكأن البحر جار سكان المدينة التي يغمر حدودها المائية، وكان هذا المشهد بحد ذاته رفاهية كاملة لا تحتاج إضافات وتنميقات حضارية.
وحتى جيل الكورنيش البحري عندما رُدم البحر ورُصف الشاطئ على امتداده وخُصص لعمليات النقل والبضائع وما يتبعها من مستلزمات الميناء، لم يحرَم كلياً من هذه المتعة ولو كانت متجزئة بعض الشيء.

ولكن هل ما زالت شواطئ البحار مفتوحة للجميع؟ وهل ما زال لأبناء المدن الساحلية المشاعر نفسها تجاه البحر؟

البحر للجميع

ولطالما ارتبط البحر بالجلسات البسيطة والمساحات المشتركة وعربات الأطعمة الشعبية مثل الفول والذرة والترمس وغيرها، وشكلت هذه التفاصيل الصغيرة وغيرها ذاكرة أبناء البحر ومرتاديه، بغض النظر عن دخلهم أو مستواهم الاجتماعي، وهذه الذاكرة لا تخص بلداً أو مدينة، بل يشترك في هذه الهواجس سكان البحر ومرتادوه المخلصون بشكل عام، فقد كان البحر للجميع... الجميع حرفياً، إذ لا تحتاج لأي حجوزات خاصة أو موعد مسبق لكي تلتقي صديقك الأزرق محبوب الأغلبية، فهو المضيف الوحيد تقريباً الذي لن يستقبلك بناءً على حجم حسابك المصرفي أو نوع سيارتك أو موقع منزلك، لا أحد يدير علاقتك معه، لا أحد يتحكم بمرات الزيارة وموعدها ومدتها وتفاصيلها، ولا يد باستثناء الطبيعة تشكل رماله أو تقيد مده.
وبين البحر وسكان المدن الساحلية علاقة استثنائية، فأمواجه أثرت على صراعاتهم الداخلية ونظمت انفعالاتهم، وهدوءه طُبع على ملامحهم، وكانت ثماره مصدر غذائهم الرئيس وباب رزقهم، وأعشابه سماد محصولاتهم، ومستخرجاته أصل علاجاتهم، ويوده ومعادنه سر قوتهم البدنية وصحة أجسادهم، فأبناء البحر لا يجوعون وقليلاً ما يمرضون، وحتى في زمن القضايا البيئية الكبرى شكّل ارتفاع درجات الحرارة المتزايدة هاجساً إلا عند أبناء البحر، فالبحر مكيفهم الطبيعي والمجاني بطبيعة الحال.

أكسجين خاص

تجد جون أندرسون مؤلفة رواية "نزهة على الشاطئ" أن الشاطئ هو المنزل فعلاً، فمداه الواسع ترحيبي مثل ذراعي الأم، فسكان المدن البحرية محظوظون فعلاً، يحيط بهم مكان لا يشعرون فيه بالانفصال عن منازلهم، يمدهم بأكسجينهم الخاص ويمثل ملاذهم قبل وبعد يوم عمل طويل، وهذا الكلام الوجداني تدعمه مئات الأبحاث والدراسات واستطلاعات الرأي الصحية منها والاجتماعية والنفسية، فقد بينت الدراسات أن الذين يعيشون في مدن مطلة على الساحل يتمتعون بصحة بدنية ونفسية أفضل من أولئك الذين يعيشون في أماكن أبعد، كما يشعر الذين يعيشون في منازل ذات إطلالات بحرية بهدوء أكبر.
وفي مقال نُشر في صحيفة "الغارديان"، حدد الدكتور ماثيو وايت عالم النفس البيئي أن هناك عوامل رئيسة تربط بين الحياة الساحلية والرفاهية، فغالباً ما تكون البيئات الساحلية ذات جودة أعلى بشكل عام بسبب الانفتاح على ضوء الشمس والهواء الأقل تلوثاً، كما يغلب على أحوال الذين يعيشون بجوار الماء النشاط والحيوية، والأهم والأكثر إثارة للاهتمام أن للماء "تأثيراً علاجياً نفسياً"، حيث يرتبط الوقت الذي نقضيه في الماء بالمزاج الإيجابي والبعد عن السلبية والتوتر.
إذاً هي علاقة خاصة روحية عميقة شفائية، تحقق توزاناً مذهلاً في ظل الصخب والفوضى، وتبعد عن الاضطرابات النفسية، وهذا ما تثبته الكثير من الإحصائيات الأخيرة، واحد منها استطلاع يبحث حول الصحة النفسية لسكان الكورنيش البحري، أجرته شبكة "كورنوال" Cornwall المتخصصة في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية، إذ أكد بالأرقام ارتفاع نسبة القلق والاكتئاب خلال فترة الإغلاق والحجر الصحي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ماذا حدث اليوم؟

لكن ما نشهده اليوم من زحف المشاريع التجارية من مطاعم وفنادق وحجب البحر تماماً، يكاد يكون خانقاً للبعض ممَن أثرى ذاكرتهم وحواسهم هذا الانفتاح اللامتناهي مع الطبيعة وأهم عنصر من عناصرها بمائه وسمائه ورماله، فهذه الآلاف من الكيلومترات الشاطئية أغرت الطموحات السياحية لإقامة مشاريع ترفيهية، تساهم في تطوير الواجهات البحرية والعمران بشكل عام، وفي جذب الأنظار الخارجية إلى المدن الساحلية، ولا يخطئ ذوو الطموحات التجارية عندما يقولون أن ما يحدث لا بد أن يحدث، وأن هذا التغيير هو جزء من الفكر المعماري الذي لا بد أن يتطور مع الزمن، وهذا يحدث في أكثر بلدان العالم تطوراً، وأنه على الرغم من هذا الاجتياح الواضح، إلا أنه ما زال هنالك الكثير من المساحات التي يستطيع محبو الطبيعة البكر قصدها، ولو كانت أبعد قليلاً أحياناً، وكثيراً أحياناً أخرى عن المدن.
وحتى أن كثيراً من المنحازين لهذا النوع من المشاريع والمتناوبين على حجوزات الفنادق والمطاعم الفاخرة المطلة مباشرةً على البحر، يصفونها بأنها حالة متطورة ترتقي بهم وتتسق مع حالتهم الاجتماعية وتوفر لهم بديلاً عوضاً عن الذهاب للسياحة خارج بلدانهم، وهم محقون بطبيعة الحال، وهذا لاري بيج شريك في تأسيس شركة غوغل يقول "كان المال هو الدافع وراء عملنا، لكننا بعنا الشركة منذ فترة طويلة، وانتهى بنا المطاف على الشاطئ."
ولكن من جهة أخرى، تشير نتائج بحث استقصائي لمجلة "هيلث اند بلايس" Health and Place  إلى أن الأشخاص المنتمين للأسر الفقيرة التي تعيش بالقرب من الساحل يعانون من أعراض أقل للاضطرابات النفسية، إذ يمكن أن تلعب هذه المنطقة "الوقائية" دوراً مفيداً في المساعدة على تكافؤ الفرص بين ذوي الدخل المرتفع والمنخفض، وهذا النوع من الأبحاث مشجع ومقنع للحكومات لحماية وتشجيع استخدام المساحات الساحلية من قبل السكان، وربما يحتاج من قبل صانعي السياسات تعظيم فوائد الرفاهية للمساحات الزرقاء في البلدات والمدن والتأكد من أن الوصول عادل وشامل للجميع، مع عدم الإضرار ببيئاتنا الساحلية الهشة.

حياة حالمة

وفي هذا السياق، تتصاعد أسئلة أخرى من نوع: هل يجب أن تتحول الحياة كلها إلى تجارة من جهة وإرضاء لفئة معينة من جهة أخرى؟
ألا يستحق الغالبية من سكان المدن اهتماماً ما أسوةً بالسياح والسعي إلى الجذب الخارجي؟
ألا يحق لبعض الحالمين بحياة بسيطة زاهدة وحالمة على نحو مختلف، بعيداً من المال والممتلكات المادية، أن يختاروا تفاصيل هذه الحياة داخل أوطانهم وضمن بيئة طبيعية أكثر استقبالاً وانفتاحاً وحرية، وبعيداً من تعقيدات الأنظمة التجارية الصغيرة منها أم الكبيرة وتعقيداتها وإجراءاتها الروتينية؟
الحقيقة أن هذه الهوية الجديدة وتطبيقاتها كوّنت فاصلاً صلباً بين البحر والمجتمع المحلي الأصلي، وزرعت مجتمعاً جديداً دخيلاً، لا قواسم مشتركة بينه وبين محبي الطقوس البحرية البسيطة الحسية والمباشرة، فالأكيد أن هذه المشاهد وتبعاتها قلصت طريقة تعاطي الغالبية من العامة مع بحرهم، وأضعفت رابط الانتماء معه، فابن الأرض الأكثر التصاقاً بعناصرها الطبيعية واحتكاكاً بترابها ومائها وهوائها، الذي لم يعزله يوماً تكييف منزله أو سيارته عن هوائها، ولم تعزله الشاليهات الفاخرة ومقاعد المطاعم وأجنحة الفنادق عن بحرها، ولم تعزله أرض أو حذاء فاخر عن ترابها ورمالها، يكاد اليوم ينقطع هذا الحبل السري بينه وبينها.
وربما تسمية الحبل السري هنا دقيقة وكاشفة لنوع العلاقة، وهنا تنشأ تساؤلات جدلية، أليس من المهم ألا نلتصق أحياناً لهذه الدرجة بأوطاننا؟ ألا نتلامس معها حد التعلق المعيق والمحد للطموح؟ ربما علاقة كهذه لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل البدائي في عصر التطورات المتلاحقة، تماماً كما علاقة الأم بوليدها، إذ لا بد من القطع البيولوجي لينطلق الطفل إلى الحياة.
وأخيراً، ثمة عبارة ما يزال يتردد صداها داخل صخور البحار أننا نحن محبو البحر وسكان مدينته الزرقاء لا نمل ننظر إليه، فيحضننا سراً وعلناً قولاً وفعلاً واقعاً وخيالاً، شكلتنا رائحته، واتساعه أغنى مخيلتنا، ورسم لنا مساراً نحو السمو، ودبغت زرقة أمواجه طابعاً إبداعياً في مخيلتنا، فصنع منا رسامين وفنانين ومبدعين في مختلف المجالات.

المزيد من منوعات