Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيار لوتي البحار الفرنسي الذي انغمس في الشرق

دافع عن القضية المصرية ضد أوروبا والإنجليز وغالى في تأييد الأتراك

بيار لوتي في حفلة تصوير بالملابس العربية (غيتي)

كان بيار لوتي في ذلك الحين، أي عند المرحلة الزمنية الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، واحداً من أنجح الكتاب في فرنسا. فذلك البحار الأفّاق الذي كتب ألوف الصفحات عن مغامراته وحياته ومشاهداته في البلدان العديدة والمناطق الأكثر غرابة المنتشرة حول العالم التي كان يتجول فيها على متن سفن تجارية وأحيانا سفن حربية، عرف كيف يجتذب قراءه بقدرته على المزج بين الواقع والخيال في نصوص جعلتهم في حيرة من أمرهم، يتساءلون عما إذا كانت تتحدث عما وقع له حقاً، أو عما يتخيل وقوعه. تماماً كما عرف كيف يجتذبهم بما أبدعه من روايات عن مغامرات وغراميات له متخيلة في معظم الأحيان، لكنه غالباً ما يموضعها في أكثر المناطق غرابة وفتنة، لا سيما في الجزر النائية كما في المناطق الشرقية وبخاصة في إسطنبول التي وقع في هواها كما في هوى نسائها، حتى وإن كانت كتاباته الأولى تنضح بعداء مستحكم للأتراك في المجال السياسي، سوف يتخلى عنه لاحقاً لأسباب سنشير إليها بعد سطور.

في حلقة جولييت آدم

أما بالنسبة إلى المرحلة الأولى من حياته ومساره الكتابي، فإننا سنتناول اهتمامه بالقضايا العربية من خلال حضوره حين يكون في باريس جلسات الصالون الاشتراكي الذي كانت تتزعمه الكاتبة والمناضلة التقدمية الفرنسية جولييت آدم، التي عرّفته بخاصة على الزعيم المصري مصطفى كامل الذي كان لا يتوقف عن زيارة باريس والتجوال في أوروبا للتعريف بالقضية المصرية التي تبناها لوتي تماماً، واجتذبته إلى زيارة مصر مرات عديدة منها مرة قادته إلى الجنوب حيث شهد الاحتفالات ببدء عمل سد أسوان الأول، من ناحية، كما جعلته يكتشف منطقة فيلة التي كان مآلها أن غمرتها مياه السد مرة أولى حين افتتح سد أسوان ومرة ثانية بعد أكثر من نصف قرن.

موت فيلة قبل إحيائها

ولئن كان لوتي قد وضع عن المرة الأولى كتابه البديع "موت فيلة" الذي شكل ذروة اهتمامه بمصر وشؤونها وشجونها، فإنه لم يكن على قيد الحياة طبعاً في المرة الثانية، في ستينيات القرن العشرين حين نقلت معابد فيلة كلها تحت إشراف منظمة اليونسكو إلى مكان عال جنّبها الغرق، في أعظم عملية حضارية نفذتها اليونسكو حتى ذلك الحين. والحقيقة أنه لو كان لوتي بيننا لراقته تلك العملية ووضع عنها كتاباً كان من شأنه أن يعنونه "إحياء فيلة"، لكنه كان قد مات منذ عقود تاركاً أثراً طيباً في الربوع المصرية، حتى وإن سيكتشف كثر من قارئيه بعد ذلك أن القضية المصرية كانت في رأيه "ضد الإنجليز" لا "ضد الأتراك" فهو، في المرحلة الأخيرة على الأقل، من حياته كان قد ناصر الأتراك، ظالمين أو مظلومين، إلى درجة أنه غفر لهم حتى أوحش جرائمهم، وقد بات يرى أن غرائبيتهم وشرقيتهم تبرران ما يفعلونه.

هذا النصير المزعج

مما لا شك فيه أنه لئن كان القراء العرب لم يبالوا كثيراً بتلك المواقف التي وقفها لوتي، معتبرين وقوفه ضد الفرنسيين والمحتلين الإنجليز كافياً لاعتباره نصيراً قوياً، وصداقته لمصطفى كامل ذريعة قوية تبرر إقبالهم على ترجمة كتبه وقراءتها، وهو يتباهى بالصور تلتقط له بملابس بدوية أو شرقية ووسط ديكورات تجعله وكأنه آت من الشرق العميق، لا شك أن الأرمن لن يغفروا له أبداً انخراطه في المعارك التركية ضدهم خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، ولو بالسلاح الوحيد الذي كان يملكه (القلم). فهو حينها وعلى الضد من الرأي العام الفرنسي والأوروبي، اعتبر العثمانيين "محقين" في تنكيلهم بالأرمن وغيرهم من الشعوب التي نكلوا بها. ومع ذلك وضع كثر ذلك الموقف الذي أثار سخطاً على لوتي، في خانة غراباته وسلوكه كل سلوك استفزازي يمكنه به أن يغيظ أبناء جلدته الفرنسييبن. فلئن كانت مواقفه تلك تبدو مستهجنة في ذلك الحين، فإنها لم تكن مستغربة من قبل ذلك الكاتب ذي الأطوار الغريبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خالف تُعرف

ففرنسا كلها كانت تعرف يومها أن بيار لوتي، إلى جانب غلوّه في تأييد الأتراك، كان من ذلك الصنف من الناس الذين لا يرتاح لهم بال إن لم يتفردوا في مواقفهم ولو على الضد من أي حس سليم، بل يعبروا عن أشد المواقف غرابة واستفزازاً حين يجابهون مواقف ثمة إجماع عليها. ومن هنا كان من الواضح أن مقدار الاستفزاز وتعمّد الغرابة في كتاباته حينها لم يكن من شأنه أن يجعل أحداً يحمله على محمل الجد. ومع هذا كان الناس يعرفون جميعاً كيف أن الرجل عيّن نفسه ناطقاً باسم الأتراك في طول أوروبا وعرضها. بل ناطقاً باسم كل غرابة تقف على الضد مما يفكر فيه الأوروبيون. ونعرف أنه استخدم موهبته الكتابية التي لا شك فيها، إنما دون أن تجعل منه كاتباً من الصف الأول، لخدمة كل أنواع الغرابة التي يتمسك بها، والشذوذ الذي يشكل جزءاً من سلوكه ليخدم ما كان يريده "تفرداً" في أي مجال من المجالات.

واحد من "الحمقى النافعين"

وفي هذا الإطار مثّل لوتي، بالنسبة إلى الأتراك ما كان لينين يسميه بصدد حديثه عن أولئك المثقفين والكتّاب الغربيين الذين ساندوه وساندوا نظامه، على الرغم من كل شيء، صفة "الحمقى النافعين". ومن هنا تمسّك الأتراك بلوتي مترجمين رواياته وكتاباته الأخرى إلى لغتهم ومعظم تلك الكتابات كان، على أية حال، روايات يصف فيها غرامياته في تركيا وحبه للتركيات، والأتراك سواء بسواء، وكذلك مغامرات يعيشها في بلاد خارج بلده الفرنسي الأصلي معبّراً فيها عن كراهيته لنمط عيش فرنسي محدد وتعلقه بأية غرابة يتلمسها في الخارج. وهكذا من روايته الكبرى "آزياده" إلى "زواج لوتي" إلى "الخائبات" و"آخر أيام بكين" و"حكاية سباعي" وحتى "رامونتشو" و"أخي إيف"، عرف لوتي كيف يتمسك بالغرائبيات والحكايات العجيبة، ما جعل له قراءً كثراً في فرنسا وربما أوروبا أيضاً، يعجبهم ذلك الصنف من المواضيع حتى وإن لم يعجَبوا بمواقفه السياسية. ناهيك بأن ألوف الصفحات التي دبجها في أدب الرحلات عرفت هي الأخرى كيف تجتذب أنواعاً معينة من القراء.

منسيّ في بلاده

ولئن كان الأتراك قد وجدوا في مواقف بيار لوتي (1850 – 1923) السياسية المؤيدة لهم على طول الخط، ما أطربهم، فإنهم في المقابل وجدوا في رواياته ما يسليهم، بل ما يشكل دعاية "سياحية" لبلادهم، ومساندة لهم ضد الشعوب المحيطة بهم إلى درجة أن السائح في إسطنبول اليوم يمكنه، أن يجد عشرات المواقع من فنادق ومتاحف وساحات وأندية تحمل كلها اسم بيار لوتي في وقت يبدو ان الفرنسيين نسوه تماماً!. هو الذي كان في المقابل مكروهاً من الروس واليونانيين والأرمن وكل الشعوب التي كانت على خصام مع الأتراك. ومن البديهي القول هنا أن ذلك الموقف الذي كان ولا يزال يبدو موقفاً شاذاً في فرنسا وأوروبا، جعل الأتراك يبادلونه التحية بأفضل منها. فهم إلى كونهم ترجموا لوتي وقرأوه، غفروا له ما كان قد سبق له أن أبداه من مواقف "معادية" لهم ومؤيدة لنضالات التحرر الوطني، لا سيما التي كان يخوضها العرب والمصريون، هو الذي كان عند بداية القرن وكما أشرنا، صديقاً لمصطفى كامل، زعيم الحركة التحررية المصرية، بدفع من المناضلة الاشتراكية الفرنسية السيدة جولييت آدم. غير أن ذلك كله كان قد صار جزءاً من التاريخ يوم وقف لوتي مع الأتراك منافحاً عن ذبحم الأرمن، متهماً هؤلاء بالعمالة للروس كما فعل بالنسبة إلى اليونانيين. وهو ما لم يغفره له لا الأرمن ولا اليونانيون حتى اليوم.

المزيد من ثقافة